ذات يوم (23)
(حرب الممالك الطبية الثلاثة )
صراع طبى داخل تنظيم القاعدة
الرئيس الأمريكى بايدن مارس العربدة فى شوارع كابل، مُطلِقاً صواريخ مسيراته على نوافذ المواطنين الأبرياء ، مستعيدا سيرة المؤسسين “العظماء” للولايات المتحدة ، الذين مارسوا القتل فى الشوارع بذريعة إقرار القانون. حتى أبادوا حضارة البلد المُحْتَل.
يدَّعى الرئيس الأمريكى أنه قتل أمير تنظيم القاعدة أيمن الظواهرى بواسطة صاروخين أطلقتهما إحد مسيراته على نافذة بيت فى كابل، وكان فى تقدير بايدن أن الدكتور الظواهرى تجرأ(و بدون الحصول على موافقة أمريكية) على أن يتنفس الهواء من النافذه بعد صلاة الفجر.
– وفى الحال أطلق بايدن سيلا من الأكاذيب. وادعى أن الظواهرى مسئول تقريبا عن كل ما يُنْسَب إلى تنظيم القاعدة من عمليات ضد الولايات التحدة، وعلى رأسها عملية 11 سيبتمبر الشهيرة.
لم يكن ذلك صحيحاً لأن الدكتور الظواهرى إنضم إلى تنظيم القاعدة قبل عملية سبتمبر بحوالى خمسة أشهر. وقتها كانت العملية فى أواخر مراحل التجهيز، ولم يكن على علم بها.
وبالتالى لم يكن على علم بتفجير السفارات الأمريكية فى أفريقيا ، ولا بتفجير المدمرة الأمريكية فى ميناء عدن.
– الولايات المتحدة تنافس نفسها فى الأكاذيب والمبالغات التى تنسبها إلى أعدائها. كما أنها تبالغ فى إستخدام قوتها، خاصة إذا كانت إمكانية الرد بالمثل منعدمة.
– إنضم الدكتور الظواهرى إلى تنظيم القاعدة ومعه نصف أفراد تنظيم الجهاد (أى خمسة أفراد فقط )، بعد أن عاد من منفاه الإختياري فى القوقاز. وقد سمع بعودة بن لادن وقيام تنظيم القاعدة بعملية سفارتى أمريكا فى(نيروبى ودار السلام). فعاد إلى أفغانستان عام(1998). وعاش مع أسرته فى قرية (عرب خيل) جنوب مطار قندهار مع بن لادن وقادة القاعدة.
– وبشكل ما كانت القرية تمثل واحة فى صحراء قندهار، ولكن فى المجال الإنسانى وليس الزراعى ولا الطبي.
– الدكتور الظواهرى رجل مُهذب للغاية، ويخدم الجميع بإخلاص، فى مجال تخصصة الطبي .
ورغم أنه طبيب جراح، إلا أنه كان مضطراً للتعامل مع جميع الأمراض التى تفشت فى أفغانستان فى ذلك الوقت، وطالت قرية عرب خيل.
القرية محاطة بسور واسع ومرتفع، ولكن لم يمنع عنها الثعالب أو الأفاعى. وبالطبع لم يمنع عنها الأمراض الكثيرة التى تفشت فى أفغانستان، مثل الملاريا والتفوئيد. وأخيراً المرض جلدى يسمى “النشمية”. وكان مرضاً مزعجا للغاية، وهو عبارة عن جرثومة تصيب الجلد فتحدث فيه حُفَراً تنتشر فى الجسم، وتتوسع بالتدريج، وتنتقل من فرد إلى آخر . العلاج الوحيد وقتها كان مجموعة من الحُقَن تؤخذ يومياً فى البقعة الجلدية المصابة، مع حقن أخرى تعطى للمريض فى العضل . كان الدواء يُسْتورد من باكستان، لذلك كان فى الغالب مغشوشاً وغير فعال، ولكن لا يوجد مناص عن إستخدامه، فهو جزء من القضاء الذى لابد من الإستسلام له. ولم يكن ذلك بلا ثمن، فقد مات الكثير من الأفغان بالأمراض التى تستدعي أدوية تأتى من باكستان .
ظهرت إصابات النشمية فى قرية عرب خيل، إلى جانب التفوئيد والملاريا وأمراض الجهاز الهضمى . فكان العبء كبيراً على الدكتور الظواهرى.
وبالطبع تدخل بن لادن وأبو حفص المصرى للمساعدة فى العلاج، مستعينان بخبرات طبية قديمة متوارثة عن الأجداد. فقرأ كل منهما عدة وريقات تنتمى إلى نوع مختلف من الطب. فبينما تخصص أسامة بن لادن فى العلاج بالصبر ، متسلحاً بمقولة مجهولة المصدر تقول “إن الصبر يعالج سبعين داءاً”. فإن أبو حفص الذى يتميز بالعناد الشديد تخصص فى نوع آخر من الطب، وهو العلاج بالأعشاب. وقرأ وريقات قديمة، معتقداً أنهما من أسرار الحضارات البائدة، وسار على نهجها فى علاج ضحاياه .
سوء الحظ ساق سيف العدل إلى أيدى مجموعة أطباء القرية. وهم فى ثلاث مدارس طبية متنافسة بشدة. أولهم الدكتور الظواهرى الذى يمثل مدرسة الطب الحديث. فهو جراح تحول إلى “ممارس عام” يفعل الحاجة إلى عدة أطباء فى تخصصات مختلفة، وكان ذلك مستحيلاً.
مدرسة الطب الأخرى كان يمثلها أسامة بن لادن بقوته التنظيمية وقدرته على الإقناع بالإبتسامة السمحة والضغط على رقاب المرضى بسيف الحياء. ثم لا يعالجهم بغير الصبر، وكما قيل فى الأمثال الشعبية: (الصبر طيب .. صبرنا أحسن دوا). فكان ذلك شعار مدرسة بن لادن الطبية ، أو بالأحرى هكذا فهم مرضى القرية فلسفة تلك المدرسة الطبية (وحيدة الدواء).
أما أبو حفص فقام بالعديد من الرحلات السرية إلى كبار العطارين. وأوصى بعض الأصدقاء من أنصار تنظيم القاعدة فى أفغانستان، بأن يشتروا له كمية متنوعة من الأعشاب الطبية، مثل الحِنَّاء والشيح والحَبْهان والمِسْتِكَة و”عين العفريت” والحبة السوداء، إلى آخرة. فملأ صندوقاً متوسطاً من تلك العجائب العشبية التى تشفي المريض بإذن الله، ولكن إن مات، فهذا هو قَدَرُه، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
(ملاحظة: لم يستشهد أى مريض فى القرية نتيجة ذلك الصراع الطبى الذى دار بين الممالك الطبية الثلاثة).
– فى صباح أحد الأيام دعانا (أبو عبدالله)ـ أسامة بن لادن ـ لتناول الشاى معه. فذهبت مع الدكتور الظواهرى وأبو حفص. وقبل تناول الشاى ناولنا بن لادن قطعة من “الصبر” فى حجم رأس الدبوس، لنأكلها قبل الشاى. بلعتها بدون تعليق. ولكن الدكتور الظواهرى و”الدكتور” أبو حفص، هاجما الدواء المفضل لدى بن لادن. فقال الدكتور الظواهرى متحدياً : لماذا تعطينا هذا الشئ المُرْ فى بداية هذا الصباح الجميل. فأجابه بن لادن كالمعتاد، بأن “الصبر دواء لسبعين داء”. فضحك الظواهرى وقال له: “أخبرنى فقط عن إسم سبعة أمراض منها”. فضحك بن لادن بسعة صدر، وسماحة تفتح له القلوب مهما كانت الخلافات .
– من سوء حظ سيف العدل أنه أصيب بالنشمية. فأخذ السيارة إلى المدينة لمراجعة الطبيب الذى أعطاه حقنتان وصرف له مجموعة من الحقن ليتناولها بشكل منتظم.
كان شهر رمضان فى أيامه الأولى، فبدأ بن لادن وأبو حفص برنامجاً للإعتكاف. فبنى كل منهما ما يشبه خيمة مغلقة داخل المسجد . وعندما عاد سيف العدل من المدينة ذهب إلى المسجد كي يطلعهما على نتيجة زيارته للطبيب . دخل من باب المسجد وألقي السلام بهدؤ هامس . فأطل عليه أبو حفص من باب خيمته ـ وكان الأقرب إلى باب المسجد ـ وأشار إليه بالإقتراب، وتكلم معه بصوت منخفض وجاد للغاية: ماذا فعلت؟ سمعت أنك مريض؟ فأجاب سيف العدل: نعم صحيح . لقد أخبرنى الطبيب أننى مصاب بالنشمية، وأعطانى عدة حقن أخذت منها إثنتين وأحضرت الباقى معى . همس أبو حفص بصوت خفيض : أُتركك من هذا، عندى لك أحسن دواء للنشمية. سأعالجها لك بالحناء والثوم، ولن تشعر بأى ألم . أراك فى الصباح، وسأجهز لك الدواء، ولا تخبر”أبا عبد الله” بشئ.
ثم عاد أبو حفص إلى إعتكافه وأعاد إغلاق باب الخيمة عليه. وما أن خطي سيف عدة خطوات داخل المسجد حتى أطل عليه أسامة بن لادن من باب خيمتة وناداه بصوت هامس. فذهب إليه سيف ماشياً على أطراف أصابعه. وشرح له ما حدث مع الطبيب فى المدينة . شعر بن لادن أن سيف يخفى شيئا، فسأله: هل أخبرت أبو حفص؟.
فأجابه سيف : نعم .
فسأله بن لادن: وماذا قال لك؟.
فأجاب سيف: قال أنه سيعالجنى بالحناء والثوم .
إمتعض وجه بن لادن وقال له: لا تسمع كلامه، عندى لك علاج بالصبر الذى يشفى من سبعين داءً . ولكن لا تخبر أحداً.
خرج سيف العدل من المسجد قاصدا بيته، فصادف الدكتور أيمن الظواهرى الذى سأله بدوره عما حدث معه فى قندهار، وأيضا عما قال له الشيخان فى المسجد. وكان يتوقع أنهما عرضا عليه علاجاً مختلفاً عن علاج الطبيب فى المدينة. فأخبره سيف بأن ذلك صحيح. فنصحه الدكتور بأن لا يُغَيِّر العلاج الذى وصفه الطبيب، وأن يأخذ الأمر بجدية حتى لا ينتشر المرض فى القرية .
– دار هذا الصراع الطبي فى أروقه تنظيم القاعدة بعد مدة من إنتهاء الصراع حول الماء الذى أكتشفه سيف العدل فى ترعة حكوميه قريبة من القرية. فسحب الماء نحو بيته بقناة صغيرة . تلك القناة (قناة سيف العدل) أكتشفها بن لادن، فسحب منها الماء(ليلاً) إلى بيته. ثم إكتشف أبوحفص (قناة بن لادن) فسحب منها الماء(ليلاً) إلى بيته. ثم تفشت سرقات الماء فى القرية حتى جفت القناة الأصلية التى أسسها سيف العدل. وكان سكان القرية قد تسلحوا بالجواريف للدفاع عن قنوات الماء الخاصة بهم . فكلما سرقها أحدهم أعادوها بسرعة إلى مسارها “القانونى”. حتى تَخَيَّلتُ وقتها أن كل منهم ينام وإلى جانبه جاروف وكلاشنكوف.
وأخيراً أضطر بن لادن إلى حفر بئر عميقة فى ساحة القرية. فإنتهت بذلك حرب المياه فى قرية عرب خيل.
– ولكن التنافس الطبى بدا منذراً بالإستمرار. فالأمراض تتزايد فى قندهار وتنتقل إلى القرية .. أو العكس .
– مرة أخرى أصيب سيف العدل بأحد الأمراض السارية. فأخذوه للعلاج فى بيوت منعزل على أطراف المدينة. وذهب الدكتور أيمن الظواهرى لعيادته والإشراف على تناوله للأدوية الحديثة، بعيداً عن علاجات المدارس الطبية المتنافسة وتحديداً مدرسة بن لادن ومدرسة أبوحفص.
– نقطة الضعف فى عمل الدكتور أيمن الظواهرى كانت الأدوية الباكستانية المغشوشة، والتى وجدت رواجا فى أفغانستان بين الأهالى ومنهم العرب .
– كان سيف العدل ممدداً فوق السرير وقد علق الدكتور الظواهرى فى يده محلول “السيروم” لإختبار حساسيته للدواء الجديد. وكان المفروض أن مدة الإختبار هى دقيقة واحدة. فلما تخطي تلك الدقيقة أمرهم الدكتور الظواهرى بترك الدواء ينساب إلى جسمه بالتدريج. ثم إنصرف عنهم، ذاهباً لفحص مريض آخر فى مكان بعيد .
وما أن وصل إلى الباب الخارجى حتى أصيب سيف العدل بإرتفاع كبير فى درجة الحرارة، واحْمَرَّ وجهه بشدة، وصرخ من الألم، ونزع إبرة المحلول من يده. فركض أحد الشباب خلف الدكتور الظواهرى ليعيده مرة أخرى. رجع الدكتور راكضاً وهو متقطع الأنفاس مضطرباً. وأخذ يقدم إعتذارات كثيرة، مشيداً بسرعة بديهة سيف الذى إنتزع أنبوب الدواء من يده.
وبعد أن تدارك الدكتور الموقف، شرح لسيف العدل أن الدواء الباكستانى مغشوش. وأن نتيجة إختبار الحساسية بدلاً من أن تظهر فى دقيقة واحدة فإنها تظهر بعد ثلاث دقائق. وبالطبع فإن المريض قد يدفع حياته ثمناً لذلك.
– بعد دقائق من الصمت قال الدكتور الظواهرى مخاطباً سيف العدل : هل تعلم ياسيف أنك كنت على وشك أن تصبح السادس ؟.
لم يوضح الدكتور الظواهرى هل كان سيف العدل السادس فى خلال عام أم لهذا اليوم فقط .
والأهم أنه لم يوضح : السادس فى أى شئ ؟؟.
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )