آخر تحديث : 11/04/2023
ذات يوم .. (25)
موقعة المكرونة في وادى أبدكاي
الزمان: في شهر رمضان 1421هـ الموافق لشهر نوفمبر2001 وقعت أحداث تلك القصة التي يرويها الفتي عبد الله حامد(19)عاما في ذلك الوقت.
المكان: أفغانستان ـ منطقة(أبدكاي) في ولاية لوجر بفاصل سلسلة جبلية عن منطقة (زرمت) في ولاية (باكتيا).
الوقائع : فى الشهر الثاني من الحرب التي شنتها الولايات المتحدة لإحتلال أفغانستان ، تحت ذريعة حادث سبتمبرمن نفس العام.
ابدكاي منطقة إستراتيجية هامة، خاصة في ذلك الوقت ،حيث كانت تحمي خطوط حركة المهاجرين من أفغانستان من عرب و أوزبك وأيضا من حركة طالبان الذين يغادرون مواقعهم القديمة للتفكير في المستقبل القادم بعد أن تنجلي غمة تلك الحرب المذهلة .
كان يدافع عن أبدكاي مجموعة من الأوزبك التابعين للجماعة الإسلامية الأوزبكية التي يقودها “محمد طاهر جان”. وخلال تلك المرحلة المضطربة تَواجَد الفتي عبد الله ، وحمل السلاح للدفاع عن أبدكاي تحت قيادة الشخصية الأزبكية الأسطورية ،(الكومندان شمس )، ومعهم ثلاثون شاباً أوزبكياً، تقلصوا إلي نصف ذلك العدد . الموقف كله كان غير عادي من جميع الجوانب: البشر والمكان والأحداث. أكثر ما يلفت النظر هو (الكومندان شمس) الأشقر ذو الشعر الأحمر، مهيب القامة، خارق الذكاء والقوة. فكان تجسيدا للمقاتل الأوزبكي من هؤلاء المسلمين ذوي السيوف الصارمة والعزيمة البتارة .
أنهم ملوك خوارزم وفرسان تحرير القدس فى زمن المتخاذلين والخونة من أبناء صلاح الدين فاتح القدس. وقريباً سيكونون فرسان القدس في زمن المطبعين والمنهارين العرب . ولكن الخوارزميون والسيوف الأوزبكية لا تنتهي عجائبها ولا تموت .
ملاحظة : الفقرة التالية من [ذات يوم] مأخوذة عن كتاب قيد الإعداد وعنوانه ،(في صباح الجيل التالي)، هذا إذا لم يتغير إلي عنوان آخر. ليس هناك موعد لصدور الكتاب، وإن كان علي وشك الانتهاء. ولكن الانتهاء هو الانتهاء.. وقد لا يعني صدور كتاب جديد .
ملاحظة أخري : بعد إنتهاء معركة أبدكاي ودخول القوات الأمريكية ومعها القوات التابعة لها من تحالف الشمال والأرْبَكيَّة المرتزقة لم نسمع أي خبر عن القائد الأسطوري (الكومندان شمس) .
فأن كان مازال حياً فهو الأن في القدس أو أنه في الطريق إليها .
وإن كان قتل فهو شهيد .. .. [وكما يموت الناس مات] .
بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
عند منتصف الليل جاء الي خيمتنا الكومندان شمس وطلب مني أن أذهب الي الخيمة الأخرى لأستدعي له شخص ما من هناك. وطلب أن أركله بقدمي إذا رفض الاستيقاظ . ولكنه استيقظ على أي حال بدون أن أركله. وجاء لمقابلة شمس،الذى أمره أن يستلم مني نوبة الحراسة لأنه سيذهب معي في مهمة إلى الوادي عند القرية. وكان القصف مستمراً، ولكن العاصفة الثلجية قد هدأت قليلا.
طلب مني شمس ان أحضر معي دلواً فارغاَ، وأن أضع فيه ثلاث أكياس من المكرونة الجافة وعلبه سمن . تعجبت وسألته عن السبب. فإجاب بأننا سنذهب الي القرية .
زاد عجبي وسألت أكثر :لماذا؟؟.: فأجاب لكي نطبخ المكرونة هناك. فنحن لا نستطيع أن نوقد النار هنا. ونحن الآن في شهر رمضان وعلينا أن نصنع طعاما جيدا للسحور والإفطار. وليس لدينا سوى المكرونة والسمن. فتعال معي لنطبخ المكرونة في أحد بيوت القرية، وستكون مفاجأة للشباب فى شهر رمضان.
تراكمت السحب وبدأ الثلج يهطل مرة أخري، والضباب يغطي المكان ويجعل المكان أكثر إشعاعا وبياضاً. وكانت القذائف تسقط في أماكن متفرقة من حوض أبدكاي .
وفي الطريق إلي القرية حاول الكومندان شمس تشجيعي وقال بحماس: سندخل إلي بيت قديم ونغلق الشقوق والأبواب حتي لا يظهر الضوء للطائرات، ثم نشعل النار ونعد وجبة المكرونة ونستمتع بالدفء في هذا الصقيع .
كنت أعلم من تجربتنا في الخيمة أن حبس الدخان في المكان المغلق يصيبنا بنوع من التسمم والدوار، ونبقي مرضى طول اليوم. وثمن التدفئة باهظ جداً، والبرد ينفذ إلي عظامنا ولا نستطيع منعه بأي شيء آخر سوي بإيقاد النار والتعرض للتسمم بالدخان، أو أن تمزقنا صواريخ الطائرات إذا لمحت الضوء المنبعث من الخيمة أو البيت .
– كان الكومندان شمس سعيداً للغاية وواثقا من النتائج المبهرة للمغامرة التي أوشكت أن تبدأ لتجهيز المكرونة. وقد جهز “طشت” من الالمنيوم ليستخدمه كوعاء للطبخ. وذهب إلي البئر ووضع الماء في الدلو وأفرغه في الطشت. ثم وضع الطشت علي النار، واوقد اللهب الذي أمده بكميات من الخشب وبعض المناضد والكراسي التي حطمها. وسريعا امتلأت الغرفة بدخان كثيف ودمعت أعيننا وأخذنا نسعل بشدة . فأسرعت نحو الباب لأضع أنفي في أحد الشقوق الخشبية وأستنشق بعض الهواء المنعش من الخارج .
كومندان شمس قاوم الاختناق ببطولة، ووضع المكرونة في الماء وصب فوقها نصف علبة السمن التي معنا. لاحظت أن الملح ينقصنا، ولكن الكومندان لم ير بأسا في ذلك. وقال أنه يمكن أن نأكل المكرونة بدون ملح. فنحن أيضا ليس لدينا خبز وليس لدينا أي شيء نأكله في سحور هذه الليلة سوي هذه المكرونة.
كان الكومندان شمس متحمسا للغاية وهو يتصور فرحة الشباب الغامرة من تلك المفاجأة، فيسرع في تقليب المكرونة متعجلا نضجها. ويضع المزيد من الخشب في النار والسمن على المكرونة . بينما عيوننا لا تتوقف عن الدمع، والسعال يمزق صدورنا، ولا يمكننا تنفس الهواء. ومع ذلك كان الكومندان شمس في سعادة غامرة، والدخان يتصاعد من خلال شعر رأسه الأحمر المجعد، وقد غسلت الدموع وجهه الأبيض الخشن المستطيل ، وهو جالس علي ركبتيه بقامته الفارهة أمام موقد النيران الزاخر بفوضى المواد المشتعلة المتناقضة والعجيبة، من بقايا مناضد وأسِرّة وخشب من السقف. كان في معاناة شديدة أمام النار والدخان والمكرونة العنيدة . ولكنه نسى كل شيء وهو يتخيل فرحة الشباب بهذا الطعام الفاخر في هذه الليلة الرمضانية المباركة.
ولأنه كان غارقا في أوهام المكرونة، فلم ينتبه إلى أن القصف قد بدأ يطال القرية ويقترب من البيت الذي نحن فيه. فكنت أتولى تذكيره بالخطر عند كل انفجار، قائلا: إن القنابل تقترب منا.
فكان ينهرني قائلا: ما دمت تصيح قائلا “ياكموندان شمس” فهذا يعني أننا مازلنا أحياء.. فأتركني أكمل هذا العمل الرائع .
في كل مرة أحذره كان يقول أنه أوشك علي الانتهاء. وبالفعل إنتهي من طبيخ المكرونة في حوالي أربعين دقيقة فقط.
ثم نهض قائلا بلهجة المنتصر : لقد إنتهيت.
وأطفأ النار بالكامل مستعينا بما تبقي من مياه في الدلو .
ثم أفرغ المكرونة من طشت الطبيخ إلي الدلو. وحمله بيده قائلا:
– إسمع ياعبد الله،عندما نفتح الباب تنطلق أنت إلي مجري السيل التالي وتنتظر حتي ألحق بك. وهناك سوف نجلس ثلاث دقائق ثم نجري مرة أخري نحو الصخرة التي علي شكل كف اليد ، لنختبئ خلفها.
كان يحفظ المكان بشكل تفصيلي مدهش. وقال ستذهب أنت أولا إلي الصخرة وبعد ثلاث دقائق ألحق بك، وعندها سوف أخبرك ماذا سنفعل. ولكن تَذَكَّر: عندما أفتح الباب تنطلق بسرعة وتستلقي في مجري السيل.
وبالفعل ما أن فتح الكومندان الباب حتي انطَلَقْتُ إلي مجري السيل، وكان على بعد عشرين مترا . ثم لحق بي في مجري السيل وهو يحمل في يده دلو المكرونة منطلقاً بأقصى سرعة وكأنه اختطف من العالم كنزاً ثميناً، والدنيا كلها تطارد لأجل استعادته. أو أنه شعر من عنف الاستهداف الصاروخي أن أمريكا تسعى لانتزاع دلو المكرونة من بين يديه.
قال لي: إذهب أنت إلي الصخرة وسألحق بك بعد ثلاث دقائق . نهضت ونظرت خلفي نحو البيت فشاهدت سحابة ضخمة من الدخان تنبعث من “مصنع المكرونة”. سحابة تكفى لأن يشاهدها سكان القمر .
وعندما شاهدها الكومندان غيَّر رأيه فورا وقال :
– بل سأجري معك ونذهب سوياً إلي الصخرة.
وما كاد ينهض حتي وصلنا صاروخ سقط علي بعد عشرين مترا فقط ،فدفعنا بعيداً ونحن نتقلب على الأرض. وكان الكومندان يحتضن كنز المكرونة وقد انقلب جزء منه علي الأرض.
وبدلا من يواصل الكومندان شمس الجري إلي الصخرة، طبقا للخطة، توقف ليخلع سترته الشتوية ويغطي بها دلو المكرونة، وهو يقول: لا ينبغي أن نفقد طعام السحور، فالشباب ينتظرون تلك الوجبة علي أحر من الجمر.
كنت مذهولا مما يفعله، فنحن نتجمد في هذا الليل، وهو يخلع سترته ليحمي بها دلو المكرونة الذي أعده لسحور الشباب. وفى سبيل ذلك عرَّضَنا للموت بصواريخ الطيران الأمريكي .
وما كدنا نبتعد حتي لحقنا صاروخ آخر على نفس المسافة تقريبا. فغطتنا الأحجار والأتربة ولكن لحسن الحظ أن دلو المكرونة كان مغطي جيداً بسترة الكومندان الذي يجري بقميصة الصيفي تحت الثلج المنهمر والصواريخ التي تطاردنا بكل أصرار وشراسة . القذيفة الثالثة أصابت البيت الذي كنا فيه. وقذيفة رابعة تلتها مباشرة فأصابت قلعة ريفية ضخمة إلي جانب بيت المكرونة الشهير .أن
وجدت نفس غير قادر علي رؤية أي شيء أو سماع أي شيء كان التراب يغطي ويملأ كل شيء. فننادى و نصرخ، ولا يسمع أحدنا الآخر، حتي فقدنا بعضنا البعض داخل ذلك الإعصار من النيران والتراب.
الإنفجار الذي أصاب القلعة الريفية كان ضخماً للغاية وتلاه انفجار أخذ ينتشر علي شكل دائرة تتسع من مركز الانفجار . كانت الدائرة تتقدم نحوي قادمة من البيت الريفي الذى أصيب. وتخيلتها إعصارا تتسع دائرته إنطلاقا من القلعة. الاعصار ضربني بعنف فأصبت بالأغماء، ولم أعد أشعر بما حولي. وأستمر ذلك لمدة قدَّرْتُ أنها ربع ساعة.
استيقظت بينما شخص يزيل عني الأحجار والأتربة. وكان هو الكومندان شمس. أما سقوطي علي الأرض وعدم قدرتي علي الحركة فكان بسبب كتلة كبيرة انفصلت عن جدار طينى ، طارت في الجو ثم سقطت فوق ظهري. فظن الكومندان أنني قتلت. فأبلغ زملاءنا في الخيمة بأننى مضيت شهيدا .
الخبر إنتشر بشكل سريع جدا في أبدكاي، شمالها وجنوبها، وحتي في منطقة زرمت التي وصَلتُها بعد أيام ،فوجَدتُ الجميع مندهشاً لبقائي حياً، بعد أن ظنوا أنني قتلت في أبدكاي .
توالت الإنفجارات علي مسافات قريبة مني ومن الكومندان شمس. ولا أدري كيف لم نُقتَل . كان هَمْ الكومندان شمس أن يسحبني من يدي لنجري في اتجاه الخيام .
وكان مازال ممسكا بدلو المكرونة المغطى بسترتة الشتوية. اكتشفت بعد ذلك أن المكرونة لم تنسكب بسبب أنها كانت متماسكة مثل كتلة اسمنتية غير قابلة للانسكاب أو التقسيم.
كان كل جسم الكومندان ملئ بالجروح النازفة. ويسألني بإستمرار: هل أنت بخير؟؟.. فأجيبه : نعم.
فيطلب مني أن أواصل الجري!! .
أمسكت معه بدلو المكرونة وجرينا به سوياً . وكان يواصل التسبيح قائلا (لا اله الا الله محمد رسول الله) ويطلب مني أن أفعل نفس الشئ ونحن نركض. وبالفعل واصلنا الجري ونحن نسبح ونحمل دلو المكرونة فيما بيننا بالتساوي.
كنا ما زلنا علي مسافة من سلسلة الجبال ولكن طاقتنا قد نفذت تماما. قال لي الكومندان شمس:
– فلنجلس هنا ونستريح وننتظر حتي يهدأ القصف لأنهم سوف يطاردونا حتي نصل معهم إلي خيام إخواننا في الجبل .
هدأ القصف قليلا فواصلنا الجري إلي الجبل. وبدأنا الصعود صوب الخيمة. وما تبقي في الدلو من المكرونة ظل سليماً تحت السترة. أما الكومندان شمس فكان ينزف دما من أنفه وفمه. وأنا بدأت أشعر بالالم في ظهري وبعض الخدر في قدمي. وسألني شمس إن كنت أستطيع المشي؟ فأجبته أنني أستطيع .
فقال: إذاً انت بخير فلا تخش شيئا .
وفي الخيمة تجمع الشباب حولنا بينما الكومندان يصف لهم( قدرة الله التي تجلت في بقاء عبد الله سليماً رغم الكتلة الطينية الكبيرة التي سقطت فوق ظهره). واعتبر الكومندان ذلك دليلاً علي حفظ الله لتلك المجموعة في أبدكاي.
– وكأنه يوزع أوسمة التكريم، بدأ الكومندان شمس يوزع المكرونة علي الشباب، في أشياء تشبه الأطباق .
أول المعترضين علي الطعام كان صديقي أيوب. ذلك الفتى الأسترالي الأنيق، المعترض علي كل شيء. وقد وجه كلامه لي، فسألنىي مستنكرا :
– عبد الله لقد نزلت أنت وشمس في مغامرة ، واشرفتما علي الموت عدة مرات، حتى ظننا أنكما قتلتما بالفعل. كل ذلك لتصنعا لنا كتلة من العجين تقولون أنها مكرونة. إنها مثل معجون (سريلاك) مثل الذي نصنعه من مسحوق الحمص والماء.
تخيلت أن شمس كن يفضل أن يصاب بصاروخ طائرة من أن يسمع هذا الكلام من “أيوب” المتأنق.
الإتصال اللاسلكي قطع بيننا وبين القيادة الخلفية منذ أن بدأ القصف علينا ونحن نصنع المكرونة. وبعد يومين من الحادث جاءت إلينا سيارة من القيادة الخلفية لتطمئن علي أخبارنا. وكان آخر شيء سمعوه هو أنني قتلت أنا وشمس في غارة معركة المكرونة الشهيرة .
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )