التاريخ لايفيد (8) .. معركة المنصورة (647 هــ)
التاريخ لايفيد (8)
(صفحات من كتاب مصطفى حامد “التاريخ لايفيد” – قيد الإعداد)
مــعركــة المــنصــورة (647 هــ )
كانت هذه الواقعة أول إبتداء النصر علي الفرنج ــ المقريزي ــ
وقيل أن ــ الملك الصالح ــ لم يعهد إلي أحد بالحَلْف ــ القسم بالولاء لولي العهد ــ ، بل قال للأمير حسام الدين ابن أبي علي: ” إذا مت لا تسلم البلاد الا للخليفة المستعصم بالله ليري فيها رأيه” ، فقد كان يعرف ما في ولده المعظم تورانشاة من الهَوَج .
فلما مات السلطان أحضرت زوجته شجر الدر الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ والطواشي جمال الدين محسن وكان أقرب الناس إلي السلطان واليه القيام بأمر مماليكه وحاشيته وأعلمتهم بموت السلطان ووصتهما بكتمان موته خوفا من الفرنجة(444 ص).
فأتفقا مع شجر الدر علي القيام بتدبير المملكة ، إلي أن يقدم الملك المعظم تورانشاه. فأحضرت شجر الدر الأمراء الذين بالمعسكر وقالت لهم أن السلطان قد رسم (أمر) بأن تحلفوا له ولأبنه الملك المعظم غياث الدين تورانشاة صاحب حصن كيفا أن يكون سلطانا بعده ، وللأمير فخر الدين يوسف أبن شيخ الشيوخ بالتقدمه علي العساكر والقيام بالأتايكية (قيادة الجيش) وتدبير المملكة ، فقالوا كلهم سمعاً وطاعة ، ظنا أن السلطان حي ، وحلفوا بأسرهم وكلفوا سائر الأجناد والمماليك السلطانية .
وأخذ الأمير فخر الدين يطلق المسجونين ، ويتصرف علي إطلاق الأموال والخلع علي خواص الأمراء (كان فخر الدين يخطط للقفز علي كرسي الحكم وكانت أمور الدولة كلها في يده) وأطلق السكر والكتان إلي الشام فعلم الناس بموت السلطان من حينئذ ، غير أن أحدا لا يجسر أن يتفوه به (ص445- ج1).
ووصل قاصد ــ مرسال ــ الأمير حسام الدين إلي حصن كيفا ، وأطلع الملك المعظم بأن المصلحة في السرعة ومتي تأخر فات الفوت وتغلب الأمير فخر الدين علي البلاد .
هذا وشجر الدر تدبر الأمور حتي لم يتغير شيء ، وصار الدهليز السلطاني علي حاله والسماط (سفرة الطعام) في كل يوم يمد ، والأمراء تحضر الخدمة وهي تقول : (السلطان مريض ما يصل إليه أحد). (ص 446)
وأما الفرنج فقد فهموا أن السلطان قد مات. فخرجوا من دمياط ، فارسهم وراجلهم ، ونزلوا علي فارسكور وشوانيهم ــ سفن حربية ــ في بحر النيل تحاذيهم ، ورحلوا من فارسكور يوم الخميس لخمس بقين من شعبان فورد في يوم الجمعة إلي القاهرة من المعسكر كتاب ، فيه حض الناس علي الجهاد أوله: (أنفروا خفافا وثقالا وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، ذلكم خير لكم أن كنتم تعلمون). وكان كتابا بليغا فيه مواعظ جمة فقرئ علي الناس فوق المنبر جامع القاهرة وحصل عند قراءته من البكاء والنحيب وإرتفاع الأصوات بالضجيج مالا يوصف وإرتجفت القاهرة ومصر لكثرة إنزعاج الناس وحركتهم للمسير ، فخرج من البلاد والنواحي لجهاد الفرنج عالم عظيم وقد أشتد كرب الخلائق من تمكن الفرنج وقوتهم وأخذهم البلاد مع موت السلطان .
وفي يوم السابع من رمضان: نزل الفرنجة البَرَمون ، فإشتد الكرب وعظم الخطب لدنوهم وقربهم من المعسكر ــ في المنصورة ــ . وفي يوم الأحد ثالث عشره وصلوا الي طرف بر دمياط ونزلوا تجاه المنصورةبالبر الشرقي ، وفي البر الغربي أولاد الملك الناصر داود صاحب الكرك .(ص 446)
فاستقر الفرنج بمنزلتهم هذه ، وخندفوا عليهم خندقا ، وأداروا أسوارا وستروه بالستائر ، ونصبوا المجانيق ليرموا بها علي معسكر المسلمين ، ونزلت شوانيهم بإزائهم في بحر النيل ووقفت شواني المسلمين بإزاء المنصورة ووقع القتال بين الفرقين برا وبحرا .
وفي يوم عيد الفطر : أسر كُند (كونت) كبير من الفرنج له قرابة مع الملك ريدا فرنس (لويس التاسع) واستمر القتال وما من يوم إلا ويقتل من ويؤسر ، وقد لقوا من عامة المسلمين و”سوَّالهم” نكاية عظيمة ، وتخطفوا منهم وقتلوا كثيرا وكانوا إذا شعروا بالفرنج ألقوا أنفسهم في الماء ، وسحبوا إلي أن يصيروا في بر المسلمين . وكانوا يتحيلون في خطفهم بكل حيلة حتي أن شخصا أخذ بطيخة أدخل فيها رأسه وغطس في الماء إلي أن يقرب من الفرنج فظنوه بطيخة . فلما هو الا أن نزل أحدهم في الماء ليتناولها إذا أختطفه المسلم وعام به حتي قدم به الي المسلمين ـ في البر الغربي ــ. (ص 447)
[ في حرب المنصوره كما حرب دمياط السابقة تحمل عوام المصريين من الأراذل والناس اللي تحت أو كما يطلق عليهم المقريزي عامة المسلمين و”سوَّالهم” أي فقرائهم وكانوا يتركزون في الجانب الغربي من النيل قي مقابل المنصورة حيث يجاورهم الأمراء والملوك الأيوبيون القادمين من الشام في إقطاعاتهم الفارهة التي أهداهم إياها سلطان مصر الملك الصالح الأيوبي] .
*** ***
في يوم الخميس النصف منه : ركب الفرنجة البرمون ، فدخل المسلمون اليهم البر الذي هم فيه ، وقاتلوهم قتالا شديدا وقتل فيه من الفرنج أربعون فارسا وقتلت خيولهم .
منافقون من أهل الإسلام
وما زال الأمر علي ذلك إلي أن كان يوم الثلاثاء خامس ذي القعدة ، دل بعض منافقي أهل الإسلام الفرنج علي مخائض في بحر أشمون ، فلم يشعر الناس الا والفرنج معهم في المعسكر .(ص447)
[ “بعض منافقي اهل الإسلام ” بدون الإشارة إلى المذهب أو الجنس . ولو كان فيهم شيعي واحد، لنسي مؤرخو الفتنة كل تاريخ الحروب الصليبة ليذكروا جملة واحدة هي أن رافضي ساعد الفرنجة على دخول المنصورة وهزيمة أهل السنة والجماعة، واحتلال الصليبيين مصر. كما فعلوا مع قصة إبن العلقمي الذى أدخل التاتار إلى بغداد وأسقط الخلافة العباسية] .
*** ***
وكان الأمير فخر الدين في الحمام ، فأتاه الصريخ بأن الفرنجة قد هجموا علي العسكر فخرج مدهوشا وركب فرسه في غير احتداط ولا تحفظ (كان عاريا تقريبا) . وساق لينظر الخبر ويأمر الناس بالركوب ، وليس معه سوي بعض مماليكه وأجناده فلقيه طلب الفرنج الداوية وحملوا عليه ، ففر من كان معه وتركوه وهو يدافع عن نفسه فطعنه واحد برمح في جنبه و اعتورته السيوف من كل ناحية فمات رحمة الله. ونزل الفرنج علي جديلة (جديلة : هي تل مطل علي الشاطئ الجنوبي لبحر اشموم) ومقدمهم أخو الملك ريدافرنس ـ لويس التاسع ــ وما هو الا أن قتل الأمير فخر الدين ، وإذ بالفرنج اقتحموا علي المنصورة فتفرق الناس وانهزموا يمينا وشمالا وكادت الكسرة أن تكون فان الملك لويس التاسع وصل بنفسه إلي باب قصر السلطان. إلا أن الله تدارك بلطفه ، وأخرج إلي الفرنج الطائفة التركية التي تعرف بالبحرية (جماعة أسسها السلطان الصالح أيوب) والجمدارية (الفدائيين) وفيهم ركن الدين بيبرس البندقداري .
فحملوا علي الفرنج حملة زعزعوهم بها ، وأزاحوهم عن باب القصر فلما ولّوا أخذتهم السيوف والدبابيس ــ رماح قصيرة ــ ، حتي قتل منهم في هذه النوبة نحو ألف وخمسمائة من أعيانهم وشجعانهم وكانت الفرنجة قد أتوا الجسر ليعدُّوا ــ يعبروا ــ منه ، فلولا لطف الله لكان الأمر يتم لهم بتعديتهم الجسر . وكانت المعركة بين أزقة المنصورة ، فانهزموا إلي جديلة منزلتهم وقد حال بين الفريقين الليل وأداروا عليهم سورا وخندقوا خندقا . وصارت منهم طائفة في البر الشرقي ومعظمهم في الجزيرة المتصلة بدمياط فكانت هذه الواقعة أول إبتداء النصر علي الفرنج.
وضربت البشائر بقلعة الجبل ، وكثر فرح الناس وسرورهم وبقي العسكر تدبر أمره شجر الدر ، فكانت مدة تدبير الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بعد موت الملك الصالح لمملكة مصر خمسة وسبعين يوما .
وفي يوم مقتلة علي يد الفرنج نهب المماليك وبعض الأمراء داره وكسروا صناديقه وخزائنه وأخذوا أمواله وخيوله وأحرقوا داره .
(هذا ما فعله المقربين اليه فماذا كان سيفعل الأعداء ؟)
ولتكتمل صورة الحقيقة نذكر موجز بنهايات السلاطين :
1 ـ الملك العادل قتله أخوه الملك الصالح أيوب .
2ـ الملك الصالح أيوب قتل بثلاث أمراض .الفرنج ” الزهري” ــ الناصور ـ السل.
3ـ الأمير فخر الدين يوسف أعظم المماليك في الدولة الأيوبية قتل أثاء محاربة الصليبين. ونهب مماليكه والأمراء داره وخزائنة وخيوله وأحرقوا داره. كما مرَّ معنا .
4 ـ وكما سوف يمر معنا فإن السلطان المعظم تورانشاه أبن الملك الصالح أيوب قتل أبشع قتلة في العصر الأيوبي علي يد أقرب مساعديه، وبثلاثة طرق للموت في قتلة واحدة. فقد قتل بالسيف وبالنار وبالغرق . وبموته أنتهى الحكم الأيوبي لمصر بعد أن استمر81 عاما.
سنة 648 :
في ليلة الأربعاء ثالث محرم: رحل الفرنج بأسرهم من منزلتهم يريدون مدينة دمياط وانحدرت مراكبهم في البحر قبالتهم .فركب المسلمون أقفيتهم ، بعد أن عدّوا بّرهم وأتبعوهم . فطلع صباح نهار يوم الأربعاء وقد أحاط بهم المسلمون ، وبذلوا فيهم سيوفهم ، واستولوا عليهم قتلا وأسرا ، وكان معظم الحرب في فارسكور ، فبلغ عدد القتلى عشرة آلاف في قول المقل ، وثلاثين ألفا في قول المكثر وأسر من خيالة الفرنج ورجالتهم المقاتلة ، وصناعهم وسوقتهم ، ما يناهز مائة ألف إنسان وغنم المسلمون من الخيل والبغال والأموال مالا يحصى كثرة ، واستشهد من المسلمين نحو مائة رجل وأبلت الطائفة البحرية ـ المماليك ــ لاسيما بيبرس البندقداري في هذه النوبة بلاء حسنا وبان لهم أثر جميل .(ص455-ج1)
والتجأ الملك ريدافرنس وعدة من أكابر قومه إلي تل(المنية) وطلبوا الأمان فأمنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي ونزلوا علي أمانة . وأخذوا إلي المنصورة فقيد الملك ريدافرنس بقيد من حديد ، واعتقل في دار القاضي فخر الدين إبراهيم أبن لقمان كاتب الإنشاء ، التي كان ينزل بها من المنصورة ووكل بحفظة الطواشي صبيح المعظمي واعتقل معه أخوه ، وأجري عليه راتب في كل يوم .
وتقدم أمر الملك المعظم ـ تورانشاه ــ لسيف الدين يوسف بن الطودي أحد من وصل معه من بلاد الشرق بقتل الأسري الفرنج وكان سيف الدين يخرج كل ليلة منهم ما بين الثلاثمائة والأربعمائة ويضرب أعناقهم ويرميهم في البحر حتي فنوا بأجمعهم .
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )