بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
مجلة الصمود الإسلامية | السنة الثامنة عشر – العدد 211 | محرم 1445 ھ – يوليو 2023 م .
27-07-2023
ذات يوم .. (28)
استشهاد (كريم)
انتصر الأفغان في صراعهم مع القوى العظمى التي حاولت غزو بلادهم. وكان سلاحهم هو الإيمان الذي لا يقهر، واعتزازهم بالإسلام وبوطنهم الأفغاني الشامخ على مر العصور. لهذا ينتصر الأفغان ويمكن أن ينتصر أي شعب ذو إيمان قوي. فكما يقولون: (الحرب تكسبها الشعوب بينما الجنرالات يكسبون المعارك).
أبطل الأفغان أسطورة القنابل العنقودية عندما عاملوها بازدراء وكأنها عاصفة ترابية لا قيمة لها. وبالمثل فعلوا مع صواريخ سكود وذخائر حديثة كانت تلقيها الطائرات الروسية.
أثناء الاشتباكات المدفعية ليلاً كان الأطفال من البدو الرُحَّل ينسابون بين مواقع المجاهدين لاصطياد شظايا القنابل التي انفجرت للتو. كنا نسمعهم يتضاحكون كأنهم في نزهة، وهم يتسابقون لجمع الشظايا الثقيلة التي تمثل ربحهم الأعلى من مغامراتهم الليلية.
كنا نشعر بالخجل ونحن نختبئ بين الصخور باحثين عن حماية من تلك القنابل التي كانت تستهدفنا بها الطائرات. حاولنا أن نجاري أطفال البدو في شجاعتهم ، فنجحنا أحيانا وفشلنا أحيانا أخرى.
من جيراننا المجاهدين كان صديقنا الكومندان كريم. وكان لمجموعته عدة مغارات تشبه حفر الذئاب، متناثرة على جانبي شِعْب ضيق يخترقه جدول ماء صغير. كانت الطائرات تستهدف ذلك الشعب، بما فيه مركزنا، مرة واحدة على الأقل في كل ليلة، وكان لنا عدة مغارات كبيرة في بداية الشِعب آثرنا بها كريم على نفسه ومجموعته عند قدومنا إلى المنطقة.
في الصباح كنا نزور جيراننا مجاهدي مركز كريم للاطمئنان على سلامتهم. كانوا دائما بخير، ويقضون جزءا من النهار في تجميع شظايا القذائف من حول الموقع، خاصة القنابل العنقودية التي لم تنفجر. فكانوا يضعونها في أكوام بالقرب من المغارات الضيقة. وكنت أخشى عليهم كثيراً من ذلك، لاحتمال أن تنفجر أثناء القصف الجوي.
وكل عدة أيام كانوا يتخلصون من تلك الأكوام بطريقة غامضة. وعندما أسألهم عنها كانوا يبتسمون. ولم ألاحظ أن أحدا منهم أصيب أو أن أحد الأكداس قد انفجر بالخطأ. وعندما أسأل كريم: هل أصيب أحد من تلك القنابل كان يبتسم قائلاً: الحمد لله الجميع بخير.
كان مبتسماً وكريم المعاملة مع الجميع. ولم أكن معجباً بمجموعته الشرسة غير المضيافة، وكانوا من أوزبك شمال أفغانستان، حيث كان يعيش كريم مع أسرته قبل قدومه إلى باكتيا لينضم إلى الجهاد مع قبيلة زدران التي ينتمي إليها. كان شجاعاً ولا يتغيب عن معركة قط، ولم أسمع يوماً أنه جُرِح.
ثلاث أطراف كانت تتقاسم الاهتمام بالقذائف العنقودية، وحسب أهميتهم لنا كانوا: المجاهدون ثم الأهالي ثم العدو نفسه. وحسب المناطق التي كنا فيها لم تؤثر القنابل العنقودية بأي شكل في مستوى نشاط المجاهدين. وأكاد أقول أنها أضافت المزيد من الإثارة والمتعة على برامجهم اليومية. فكانوا يجمعون القذائف العنقودية بسرعة من حول مواقعهم سواء المنفجر منها أو غير المنفجر. وكان خير مؤشر لمعرفة ذلك هو جارنا الكومندان “كريم” ومجموعته غير الودودة. فكان لديهم أكداس من الذخائر العنقودية يضعونها بالقرب من مغاراتهم بدون أي مبالاة، والعجيب أيضا؛ بدون أي حوادث، فلم يصب منهم أحد. ولم يحدث عندهم خطأ يتسبب في كارثة.
أما المناطق الأبعد عن مراكز المجاهدين فكان يتولى تطهيرها البدو “الكوتشي”. جزء منهم احترف تجميع الشظايا والقذائف غير المتفجرة وشرائها من أطفال البدو، ومن المزارعين الذين يجمعونها من الحقول. العائد المالي كانوا ينفقونه في شراء ترفيه غذائي للمجموعة التي تتبادل الأدوار.
تحميل مجلة الصمود عدد 211 : اضغط هنا
فهناك قسم يعمل في تجارة الشظايا لفترة ثم يتحول إلى القتال. وقسم آخر يعمل في القتال ثم يتحول إلى تجارة الشظايا (الخردة). وذلك تحت إشراف أمير عام لمجموعات البدو، الذي هو في العادة شخصية محترمة جدا وشجاعة وذو تاريخ جهادي. وكان من الأسماء الشهيرة التي عملنا إلى جوارها الشهيد منان ثم أخيه جولاب. وكانوا مجموعات من الأساطير الحقيقية في القتال وتحقيق المستحيلات الميدانية. هؤلاء القادة من الكوتشي متواضعون للغاية ودمثوا الخلق، ومحبون لجميع المجاهدين، وروحهم القتالية لا يمكن مجاراتها.
صديقنا كريم، رغم أنه ليس من البدو، إلا أنه كان يتمتع بنفس مزاياهم وشجاعتهم وعفويتهم.
تأثير القذائف العنقودية على المقاتلين البدو ومجموعات المجاهدين بشكل عام كان منعدماً تقريباً. إذ ظلت روحهم القتالية وطابعهم الهجومي على نفس مستواه السابق.
يضاف ذلك إلى زيادة الدخل والترفيه الغذائي نتيجة مبيعات القنابل العنقودية وشظاياها. والأهم كان أوعيتها الضخمة المصنوعة من الصلب. والتي تُدِرُ دخلا محترمًا على من يغنمها.
النتيجة الهامة أن طرق المجاهدين الفرعية، السرية والعلنية، جميعها كانت نظيفة تقريبًا من القنابل العنقودية نتيجة المجهود الشعبي الذي مارسه الأطفال البدو والمزارعون الذين لم يهاجروا.
هنا ملاحظة فرعية تقول بأنّ مجموعتنا العربية في تلك المرحلة من أوائل التسعينات كانت موضع ترحيب من الجميع، لأننا كنا جاذب ممتاز للطائرات التي كانت تقذفنا بجميع أنواع الذخائر وبكل أريحية وكرم. وكان ذلك موضع سعادة وترحيب ومورد رزق لتلك المجموعات المهتمة بتجميع الشظايا. وكنا بالقطع غير سعداء بتلك الشهرة.
ولا أذيع سرًّا عسكريًا إذا قلت أن بعض العرب في المراكز القتالية، ومراكزهم الإدارية القريبة، بدأوا يهتمون بتجميع الشظايا وبيعها للبدو. (حتى مجموعتنا العربية جرفها تيار الشظايا، لدوافع اقتصادية، وبسبب الحر والرغبة في شراء البطيخ). فقد كانت تلك المرحلة تتميز بالضغط المالي الشديد وقلة الموارد والطعام لدينا.
اهتم المدير الإداري لمغارات العرب بعقد صفقات بيع شظايا مع أحد “منافذ البيع” التابعة للبدو، في مقابل ثمار البطيخ التي جلبها البدو ضمن مواد غذائية أخرى في صفقات للمقايضة مع العرب وغيرهم. فكانت أرباح البدو مضاعفة، وكذلك سعادة الشباب العرب بثمار البطيخ في جو الصيف الحار.
الصورة على جانب العدو كانت مختلفة. فقد أدت القذائف العنقودية إلى تكريس الوضع الدفاعي لدى قواته. فقد كان يمطر بها الممرات والمدقات التي يشتبه في أن المجاهدين قد يستخدمونها. وفي الحقيقة أنه كان يكرس مفهوم الدفاع الثابت الذي لجأ إليه منذ سنوات.
فالقصف بالعنقودي كان يهدف إلى حماية التجمعات العسكرية الثابتة للعدو، في إشارة غير متعمدة إلى أنه لن يخرج منها، ولن يستخدم تلك الطرق في أي هجوم مضاد على المجاهدين. ولو أنه فعل ذلك أثناء معارك فتح خوست وشن هجوماً مضادا لاستطاع أن يصل بسهولة إلى الخطوط الخلفية للمجاهدين، وكانت شبه خالية، إذ كان الجميع قد تقدموا إلى الوادي وأطراف المدينة تاركين خطوطهم الخلفية لبعض العاملين في الخدمات الإدارية وأفران الخبز.
كان صديقنا كريم من ضمن الذين لم ترعبهم القنابل العنقودية ولا صواريخ سكود ولا ذخائر الطائرات التي كانت تستخدم لأول مرة، ولا يعرفها أحد. وضمن حركة التفاف وتطويق، تقدم كريم مع مجموعته الأوزبكية وقوة من المجاهدين لاقتحام خط الدفاع الأخير للعدو فوق جبال خوست الشرقية. وأثناء السيطرة على خط الدفاع، صعد كريم مع رجاله للاستيلاء على آخر قمة تَبَقَّي عليها عدد من الجنود المرعوبين الذين كانوا يطلقون النار خوفاً من الاستسلام للمجاهدين. أراد كريم أن يقنعهم بالتسليم حتى لا يتعرضون للعقاب، فتقدم نحوهم وهو منتصب القامة وفي صوته أمل ورجاء الأخ الأكبر. ولكن أحدهم أطلق النار على صدره مباشرة ، فسقط شهيداً على الفور.
سمعنا الخبر المذهل عبر أجهزة اللاسلكي.
لم أكد أصدق أن كريم الشامخ قد استشهد فوق قمة الجبل، في قمة لحظة الانتصار. وأردت التأكد من صحة الخبر ، فأكد الجميع أن كريم قد استشهد. [وكما يموت الناس مات].
تحميل مجلة الصمود عدد 211 : اضغط هنا
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )