ذات يوم (6).. فى الوطن بعد 54 عاما
ذات يوم (6)
فى الوطن بعد 54 عاما
كان يوماً حاراً خانقاً من أيام أغسطس (2012). كنت أمشي منفرداً فى أحد الشوارع الترابية الطويلة فى بلدتى بلبيس(القديمة).
هذا الشارع كان واحداً من ميادين طفولتى المبكرة. عبَرْتُه لثلاث سنوات أثناء دراستى الأبتدائية ، ثم ثلاث سنوات أخرى من دراستى الإعدادية.
مشيت أتأمل البيوت على الجانبين. ليست هي نفسها ذات البيوت القديمة، ولكنها أيضا ليست حدبثة.
وصلت إلى مكان مدرستى الأبتدائية فوجدت مكانها مجموعة من البيوت المتراكبة. بحثت عن باب المدرسة القديم وبالطبع لم أجده .
على بعد عدة أمتار، حيث كانت مدرستى الإعدادية ، وجدت أنها تحولت أيضا إلى مجموعة من البيوت التى لا شكل محدد لها.
هذا الشارع الذى كان يزدحم بالمئات من تلاميذ المرحلتين الإبتدائية والإعدادية لم أشاهد فيه طفلاً واحداً يلعب أو حتى يمشى .
أين ذهب الأطفال؟. حتى فى وقت العصر أو المغرب لم تعد تظهر تلك التجمعات الطفولية الصاخبة بألعابها النشطة . علمت فيما بعد أن التلفزيون قد أعتقلهم أمام شاشات مبتذلة.
على جانب الطريق كانت سيدة عجوز ضخمة الجثة تجلس فوق حصير، محتمية ببعض الظلال فوق عتبة بيتها القديم، وإلى جانبها قفص كبير من جريد النخل فرشت عليه أوراق صحف ومن فوقها حلوى ملفوفة بأوراق ملونة يدوياً. السيدة تمسك بيدها حزمة صغيرة من سعف النخيل تطرد بها الذباب الذى يحاول أن يجد وطناً تحت أوراق الحلوى الرخيصة ، ليحتمى بها من قيظ الظهيرة. ظننت أن تلك السيدة تقسو عليه.
مضيت قدماً فى الشارع منتقلاً منه إلى شارع ترابى آخر، ذو إنتفاخ فى منتصفه، كان يستخدم فيما مضى ملعباً للأطفال ومراهقو الحي، ومن ضمنهم صديقى (يحي ) الذى جئت للبحث عنه.
من الصعب أن أجد شيئا على حاله التى تركته عليها منذ أن غادرت تلك البلدة قبل أكثر من خمسين عاماً .
ولكننى عثرت على ما أظنه بيت صديقى يحي. بالأحرى كانت أطلال بيت تصدعت جدرانه ومالت بوابته الخشبية على أحد جانبيها. من الواضح أنه مهجور منذ سنوات طويلة. تجولت ببصري على البيوت المجاورة لأتأكد أننى لم أخطئ فى تحديد البيت. كان ذلك صعباً، فكل شئ قد تغير. نظرت فى كل إتجاه يميناً ويساراً والى الأعلى وإلى الأسفل. حتى تصبب منى العرق وشعرت بأن قوتى تنفذ ، فلا بشر ولا حياة فى ذلك الحي الترابى ، ولا فى بيوته الكئيبة. حتى الذباب هنا لا يطير، بل يقف ملتصقاً بالنوافذ والأبواب وأكوام القمامة المتناثرة على جانبى الطريق.
كنت تائها مثل كائن فضائى سقط سهوا من كوكب المريخ فوق ذلك الحى المُتْرِب فى بلدة بلبيس القديمة، وأرمق البيت المتداعى الذى عاش فيه صديقى يحي وكانت له جولات فى هذه المنطقة .
فجأة سمعت صوت فتاة تخاطبنى من خلفى قائلة :
– عن أى شئ تبحث يا حاج ؟.
أدهشنى سماع صوت آدمي فى ذلك السكون وتحت تلك الشمس المحرقة. نظرت خلفي، فإذا فتاة فى حوالى العشرين تجلس على عتبة بيت ترتفع عن مستوى تراب الشارع بعدة درجات من الأسمنت. إلتفتُّ إليها ببطء وقلت لها :
– أنا أبحث عن بيت الشيخ عبد الواحد. (وهو إسم والد صديقي، وكان مقرئا فى البلدة).
قالت الفتاة :
– ليس هنا أحد بهذا الإسم ياحاج.
قلت لها بدهشة :
– كيف ذلك ؟ .. لقد كان هنا قبل خمسين عاماً !!.
بُهتت الفتاة ولمعت عيناها مثل شعلتان من الجمر، حتى تخيلت أنها سوف تصرخ طلباً للنجدة، أو أن تدخل إلى بيتها وتغلق الباب بعنف. فتلك المنطقة فى أيام طفولتنا كانت مشهورة بوجود العفاريت التى تظهر إما ليلاً أو فى قيظ الظهيرة كما الآن. خَمَّنت أن تلك الفتاة ظنت أننى إما مجنون أو واحد من عفاريت الظهيرة.
إنصرفت بخطوات بطيئة ساحباً قدمى التى لم تعد تطاوعنى كثيراً فى السير. كنت أنظر أمامى دون أن ألتفت يميناً أو يساراً، وأفكر فى خطواتى التالية فى بلدتى التى ولدت فيها والتى لم يعد يعرفنى فيها أحد ، سوى عدد محدود من أقاربى المتناثرين ، وأصدقاء لا يزيد عددهم عن أصابع الكف الذى قطع منه إصبعان.
البقية القليلة التى تعرفنى ، وأصدقاء الطفولة النادرون أرسلوا لى رسالة غير مباشرة عبر أحد أقاربي . قالوا له فيها:
– لقد سعدنا برؤية مصطفى بعد هذا العمر الطويل.
ولكننا علمنا أنه كان مع الإرهابيين فى أفغانستان، وهذا خطر علينا . لقد فرحنا بعودته ولكن لا نود رؤيته مرة أخرى.
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )