التاريخ لايفيد (12) .. آخر الحملات الصليبية علي المنطقة الإسلامية المركزية
التاريخ لايفيد (12)
(صفحات من كتاب مصطفى حامد “التاريخ لايفيد” – قيد الإعداد)
إسرائيل: آخر الحملات الصليبية علي المنطقة الإسلامية المركزية
وخلاصة تجارب الحروب الصليبية للألمان والفرنسيين.
أثبتت الحروب الصليبية علي بلاد الشام أهمية الأسطول وخطورة دوره في نقل القوات بمرونة كبيرة من أوروبا إلي الشواطئ العربية ومواصلة الأمداد بالأطعمة والمعدات والرجال .
وقد استخدم الألمان الأسطول ببراعة كبيرة في عملياتهم التكتيكية في الشام ضد صلاح الدين. فصارت لهم الكفة العليا في القتال لولا أنهم تخلوا عن بعض المزايا التي رافقت عملهم في البداية .
مثلا : أتبع الألمان أسلوب الهجمات الخاطفة بقوات كبيرة. وتجاهلوا الخبرة الفرنسية في ضرب العدو من الداخل وإشعال الحروب بين الممالك الإسلامية المتنافسة عبر تحالفات متنقلة ومؤقتة معها بهدف ضمان إستمرارية الحرب، ذلك مع التوسع التدريجي للمستعمرات علي حساب المسلمين المجاورين لها ومهاجمة القوافل وصادرتها.
وكأن الألمان أرادوا السير علي نهج صلاح الدين بأن يستعيدوا بسرعة ما أخذه من الصليبيين من أراضي في الشام في حملته.
ولكن كما كان عمل صلاح الدين متسرعا وبلا جذور عميقة تضمن استمراريته جاء عمل الألمان متسرعا وبلا جذور واختفى سريعا.
الألمان في الحرب الصليبية ضد صلاح الدين
نجاح الألمان الكبير في بداية حربهم الصليبية في الشام والتي تصدي لهم فيها صلاح الدين الأيوبي .
كان يرجع إلي قوة الأسطول الصليبي والمهارة في استخدامه ، وسرعة الأنتقال من ساحة حرب إلي ساحة آخري علي طول سواحل الشام بمرونة غير معهودة لدي جيوش تلك المنطقة والتي أصابها الإرهاق والأمراض في مواجهة الألمان. كما حدث لقوات صلاح الدين و جاء في كتاب السلوك (وقع فيما تبقى معه مرض كثير).
تعلَّم الألمان أن القتال علي الأرض لفترات طويلة يعطي فرصة لظهور عوامل التفوق الإسلامي. فعندما هاجموا بكثافة وقوة علي الأرض علي طريقه الصدمة حققوا تقدما كبيرا كما حدث في حربهم مع السلطان السلجوقي قلج أرسلان .
في بداية الصدمة أنتصر الألمان ولكن عندما تقدموا داخل الأراضي المعادية بدأ وضعهم يسوء. لأنهم انهمكوا في نشاطات الجيوش الشرقية من الحرق والتخريب وجمع الأسلاب والسبايا، فزادت خسائرهم، مع بطء الحركة.
أو كما قال المقريزي (فنى منهم خلق كثير) .
تمادي الألمان في الخطأ وتوجهوا إلي طرطوس علي الساحل السوري يريدون الأنطلاق منها إلي القدس وإسترجاع الأراضي التي استعادها منهم صلاح الدين في حملتهم الأخيرة .
وفي طرطوس مات الأمبراطور الألماني ويبدو أنه لم يتحمل ضغوط المعارك البرية الطويلة وخسائرها وتعقيداتها الشرقية المخيفة .
بعض السلبيات عند صلاح الدين التي حدثت في تلك الظروف أدت إلي بعض الإيجابيات فعندما قل عدد جنوده زادت سرعة تحرك قواته ومرونتها (كما أنتقل برشاقة من عكا التي أضحت بالنسبة له مكانا خطيراً فأنتقل إلي حصن الخروبة المطل علي عكا من فوق ظهر جبل مرتفع ). ورسالته لهم: هذه الحرب لن تنتهي.
وكان الالمان قد طمعوا في قلة عدد الجنود الذين معه وقد ظهر أن في ذلك ميزة أنقذته وقواته من التطويق والهلاك. فعندما أصيب الألمان بغرور القوة وواصلوا المطاردة والحرب الطويلة ظهرت مزايا المسلمين كأصحاب الأرض وملوك القتال البري .
كما جاء في كتاب السلوك (وكان المسلمين معهم حرب أنكسر فيها الفرنج (الألمان) إلي خيامهم (معسكرهم الخلفي) وقتل منهم الآلاف فوهنت قواهم .
غير أن المدد وصل إلي الألمان بالسفن، فنصبوا المجانيق علي عكا وهنا انسحب السلطان صلاح الدين إلي حصن الخروبة المرتفع وهكذا تحول الالمان من حرب الحركة إلي السكون والاحتماء بالمدعية (المجانيق) بينما عاد المسلمون إلي سرعة الحركة والمهارة في استخدام الأرض .
لقد عاد صلاح الدين في ذلك الوقت إلي فطرته القتالية كأسد في جبال كردستان ( وترجمته شيركوه ، وهذا هو اسم عمه).
لهذا أنتصر عليهم بجدارة ، وكما مات امبراطور المانيا الكبير كمدا في طرطوس مات الأبن مقهوراً من هزيمة غير متوقعة وغير مبررة في عكا وانتهت بذلك أسطورة الغزو الصليبي الألماني بهزيمة كاملة .
النتيجة :
الكثير من التجارب تشير إلى أن الفطرة القتالية السليمة تتقدم في الأهمية على العلوم العسكرية (خاصة في الحروب الأقل اعتمادا على التكنولوجيا الحديثة المعقدة فقد بدأ صلاح الدين ينتصرعلى الجيش الألمانى الضخم المغرور في اللحظة التي عاد فيها إلى غريزته المتوارثة كمقاتل جبلى عنيد ينظر من أعلى إلى عدوة الغارق في الياس بالأسفل.
بالمثل في حرب دمياط قاتل عرب مصر بغريزة فرسان الصحراء ضد الفرسان المثقلين بالدروع. وقاتل الفلاحين بغريزة المصري الذى يجيد استخدام الفأس ويفهم التراب ويعرف تصرفات النيل كما يعرف كف يده. استخدام خبرات حياته وتاريخه الزراعي، وأغرق جيش فرنسا بضربة فأس واحدة. أما مظاليم المدن الأرازل/ الفتوات / البلطجية/ على اختلاف مسمياتهم على مر العصور التي قضوها في بؤس أرض الكنانة ، فقد رموا أنفسهم في النيل خلف السفن الفرنسية مخترقين المعسكرات مختطفين الجنود. وشعارهم إلى الأبد (العمر واحد والرب واحد).
ولم يستمر تأثير الحملة الصليبية الألمانية سوي فترة وجيزة ولم تترك أي أثر بارز. علي الأقل صلاح الدين ترك خلفة إنجازاً تاريخياً بالإستيلاء علي القدس وأقام مملكة كبيرة لم تعش طويلاً . كما أن القدس أيضا ضاعت بسرعة من أيدي الملوك الأيوبيين و بسببهم .
الأساليب الناجحة التي أتبعها الفرنسيون في الشام ومعهم قوى اوروبية أخري مثل الأنجليز والإيطاليين في الحروب الصليبية اعتمدتها إسرائيل على اعتبار أنها نتائج أحد تلك الحملات ولكن بدلا من شعار الصليب الأحمر المرسوم على ثياب بيضاء لجنود أوروبيين . جاءوا هذه المرة بأعلام بيضاء ذات نجمة سداسية زرقاء.
واعتمدوا علي نفس الأساليب السياسية للحملات الصليبية لتحطيم ممالك المسلمين أكثر من استخدامهم للوسائل العسكرية التي استخدموها بحرص معتمدين علي التوسع التدريجي والقضم المتدرج للأرض بعكس المسلمين الذين كان همهم منصب علي الحملات الكبيرة والتحرير كامل لأراضي واسعة .
فكانت حملاتهم مكلفة جداً وتحتاج إلي تجميع قدرات المسلمين في المنطقة وهو أمر لم يكن ممكناً بسبب النزاعات بين الممالك وتنافس الملوك. واستخدام الإسلام نفسه كوسيلة للوصول إلي السلطة والثروة.
لم تخاطر أي دولة أوروبية بدخول الحرب في المنطقة الإسلامية بشكل منفرد وكانوا يدخلون في تحالف من عدة دول و يشكلون أسطولا كبيراً ويضمنون تمويلا كافيا من الكنيسة وكبار تجار أوروبا. مع حملات بين الرأي العام الأوروبي لحشد التطوع الصليبي ضد الأسلام ولتحرير القدس وطرد المسلمين منه .
1- التحالف 2- الأسطول 3- التمويل 4- الحشد الإعلامي والنفسي
تلك هي الخطوات الأساسية لأي حملة علي بلاد الشام فيما عدا الحملة الألمانية التي جاءت متهورة وعديمة الخبرة أو ترفض الاستفادة من التجربة التاريخية كما يفعل العرب الآن أو كما يقول كتابنا هذا في عنوانه (التاريخ لا يفيد الأحصنة).
والحصان الألماني في حملته الصليبية، لم يقبل بدروس التاريخ/ مثلنا تماما / وكان ذلك نافعا لنا كأعداء له، في ذلك الوقت علي الأقل .
ونلاحظ في حرب إسرائيل على غزة أن تلك الشروط الصليبية توفرت لهم قبل حملتهم العسكرية الضخمة علي قطاع غزة.
ولكنها تورطت في حرب برية طويلة الأمد مع المسلمين الذين هم أسياد الحروب البرية بما تتطلبه من شجاعة وإيمان وصبر وتضحية. وكان ذلك من أهم أسباب فشل الإسرائيليين في حرب غزة ولكنهم حاولوا في البداية أن تكون حربهم خاطفة وتنتهي في ساعات قليلة كما توقع معظم المراقبين .
ولكن وكما حدث مع صلاح الدين الأيوبي فبعض أخطائه القاتلة تحولت في وقت المعركة إلي مزايا حاسمة. (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى).
بالنسبة للمجاهدين في غزة
فمثلاً من أخطائهم القاتلة كان اعتماد أسلوب “الحرب الراكدة” التي تبدأ وتنتهي عند فوهات الأنفاق الموجودة تحت الأرض وبالكاد تطورت إلي حرب حركة في المساحة المحصورة من بين فوهة النفق وخرائب البيوت المهدمة.
وكان ذلك آخر قدرات تخيل المجاهدين لحرب الحركة. الا إذا اعتبرنا التراشق الصاروخي نوع من أنواع حرب الحركة.
ذلك الخطأ القاتل في اختيار إستراتيجية الحرب أدي إلي ميزة كبري حققت نكسة للعدو اليهودي.
ذلك أن إستراتيجية الأنفاق لم تمكن اليهود من حسم الحرب بسرعة رغم استخدامهم للطائرات الإسرائيلية وطائرات أمريكا وحلف الناتو وبعض الدول العربية .
بمعني آخر أن إستراتجيتنا الراكدة أدت إلي إفشال إستراتجيتهم في الحرب الخاطفة والتفوق الكاسح في قوة النيران وأعداد الجنود والأساطيل البحرية والحشد النفسي والإعلامي .
بل أدت إلي تفسخات في المجتمعات الأوروبية نتيجة طول مدة الحرب وتحولها إلي حرب إباده عرقية لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم حتي أن أمريكا بدأت فيها ثورة طلابية في الجامعات مرشحة للتحول إلي حرب أهلية متوقعة علي هامش الانتخابات الأمريكية. والضغط الشعبي الأمريكي أصبح موجها نحو مطلب خطير للغاية وهو قطع العلاقة ما بين الولايات المتحدة والحركة الصهيونية العالمية وسيطرة اليهود علي المجتمع الأمريكي وسياستة .
ويحكم الطبيعة بين الولايات المتحدة و أوروبا فإن ما يحدث هنا ينتفل إلي الجانب الأخر .أي أن أوروبا مهددة بالانقسام والتمزق والحرب الأهلية بسبب سيطرة اليهود عليها .
ومنذ إنشائها فإن إسرائيل لا يمكن أن تدخل في مواجهة مع سكان المنطقة الا بوجود جيش أوروبي كبير إلي جانبها مع مظلة جوية، وجسر بحري مع أوروبا وتلك من الدروس الأساسية المستخلصة من الحروب الصليبية.
فمجرد أن تمكن السلطان بيبرس في مصر من إنشاء أسطول بحري قوي في مصر، ونظام اتصالات سريع ما بين الشام ومصر حتي ضعف الغطاء البحري الذي توفره الأساطيل الأوروبية للمستعمرات الصليبية في الشام .
فتمكنت القوات البرية للدولة المملوكية التي كانت تشمل الشام كله ومصر بدون أي تقسيمات في الشام أو نفوذ للطبقة السامة المسماة تجار الشام واختفاء الخطر المغولي من الشرق.
حتي ظهر الكيان العثماني ليشكل امبراطورية أعادت المنطقة إلي الوراء عدة قرون وسلبت التقدم القليل الذي حدث في العصر المملوكي في الجانب العسكري والإداري .
من عبقريات الملك لويس التاسع
ويقال أنه كان علماً ذو عقلية عظيمة ومتبحراً في العلوم، اكتشف لويس التاسع خطورة غزو مصر عبر دمياط وصولا إلي القاهرة بأسطول من المراكب الحديثة مكتشفا أنه يمر في وسط سكاني كثيف ومعادي. رغم أن السكان غير مسلحين وفقراء للغاية ولكنه توصل خلال المواجهات التي حدثت في دمياط والمنصورة في البر والبحر إلي نتائج جوهرية منها :
1- الأسطول المصري أظهر براعة في القتال في مياه النيل أفضل من براعة الأسطول الفرنسي وكذلك براعته في القتال البحري بالقرب من شواطئ الشام رغم ضعفه من حيث العدد والتجهيز .
ولكن خبرة البحارة وشجاعتهم وتوفر قادة للأسطول ذوي خبرة كبيرة وكفاءة وضعتهم في موقف جيد أثناء الحرب .
2- علي الأرض هناك ثلاث قوى لدي شعب مصر .
أولها هم العرب سكان الصحراء وجنوب مصر .
وكانت خبراتهم القتالية هي أفضل ما لدي الشعب المصري وكذلك التسليح .
والفروسية والتمرس في الحروب الصغيرة من الكر والفر، والغارات السريعة بالخيل. وهو ما عانى منه الفرنسيون كثيراً .
3- قوة الفلاحين المصريين وهم الكثافة العددية. الا أنهم غير مسلحين وليس لديهم خبرة بالقتال سوي بالأدوات البدائية مثل العصي والفؤوس .
وهي الأشياء المتوفرة بين أيديهم ويستخدمونها ضد بعضهم البعض أحيانا أو ضد عسكر الحكومة نادراً. ويمتازون بالصبر والقدرة علي التحمل وطاعة الأوامر وتقبل الأنظمة حتي العسكري منها والتكيف معها .
لهذا عندهم قابلية لأن يشكلوا جيش منضبط إذا توفرت لهم الظروف.
ولديهم إيمان فطري قوي يتقبلون معه المخاطرة بالموت كقدر لا مفر منه وهذا يمنحهم شجاعة كبيرة في القتال.
ورغم بساطة تجهيزاتهم وقلة خبرتهم الا أنهم بتلك المميزات استطاعوا تكبيد الفرنسيين خسائر كبيرة في دمياط.
كما أن خبرة الفلاحيين المصريين باستخدام الفؤوس وخبرتهم مع النيل الذي هو جزء من فطرتهم الشخصية والجماعية . أرشدهم إلي الخطة التي أدت إلي هزيمة الجيش الفرنسي في دمياط الذي أحتشد فوق أرض زراعية قرب مدينة المنصورة.
فذهب الفالحون وكان الوقت فيضان النيل، وفتحوا مياه النيل علي تلك الأرض فأغرقوا القوات الفرنسية فانسحبت إلي دمياط وتبعتها قوات المماليك وأجبروها علي الرحيل من دمياط، كما أفشل المماليك محاولة الفرنسيين اقتحام قصر السلطان بالمنصورة. وقاوم الشعب محاولتهم احتلال مدينة المنصورة.
وباستخدام الماء حطم المصريون خط بارليف عام 1973 (كان بعرف وقتها بأقوى خط دفاعي في العالم إلي أن أثبت الفلاح المصرى أنه ليس أكثر من كومة رمال). وهى فكرة لفلاح مصري مسيحى كان يعمل ضابطا مهندسا في الجيش المصري.
4 ـ القوة القتالية الرابعة للشعب المصري هي قوة الاراذل أو الاوباش أو السابلة، من سكان المدن الذين تميزت منهم فئات بعينها في عصور مختلفة .
مثل فئة الفتوات الذين اذلوا الحملة الفرنسية في ثورتين بالقاهرة. أو كما أسميناهم في جزء من هذا الكتاب (الناس اللي تحت) أي الطبقة السفلي في المجتمع والتي كانت تتجمع للاستجداء أثناء المناسبات تحت قلعة الجبل مركز الحكم ومقر السلطان .
مصدر قوة “الأراذل” كانت: أن الموت والحياة لديهم متساويان وفي أغلب الأوقات فإنهم يفضلون الموت عن الحياه التي يعيشونها في بؤس وقهر وإذلال ويأس من أي تحسن في أحوالهم أو لأجيالهم القادمة أو في تحقيق أي عدالة أو أمن لهم .
وهي دائما علي قائمة الخسران في جميع الأحوال لهذا كانت مجازفاتهم في حرب دمياط رهيبة وأسطورية خاصة القتال في الماء ضد الفرنسيين في عمليات إختطاف للجنود وتسلل إلي المعسكرات .
العنصر الخامس المفقود هو عنصر القيادة والتنظيم التي تمكنت من تنظيم الزخم الشعبي الهائل والمتنوع حتي تمكنت من هزيمة الجيش الفرنسي أحد أفضل جيوش أوروبا والعالم في ذلك الوقت.
فلم تتمكن من العثور علي أي دلائل خلال المصادر التاريخية المتوفرة عن إعطاء إشارات عن القوة التي تمكنت من تنظيم وحشد الشعب المصري في مقاومة لم تحظ بأي دعم حكومي من النظام الأيوبي أو المماليك بل العكس فوجئت بعد الحرب بحملات عسكرية وتضيق أمني عليها وعندما أنقلب المماليك علي النظام الأيوبي فان أول ما فعله عز الدين أيبك أول سلطان للمماليك في مصر أن حارب العرب والفلاحين في صعيد مصر حرب استئصال و إبادة فشنق ألفين وستمئة من المجاهدين العرب علي طول الطريق علي مشانق نصبها علي الطريق ما بين بلبيس والقاهرة .
وعندما شعر أيبك أن الملوك الأيوبيين في الشام يتجمعون للهجوم عليه لإستعادة مصر كان أول ما فعله أرسال جنود لإعتقال العرب في جنوب مصر حتي لا ينضموا إلي الأيوبيين إنتقاماً لما فعله بهم في بلبيس.
أما “الناس اللي تحت” أو الأراذل أو الفدائيين من الطبقات الشعبية فقد ظلوا كما هم “تحت” والمجتمع كله بثقله جائم فوق صدورهم الضعيفة وتفننت السلطة الأيوبية ومن بعدها المملوكية في جباية الضرائب من الشعب بكل جور ممكن وبمختلف الأسماء وظلت معيشة الفقراء تتدهور باستمرار وتفشت الأمراض والأوبئة التي أبادت أعدادا كبيرة منهم وأحترف الباقون أحط المهن لإكتساب العيش التي لم تزدهم الا مهانة وفقراً. فكان ذلك جزاؤهم علي أن كانوا هم الأشجع في الحرب بشهادة المؤرخين وكان مجهودهم أكبر من مجهود القوات الحكومية (المماليك).
وقد بدأوا في العصر الأيوبي كأراذل وانتهوا في العصر الجمهوري العسكري إلي بلطجية وأرباب سوابق ومدمنين (ترامادول) من صناعة القوات المسلحة.
بعبقرية للملك لويس التاسع أكتشف أن النظام الأيوبي الحاكم مستمد من القبائل الكردية التي تسكن علي مساحات واسعة من مشرق تركيا إلي غرب إيران وعراق العجم فذلك هو الخزان البشري والموطن الأم للطبقة الأيوبية الحاكمة التي تمدها بالجنود والأموال إذا أمكن وتوفر لهم الملجأ عند الهزيمة والتراجع.
مثل دور أوروبا مع المستعمرات الصليبية في الشام . فعاش الأوربين كأصحاب مستعمرات وافدة في أراضي غريبة لا تشعر معها بأمان أو اطمئنان (كما هو وضع اسرائيل الآن).
عاش الأيوبيون في المنطقة في حرب مع أنفسهم معظم الوقت وأحيانا مع أصحاب البلاد أو القوى الخارجية التي جاءت لتنافسهم في المنطقة مثل الصليبيين والتاتار أو حتى الخوارزميين توجس بفرض نفسة بقوة. لذا فشلوا في الاستمرار ، تركوا المنطقة ورحلوا بكل بساطة . ومثلهم فعل العثمانيون الذين عاشوا في المنطقة لمدة أجيال. أما المماليك فقد ذابوا في الشعب بعد أن اندثرت جذورهم مع أوطانهم البعيدة والمجهولة. حتى ان” طومان باي” اخر السلاطين المماليك قاد حرب عصابات شعبية، جعلت منه بطلا لدى الطبقات التى لا تعرف لها وطنا سوى مصر.
كان الأيوبييون هم القوة المحلية الوحيدة في وقت الحروب الصليبية وقبلها مباشرة كانت الدولة الفاطمية التي شهدت بداية الحروب الصليبية في الشام. وكانت الدولة الفاطمية قد شارفت علي نهايتها ولكن لعلاقتها الحسنة والاستثنائية مع شعب مصر من مسلمين وأقباط ويهود، في الحضر والبوادي في الشمال والجنوب .احتفظ الشعب بولاء عاطفي معهم حتي بعد استيلاء الأيوبيين علي الحكم. والعرب في مصر كانوا يعتبرونها هي الدولة الشرعية التي كانت تحكمهم رغم أن الخلافة العباسية في بغداد كانت متماسكة.
لهذا فإن لويس التاسع بنظرته الثاقبة استنتج أن قبائل المغرب العربي هي الحاضنة الطبيعية للشعب المصري وعمقه الجغرافي والروحي. لهذا قرر أن هزيمة مصر لا تأتي الا بهزيمة المغرب العربي. إما النظام الأيوبي فهو مفكك بصراعات لا يمكن تجاوزها ومن السهل القضاء علي الأيوبيين كنظام حاكم.
وبالتالي فإن احتلال مصر يستدعي هزيمة الشعب المصري ولابد من قطع اتصالهم عن المغرب العربي، إما بخلق فاصل جغرافي سياسي بين مصر والمغرب العربي بدوله دخيلة (مثلما هي إسرائيل بين المشرق والمغرب العربي في القرن العشرين).
لهذا ذهب لويس بنفسه لاحتلال تونس لتحويلها إلي مستعمرة فرنسية تفصل بين مصر وبلاد المغرب العربي وبذلك يفقد الشعب المصري امتداده الطبيعي النفسي والمعنوي وبالتالي المادي والعسكري (وهذا تماما ماتفعله إسرائيل والولايات المتحدة وحلف الناتو في محاولة إقامة كيان ليبي يعزل مصر عن باقي المغرب العربي). وبالتالي يسهل السيطرة علي مصر واحتلالها وضمها إلي باقي المستعمرات الصليبية في الشام آنذاك أو ضمها إلي إسرائيل في الوقت الحالي ضمن إطار إقليمى أوسع هو الشرق الأوسط الجديد بهوية يهودية وتفريغه من العنصر العربي بطرد جميع العرب من مصر وحتى موريتانيا إلى جنوب الصحراء الكبرى أو طرد المصريين إلى أواسط أفريقيا مرورا بالأراضي السودانية بدون توقف، بل من الأفضل ان يصطحبوا معهم القبائل العربية فى السودان ويغادرونها جمعيا. فالشرق العربى لا تريده اسرائيل عربيا بعد الآن .فقد بزغ العصر اليهودى على العالم . وانظر كيف تنتشر الحروب عل سطح الكوكب التعيس.
ملاحظة لا تفيد
1- سياسة تهميش العرب التي بدأتها الإمبراطورية العباسية. تطورت على مر القرون حتى أصبحت في عصر الإمبراطورية اليهودية “ساسة طرد العرب خارج الشرق الأوسط اليهودى الجديد”، أو ما كان يُعتَقَد أنه” العالم العربي”.
2- الــحصــار الـبحــري
أظهرت تجربة الحروب الصليبية مفهوم الحصار البحري بمراحله الأولي التي تعرف عليه المسلمون والعرب. بداية الأمر كان التفوق البحري للدول الأوروبية تجلى في قدرتهم على المبادرة بالهجوم علي السواحل العربية في الشام ومصر .
لم يبذل حكام المنطقة مجهودا كاف لبناء قوة بحرية تحمي شواطئهم وتردع العدوان الأوروبي الذي بدأ يتكرر .
حتي تحولت الأساطيل الأوروبية إلي أداة لبناء مستعمرات يكون الأسطول لها سند وداعم ورابط مع أوروبا كمركز مسيطر يسعي إلي الهيمنة علي البلاد الإسلامية وإلي تأكيد سيطرته علي طرق الملاحة البحرية التي هي عماد الثروة في ذلك الوقت .
نتيجة لضعف الحكومات في مصر والشام وإهمالهم الأسطول وتنافسهم الداخلي ومحاولة بعض الحكام الأيوبيين استرضاء المستعمرات الصليبية في الشام للإستعانة بهم في الحروب مع الممالك الأيوبية .
وكانت لديهم سياسة إضعاف متعمد للثغور الإسلامية وتهديهم الحصون علي شواطئ الشام ومصر لطمأنة الأوروبيين إلى نواياهم السلمية وأنهم لا ينوون الدخول معهم في صراع جدي. وأن تبقي العلاقة في حدود التنافس الاقتصادي والسياسي في البر والبحر بدون تصعيد الصراع إلي مستوى صراع ديني حقيقي .
أي إبقاء العنصر الديني في إطار الدعاية الشعبية سواء في أوروبا أو في المنطقة العربية بحيث يصبح الدين لدي الطرفين مجرد عامل مساعد لنشاط عسكري يهدف إلي الريح الاقتصادي وتأمين مناطق النفوذ .
وظهرت السياسة الأيوبية بتحطيم القلاع والحصون علي السواحل متحججين بأنهم لا يستطعون حمايتها ولا يريدون أن يستخدمها الصليبيون مرة أخري وأن الحل هو تهديم الحصون وليس تقويتها بالتحصينات والرجال.
وكان ذلك نوع من الحصار البحري الاختياري الذي فرضة الحكام المتخاذلون علي شعوب المنطقة معرضين أمنها إلي أشد الأخطار ومتلاعبين بمصالحها ومعتقداتها، لأنهم أولا وأخيرا غرباء عنها مثلهم مثل الصليبين تماما فإذا تمت هزيمتهم فسوف ينسحبون إلي بلادهم الأصلية .
لذا كان الأيوبيون حريصين علي طابعهم الكردي وإبقاء الطريق مفتوحا بينهم وبين مناطقهم الأصلية في حال خسارتهم للشام ومصر وزوال الإمبراطورية الكردية كما زالت أمبراطوريات قبلها .
المماليك كانوا لديهم نفس مشكله الإنتماء إلي المنطقة. مع الفارق أن مناطق الانسحاب لديهم غير واضحة فقد جاءوا من أماكن شتي متباعدة .
فضعفت ارتباطهم بأراضيهم الأصلية مع مرور الوقت حيث أنهم اختطفوا عندما كانوا أطفالا وضاعت من ذاكرتهم القبيلة والوطن والكثير منهم استوطن البلاد الجديدة خاصة في مصر .
الاستعمار العثماني كان الأضعف ارتباطا بالمنطقة العربية والأكثر استهتار بشعوبها وتاريخها ومعتقداتها وبادلته الشعوب نفس الجفاء والكراهية .
ورحبت بالتخلص منه عندما تعرض لأول خيانة من بدو جزيرة العرب الذين حركهم الإنجليز ضد الإسلام أولا ثم ضد الأتراك .
لاحظنا في حملة صلاح الدين التي استطاع فيها تحرير القدس بشكل مؤقت أنه لم يكن فقط يفتقد إلي أسطول مناسب بل كان أيضا يفتقد إلي قوات برية مناسبة .
لقد كان اعتماده الأساسي علي القبائل التركية التي جاءت معه من كردستان. وفيما بعد اعتمد الأيوبيون على المماليك الذين أشتروهم أطفالا وربوهم كجنود مخلصين لسيدهم قبل كل شيء حتي أسس الملك الصالح نجم الدين أيوب ما يسمي “المماليك البحرية” وأسكنهم في قلعة بناها لهم في جزيرة الروضة بالنيل. فأصبحوا أهم قوة عسكرية في مصر والشام وقدموا خدمات جليلة للتصدي للصليبيين والتاتار في المنطقة .
وهم الذين حرروا شاطئ الشام من الوجود الصليبي في عهد السلطان قلاوون ولكن في المقابل تسببوا في مصائب كبري وعانى منهم شعب مصر ويلات، لم يعان مثلها من أي احتلال سابق أو لاحق.
سبب العجز البشري أن العنصر العربي تم تجاهله واضطهاده بداية من العصر العباسي، واستمرت تلك السياسة ثابتة عند جميع الأنظمة التي حكمت بعد سقوط الخلافة العباسية .
وفي مصر أصبح العرب يعانون من اضطهاد مزدوج اضطهاد عرقي لأنهم عرب، وكانت الأسر التي تحكم مصر غير عربية ومتعصبة لعرقيتها الخاصة.
السبب الثاني: أن المصريين ظلوا متهمين بالميل إلى الشيعية لأن الدولة الفاطمية التي حكمتهم لأكثر من مائتي عام، تميزت في أغلب وقتها بسياسة إنصاف وعدالة ظل المصريون يبحثون عنها منذ تأسست مصر كدولة وحتي الآن أي منذ العصر الفرعوني حتي حكم العسكر الصهاينة.
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )