ذات يوم (8).. الوطن قبل 70 عاماً : الناس .. الجغرافيا .. التاريخ
ذات يوم (8)
الوطن قبل 70 عاماً
ــ الناس .. الجغرافيا .. التاريخ ــ
لو أننا إتفقنا على نعريف الوطن بأنه : ناس لديهم جغرافيا يصنعون عليها التاريخ.
لكان موطني القديم (بلبيس) شارحاً نموذجيا لتلك الحقيقة. وذلك قبل أن يقضى زبانية “البيادة” على كل أثر لتاريخ أو فائدة لجغرافيا أو قيمة لبشر .
– تاريخياً كانت بلبيس هى المفتاح الشرقى لمصر، والممر الإجبارى إلى عاصمتها القاهرة أو(بابليون أو غير ذلك من أسماء). كانت البلدة الصغيرة ممراً للقوافل والجيوش الغازية من وإلى مصر. ورابطاً مع الشرق عبر بحار من الرمال تبدأ من بلبيس وتعبر سيناء إلى فلسطين وبلاد الشام وعالم المشرق كله .
لم تكن فقط ممراً بل كثيراً ما تحولت إلى حصن للدفاع عن مصر، سواء بقوة جيوش الحاكم أو بمبادرة صرفه من السكان. حتى أن فاتحاً عظيماً مثل صلاح الدين الأيوبى كان يباهى بهم سكان الأسكندرية ويدعوهم إلى الإقتداء بهم فى التصدى للصليبيين، وذلك حين نجح أهالى بلبيس فى الدفاع عن بلدتهم ضد قوة صليبية زحفت عليهم من الشام، فحاصرت البلدة لمدة ثلاثة أشهر. لكن أهالى البلدة قاوموا وإنتصروا .
– من الصعب أحصاء الملاحم الكبرى التى دارت فى بلدة بلبيس وما حولها. ويكفى أنها كانت إستراحة لقوات الفتح الإسلامى التى قادها عمرو بن العاص، الذى أنشأ فيها مسجداً خلال فترة مفاوضاته مع جيوش الإحتلال البيزنطى ليغادروا مصر. فكان أول مسجد يبنى فى مصر وفى قارة أفريقيا. هذا الجامع أسماه المصريون فيما بعد جامع(السادات ). أى سادة قريش بقيادة عمرو بن العاص الذين بنوا هذا المسجد، وكان مقراً لقيادتهم فى نفس الوقت .
– بلبيس تقع على الحافة الشرقية لدلتا النيل، حيث تنتهى المساحة الخصبة المزروعة فى شرق مصر لتبدأ حافة الصحرا التى تمتد شرقاً وشمالاً إلى مدى البصر .
فى مثل ذلك الموقع تكون سلطة المركز الحاكم (العاصمة) ضعيفة، فتصبح البلدة مقراٍ آمناً للفارين من ظلم الإقطاعيين فى المناطق الزراعية. ومأوى للمظلومين والمطاردين الذين يبحثون عن مأوى شبه آمن، أو ممر نحو دولة أخرى أكثر أمنا. قد تكون الشام ، أو مصر نفسها للهاربين من إضطرابات الشام أو مجاعات جزيرة العرب .
– بعد الفتح الإسلامى إستوطنت صحراء بلبيس قبائل من جزيرة العرب، حافظت على حياتها البدوية حتى لا تستباح حريتها على يد حكام مصر الذين أدمنوا الطغيان، وهو مالا تتحمله طبيعتهم البدوية الحرة. فكانوا مخزناً بشريا ومعنويا لروح الحرية والتمرد لدى سكان بلبيس خصوصا والشرقية عموماً .
وأبرز أسهاماتهم فى التحركات الكبرى فى مصر كان إحتضانهم لثورة أحمد عرابى عام (1882). فكانوا من حماتها والمقاتلين فى صفوفها .
كما كان بعضهم من أبرز الخونة الذين باعوها لجيش الإنجليز الذى غزا مصر بأسطول إخترق قناة السويس.
ظل هؤلاء الخونة معروفين ومنبوذين لإجيال عديدة، إلى أن صارت الخيانة عملاً محترماً ومعترفاً به من أنظمة الحكم التى تلت الثورة العُرابية وحتى الآن ـ إذ صارت أحد الشروط الأساسية لممارسة الحكم فى مسر. .
– من قاتلوا فى صفوف الثورة العرابية طاردهم الإنجليز. فى نفس الوقت كافأوا الخونة ومنحوهم الأراضى والأموال، وقربوهم من السلطة، ومازالوا من الأكابر حتى اليوم.
الذين قاتلوا مع الثورة العُرابية وإضطهدهم الإنجليز والخديوى الخائن. وظلوا فى صحرائهم. وخرج من صفوفهم متمردون تحركوا فى الشريط الواقع ما بين نهاية الأرض الزراعية وبداية الصحراء الرحبة التى جاء منها البدو. فكانت بلبيس هى عاصمتهم الواقعية ولكن غير المعلنة.
أحترفوا التمرد بحكم الموروث القبلى العاشق للحرية وخرج منهم “أولاد ليل” مشهورين، قاتلوا ضد كل من يمكنهم سلب أمواله أو إجبارة على الصمت والقبول بوجودهم الليلى ونشاطهم المقاتل، الذى ساهم إلى حد ما فى كبح شطط القوى الإجتماعية الظالمة، وبطش الحكومات الذى لا يعرف حدوداً ولا يحترم غير القوة التى تقاومه، مهما كانت صغيرة ومهما تخسر من معارك، ولكنها تظل موجوده ومستمرة .
– ساهم بعض هؤلاء فى حرب فلسطين، على الأقل فى مسائل توفير السلاح والذخائر للمجاهدين الفلسطنيين. وذلك منذ ثورتهم عام(1936) وصولا إلى حرب (1948). وبعضهم قاتل ضد معسكرات الإنجليز فى قناة السويس فى بداية الخمسينات. وهى الفترة التى ظهرت فبها معسكرات التدريب التى أقامها الإخوان المسلمون فى صحراء بلبيس. وظهرت مجموعات فدائية تابعة لحزب الوفد وأحزاب أخرى صغيرة مثل مصر الفتاة والحزب الوطنى .
– فى سنوات الثلاثينات والأربعينات نشط ثوار مجاهدون من(عرب) الشرقية لدعم أخوانهم فى فلسطين بالسلاح والذخائر التى يعرفون تجارها فى كافة أنحاء مصر.
وبعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية تمكن هؤلاء من جمع كميات من البنادق والذخائر من بقايا الجيوش الألمانية والبريطانية والإيطالية الذن تحاربوا فوق صحراء مصر الغربية من السلوم إلى العلمين.
– بمساعدة عرب (أولاد علي) غرب مدينة الأسكندرية عرفت تلك المواد والبنادق طريقها إلى فلسطين بواسطة شباب (عرب الشرقية ) .
– من ضمن هؤلاء كان خالي (علوان) ـ رحمه الله ـ الذى قُتِل فى حادث غامض هو ورفيقه (لطفي) أثناء رحلة لهما إلى منطقة القناة عام (1949). وكانا فى شاحنة إستخدماها كثبراً فى نقل أسلحة وذخائر من صحراء مصر الغربية إلى صحراء مصر الشرقية ، حيث تتولى نقلها إلى فلسطين سلسلة من عرب سيناء وفلسطين .
– كان خالى (علوان) يرتكز على قاعدة من أقاربه عرب الشرقية الذين ساندوا ثورة عُرابى. وهم من قبيلة أولاد (أبو عمر) التى تنحدر منها جدتى لأمى{ أما والده فهو من أسرة عسكرية تركية عريقة يتصل نسبها إلى فرع شريف يسمى “السادة الأتراك العباسيين” } . وللقبيلة قصص طويلة فى دعم الثورة العُرابية رغم ان أحد قريبات جدتي كانت ناقمة جدا على أحمد عُرابى قائد الثورة وتعتبره سبباً فى بتر ساق أبنها(ويدعى غندور) الذى حارب إلى جانب القوات العُرابية فى (التل الكبير).
لم يكن خالى علوان منفردا، بل كان له مجموعة قوية من أصدقائه الذين ينتمون إلى عرب الشرقية أو شباب الفلاحين الثائرين على حياة الذل و النظام الإقتطاعى (المملوكي والتركي) الذى يمارس ظلماً وإذلالاً لا حدود على الفلاحين المصريين. ثار هؤلاء الشباب والتحقوا بشباب البدو ليكَوِّنوا مجتمعهم الخاص ودولتهم الخاصة وقوانينهم الخاصة وعلاقتهم الفريدة بالمجتمع المصرى وحكام المحروسة والإحتلال البريطانى والسادة الأتراك وبقايا المماليك الذين يملكون الأرضي والسلطة الإجتماعية تحت حماية عصاباتهم المسلحة وجيش الخديوي الحاكم. وفوق ذلك الهرم جيش الإحتلال، والمندوب السامى البريطاني الحاكم الفعلى من وراء حاكم صوري هو خديوي مصر أو ملكها .
– ذلك المجتمع الثائر المتمرد كان يطلق عليه فى الأدبيات الشعبية (أولاد الليل) أما فى الصعيد فكان الأشهر هو أصطلاح (المطاريد). وكثيراً ما إستخدم الأصطلاحين معاً فكانوا هم (أولاد الليل المطاريد) أو (المطاريد أولاد الليل ) .
أبناء الليل فى مواجهة القوافل البريطانية
بطلنا فى هذه القصة هو من ذلك المجتمع لأبناء الليل المطاريد الذين إتخذوا لأنفسهم مسرحاً وموطناً على حدود الدلتا وإلتقائها مع الصحراء فى محافظة الشرقية وبلدة بلبيس تحديداً.
– بعد وفاة خالى (علوان) بحوالي سنتين ظهرت المقاومة المسلحة ضد قواعد الجيش البريطانى فى قناة السويس التى صارت هى تواجده العسكرى الوحيد فى مصر طبقا لمعاهدة (1936) التى عقدها الإنجليز مع حكومة حزب الوفد. وهى المعاهدة التى ألغاها النحاس باشا زعيم حزب الوفد ورئيس وزراء مصر(1951). وأعلن النحاس رسمياً الجهاد ضد جيش الإحتللال الموجود فى قناة السويس. وهو الجهاد الذى كان قد بدأ فعلا بمجهودات شعبية متناثرة ضد قواعد الجيش البريطانى فى قناة السويس وقوافل إمداده التى تتحرك من القاهرة إلى مدن القناة.
وحتى فى أوقات الحرب العالمية كانت مجموعات شعبية مصرية تهاجم القوافل البريطانية على الطرق الرئيسية وتنهب محتوياتها أو تحرق مخازنها .
– كان للوالد ـ رحمة الله ـ سلسلة من هؤلاء النشطاء الشباب الذين ترأسَّهُم (وكان شاباً وقتها ) ونظَّم معهم عمليات سطو متسلسلة على القوافل البريطانية التى تتحرك من القاهرة إلى الإسماعلية مروراً ببلدة بلبيس. وكانت القوافل تمر ليلا على طريق المعاهدة الذى يوازى الترعة الإسماعيلية، خشية من الطيران الألمانى وجواسيس هتلر .
وكان ذلك التوقيت الليلي مناسباً للمهاجمين على طول الطريق، فكان الليل يستر حركتهم فى الهجوم وفى نقل الغنائم وإخفائها عن أعين الشرطة المصرية والبريطانية التى تقلب الدنيا رأساً على عقب للبحث عن الفاعلين والمسروقات.
فكان يسقط شهداء وأسرى. وكان البرطانيون والشرطة المصرية يعانون من بعض الخسائر البشرية فى تلك الحروب الليلية وحملات التفتيش النهارية.
– كانت بلبيس تتمتع بخبرات لا بأس بها فى مجال المقاومة التى ساهم فيها /خاصة وقت الليل/ مجموعات من المطاريد وأبناء الليل الذين يستحيل حتى على الإحتلال البريطانى والشرطة المصرية العثور عليهم نهاراً أو التصدى لهم ليلاً، لأن الليل منحاز إلى جانبهم ويعمل لصالحهم. فهُم يعرفون الأرض والناس ليلاً أفضل منهم نهاراً .
إبن الليل فى كتيبة المجاهدين
كان أخي يتلقى تدريباً عسكرياً متخصصاً فى المتفجرات بأحد معسكرات الإخوان فى صحراء بلبيس. المعسكر قريب من مقام (سيدى سعدون) الذى كان شبه مهجور . وعلى مسافة كافية من (السلخانة) التى تُنحَر فيها ذبائح الجزارين تحت إشراف طبيب من البلدية. فكانت الدماء حول السلخانة جاذباً للضباع وذئاب الصحراء التى تأتى لتلعق الدماء بصوت مرتفع يستنفر الشباب المتدربين ويمنع عنهم النوم.
أرض المعسكر لا تخلوا من الهوام والأفاعى. جدث وأن صعدت إحداها على ساق أخى أثناء طابور الصباح. شعر بالحركة فإذا بثعبان يرفع رأسه ناظرا فى عينيه .
إنتهى المشهد بصرخة رعب من أخي، مع ضربة من يده حطمت رأس الثعبان. ولكنه ظل باقى اليوم بلا دورة دموية. فقد تجمدت الدماء فى عروقه .
– ظهرت بركات (سيدي سعدون) عند ما أطل على المعسكر ذات يوم أحد أبناء الليل. كان طويلاً عريضاً مفتول العضلات والشارب . ويحمل بندقية إنجليزية فوق كتفه وطاقية من الصوف فوق رأسه.
كان يتقدم بحذر فى إتجاه خيام المعسكر متفحصاً بدقة كل ما فيه بعينه الواحده التى فقد أختها فى إحدى غاراته الليلية. ذهب إليه الشباب ، وبعد السلام دار الحوار. صب عليهم سيلاً من الأسئلة : من أنتم؟ وعلى من تطلقون النار ليلاً ونهاراً؟ ولأى مجموعة من أبناء الليل تعملون؟ ومن هم قائدكم؟ ومن أى المناطق أنتم؟ وماذا تريدون؟ وهل أنتم باقون فى المنطقة أم راحلون؟ .
كان تحقيقاً شاملاً يقوم به إبن ليل محترف معبراً عن شكوكه إزاء ما يراه . أفهمه الشباب أنهم فدائيون يقاتلون ضد الإنجليز فى قناة السويس قرب الأسماعلية. وأنهم من الإخوان المسلمين ومن أبناء البلده وما جاورها من بلدان. وأنهم ليسوا من أبناء الليل وإن كانوا يتدربون على القتال ليلاً .
كان الرجل يشك فى كل كلمة يقولونها. وتلك طبيعة أبناء الليل. صارحهم بشكوكه فطلبوا منه البقاء معهم ليتأكد مما يجرى. وبالفعل مكث الرجل فى خيامهم عدة أيام أضطر خلالها إلى أداء الصلاة والأستيقاظ فجراً بعد نوم مزعج ومتقطع . ونهار مليئ بالضوضاء والتفجبرات وإطلاق النيران. ولكن أعجبه هذا النمط من الحياة ومن البشر. وربما رأى فيه نسخة نظيفة وطاهرة لحياة أبناء الليل ولكن “فى سبيل الله”. فأندمج فى حياتهم بحماس طفولي. فكان يسابقهم فى أداء المهمات والتمارين .
يحكى أخي أن أحد العبوات الناسفة تعطلت فأمتنعوا عن الإقتراب منها. فإقترح عليهم الأخ الجديد (إبن الليل ) أن يفجرها بطلقة من بندقيته التى لا تخطئ أبداً .
فطلبوا منه أن يكون بعيداً بمسافة كبيرة وأن يصوب طلقته إلى الجزء المعدنى اللامع البارز فوق الرمال حتى يضمن تفجير كامل العبوة .
كان عليه أن يصعد فوق أحد الأشجار البعيدة نسبياً، وأن يصوِّب بندقيته من فوق أحد الأفرع إلى البقعة المطلوبة .
كان الشباب يشُكّون فى إمكانية أن يصيب الهدف من تلك المسافة البعيدة من وضع رماية غير ثابت من فوق فرع شجرة ببندقية إنجليزية ثقيلة الوزن. فجلسوا يترقبون النتيجة. ومن الطلقة الأولى أصاب أبن الليل هدفه رغم كل العوائق .
– طلب الرجل إرساله مع أول مجموعة تنوى التحرك إلى الأسماعلية كى يقوم بواجبه الجهادى، ويقاتل الإنجليز ليلا كما تعوَّد دائما، وأن يقتلهم ببندقيتة الإنجليزية .
وبالفعل تحرك إبن الليل مع أول مجموعة صوب الإسماعيلية. وفى التل الكبير خاض أول معاركه وإستشهد فى الجولة الأولى للمعركة.
– وصل جثمانة إلى بلبيس. فكان يوماً خزيناً للغاية على شباب المعسكر. ولم يعرفوا من هم الذين تسلموا جثته. وغالباً أنهم كانوا إخوانه أبناء الليل .
– لم يعلم أحد أين دفن هذا الرجل الغريب الذى إستشهد سريعاً ودفن فى مكان ما من صحراء بلبيس، أو مزارعها، حسب ما تيسر .
ولكنه على أى حال مات كما يموت الناس ، رغم أنه لم يكن يعيش كمثل الباقين .
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )