ذات يوم (16)..فى الذكرى 11 لإغتيال بن لادن: بن لادن .. من (قرية العرب) إلى (بحر العرب)
ذات يوم (16)
( فى الذكرى 11 لإغتيال بن لادن ) :
بن لادن .. من (قرية العرب) إلى (بحر العرب)
كان أسامة بن لادن مغرماً بالمشاريع المعمارية الضخمة. فأقام العديد منها فى قرية “عرب خيل” و نسختها النهائية فى صحراء قندهار، خلال الفترة التى إمتدت من أواخر (1996) وحتى سبتمبر (2001) بعد حادث نيويورك الشهير، والذى كان مشروعاً إستثنائياً فى حياة أسامة بن لادن المهنية. فهو إنشاء ولكن فى الإتجاه العكسي، من الأعلى إلى الأسفل، عندما هدم أبراج مركز التجارة العالمى فى نيويورك. فكانت أحد نتائج ذلك قيام الطيران الأمريكى بتدمير قرية “عرب خيل” وإزالتها من الوجود . فخسر العالم أثراً تاريخياً هاما وضاع جزء من تاريخ الحركة الإسلامية .
– عندما إستلم بن لادن القرية كانت مجرد بيوت أسمنتية خربة ، مهجورة ومنسية، بين رمال الصحراء. وكان يسكنها خبراء روس (أو ألمان شرقيون) كما أخبرنا البعض . وتقع القرية بالقرب من ترعة مياه كانت جزءً من مشروع زراعى ظل يعمل على إستحياء بعد إنتهاء الحرب .
أصلح بن لادن عدداً من البيوت لسكنى العائلات التى ترافقه. وكانوا عشرين عائلة، ثم زاد عددهم بعد الشهرة الكبيرة التى نالها تنظيم القاعدة إثرَ العمليات ضد الولايات المتحدة فى أفريقيا ثم ميناء عدن .
أقام بن لادن سورا طينياً حول كل بيت. فأضيفت للمقبرة الأسمنتية قطعة أرض تبلغ مساحتها مئتى متر تقريبا. حاولوا زراعتها وقاموا بتربية بعض الدواجن والطيور. وكان لي واحدة من تلك “الفيلات”، مكثت فيها مع أسرتى عدة أشهر قبل أن أترك القرية غاضباً ،عائداً إلى موطني الأصلي فى (خوست). لم أزرع شيئا فى الحديقة ولم أهتم بالدواجن لسببين الأول هو أن جارى ، الشاب الأفريقى الطيب (أبوخليل)، كان يَمُدُّنا بالأرانب التى تكاثرت عنده بشدة. (أبو خليل قتلته الطائرات الأمريكية أثناء الحرب. وقتلت جميع أرانبه عندما قصفت القرية).
– تشاغلتُ فى حديقة منزلى بمراقبة ظاهرة حيوانية عجيبةـ وهى صداقة ربطت بين فأر صغير خفيف الظل سريع الحركة إستوطن الحديقة وعاش بين كومة من الأحجار. وكان يأتى قط عند العصر ليلعب معه لعبة القط والفأر، إلى أن يمسكه، فيرقد الفأر أمامه مستسلماً، ثم يجرى فجأة ليختبئ بين الأحجار ليظهر بعد قليل لتكرار اللعبة حتى حلول الظلام. ثم ينصرف كل منهما إلى حال سبيله، فى إنتظار عصر اليوم التالى لتكرار نفس اللعبة. كنت أراقب اللعبة وغرائب السلوك الحيواني، وأستخلص النتائج التى أهمها أن القط والفأر ليسا أعداءً، بل أن الجوع الكافر هو العدو المشترك الذى يُحَوِّل العلاقة من اللهو البرئ إلى المطاردة المميتة. وكذلك هو الإنسان (فى قريتنا مثلا) لا يكره الطيور والأرانب ، ولكنه الجوع الكافر هو الذى يجعله يمسك السكين ويذبح ليأكل.
هذه التأملات أبقتنى بعيداً عن حرب المياه ومشاكل الشورى والكهرباء. فلو أن فى بيتنا مروحة وأصبح المكان بارداً، لحضر القط والفأر للمعيشة واللعب داخل البيت ، ولكنا نحن مضطرون للمعيشة فى الفناء الخارحى، ليلا ونهارا.
وقد مرت أسرة بن لادن بتجربة مشابهة، ولكن مع أفعى صحراوية سامة، لجأت ظهراً إلى المنزل بحثاً عن شئ من البرودة . وأعجبتها غرفة الضيوف فجلست فوق الوسادة وهى تصدر فحبحا عاليا لتحذير الدخلاء من أهل الدار . لم يكن بن لادن هناك ، فخرجت العائلة إلى ساحة البيت باحثين عن مُنْقِذ ،حتى وصل الفتى “عثمان بن لادن” الذى إشتبك مع الأفعى و سحقها بكعب البندقية.
– أقام بن لادن سوراً حول القرية كلها أسميتة (سور عرب خيل العظيم). إستغرق بناؤه ما يقارب الشهرين. وعمل فيه عشرات من العمال. فكان مشروعاً مفيداً من هذه الناحية. كما أن السور أوقف رحلات كان يقوم بها بعض الأهالى إلى القرية بسياراتهم، فيتجولون بين البيوت للفرجه على كائنات غريبة، لبسوا من أى صنف بشرى يعرفونه. وبسبب حُبُ الإستطلاع لديهم كادت أن تحدث صدامات بينهم وبين العرب، إلى أن أقام بن لادن مشاريع الأسوار حول البيوت ثم “السور العظيم” حول القرية كلها.
– كانت القرية خالية من السكان عندما قامت القاذفات الأمريكية بتدميرها. كان السكان قد غادروها إلى بيوت متفرقة داخل المدينة. ولكن الطائرات الأمريكية لم تترك تلك البيوت أيضا، وقد أعطاهم الجواسيس أحداثياتها بواسطة شرائح ألكترونية كانت تزرع فيها أو بالقرب منها.
– معظم عائلات قرية “عرب خيل” تركوا المدينة إلى القرى خارج قندهار ، وقتل القليل من الأسَرِ العربية الأخرى أثناء تحركهم ليلا نحو القرى ، فداهمتهم المروحيات الأمريكية المقاتلة.
– عدد من كوادر القاعدة زاروا قرية “عرب خيل” بعد القصف الجوى بيوم أو يومين. فشاهدوا الدمار الشامل للقرية. قال لى أحدهم أن جميع بيوت القرية قد دُمِّرَت ، وعلى الأخَص بيوت أسامة بن لادن التى أصابها الجزء الأكبر من الدمار. وكان له أربعة بيوت يحيط بها سور واحد، ويشكلون مُجَمَّعاً صغيراً ، مخصصاً لأولاده وزوجاته الأربع .
قال شاهد العيان أن حُفَر القنابل التى فى ساحة بيوت بن لادن كانت أعمق من أى حفرة شاهدها نتيجة القصف الجوى فى أفغانستان أيام الحرب السوفيتية. وأنها أخرجت الماء من باطن الأرض ، الأمر الذى كان يستدعى حفر بئر عمقه أكثر من خمسة عشر متراً .
– بن لادن وقتها كان فى كابل. وظل فيها إلى أن أوشكت على السقوط . فأنتقل إلى مدينة جلال آباد حتى أوشكت على السقوط أيضاً ، فأنتقل إلى جبال(تورابورا) حيث تجَهَّز هناك عدة عشرات من الشباب العرب، ليكونوا تحت قيادته فى “الموقعة الحاسمة من الحرب” حسب تصور بن لادن. وهناك عايش أعنف موجة قصف جوى شنتها طائرات (بي52) على أفغانستان حتى ذلك الوقت. وقتل فى تورابورا عدد محدود جداً من العرب (عشرة أشخاص أو أقل) . ولكن ظهر أن الدفاع عنها مستحيل. فانتقل بن لادن عبر الجبال إلى باكستان فوصل إلى مدينة بيشاور. ثم إلى (آبوت آباد) التى كانت آخر مستقرٍ له فى باكستان وفى الحياة كلها. حيث جرى إغتياله فى الأول أو الثانى من شهر مايو(2011) على يد القوات الخاصة الأمريكية .
– رمت أمريكا جثة بن لادن فى مياه بحر العرب من فوق سفينة حربية أمريكية ، بعد إجراء طقوس دفن إسلامية ـ حسب الرواية الأمريكية.
فاستقرت إقامته الدائمة فى قاع بحر العرب ، بعد حوالى خمس سنوات قضاها فى”عرب خيل” ــ قرية العرب فى أفغانستان ــ والتى تنقل بها وانتقلت معه ، وعاش فيها وعاشت به ، من جلال آباد إلى قندهار.
وبإغتياله مادياً ومعنوياً .. مات بن لادن .
[ وكما يموت الناس مات ].
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )