ذات يوم (3).. من آخر المحاربين العظماء
ذات يوم (3)
ولسوف يعطيك ربك فترضى
من آخر المحاربين العظماء :
حاجى جُرْبُز .. الشيخ محمد أكبر .. درويش الوردكى.
أفغانستان واحدة من أغنى البلاد بالثروات الطبيعية. وأهم ما وهبه الله لتلك البلاد هو شعبها . وأغلى ثروات ذلك الشعب هو الرجولة والإيمان = ويقال أن الصحة تاج على رؤوس الاصحاء لا يراه إلا المرضى . لذلك لا يشعر بعظمة ما أنعم الله به على الأفغان بالرجولة والايمان إلا من ابتلى الله شعوبهم بفقدان الرجولة والايمان معاً .
– الجهاد يكشف كنوز وجواهر الرجال . فيظهر ما كان خافيا من جوهر ، أو يطفئ ما كان زائفاً خادعاً .
فى أرض الرجال :
كثيرة هى النمازج التى تجمع بين الوضوح الساطع ، والغموض الذى يستعصى على الفهم ، ولا علاج له سوى التسليم بأنه هكذا.. وكفى.
نموذجان ظهرا أمامنا على غير ترتيب مسبق . كان أحدهما غائبا فى مكان لا نعلمه ، لسبب نجهله. ذلك هو درويش “الوردكى” (نسبة إلى ولاية ميدان وردك ، غرب كابل ). أو “درويش ” المقدونى” كما اسميته بعد أول لقاء لى معه ومتابعه مسيرته بين المجاهدين. وهو يحمل ملامح مقاتلى مقدونيا القدماء ، ومنهم الإسكندر. ولأن درويش كان درويشا حقيقيا ، فإن تسميته بالاسكندر كانت ستبدوا وكأنها سخرية ..
” درويش” ابن ولاية وردك ـ فارس نادر المثال. ويظل نادرا حتى فى أفغانستان . حيث كل ابطالها ليس بينهم صوره متطابقة مع أى بطل أحد آخر . لهذا فجميعهم نادرون .
كان من السهل أن نتبع قدراً مناسبا من مسيرة “درويش” الجهادية. فهو بطل فقير بسيط متواضع حفيض الصوت ـ أتعجب من هذه الميزه فى المجاهدين بالغى الصخب فى المعارك .. مهذبون هادئون .. حفيضوا الصوت ، ومنكمشون على أنفسهم قليلا ..
نسبة كبيرة منهم كانوا كذلك .. فيما عدا صديقى ابو الحارث الأردنى الذى تخشع المدافع أمام صوته الجهورى.
فى ذلك اليوم من شهر أبريل عام 1986 ـ وكانت معركة جاور العظمى ـ تلملم تبعاتها ، والموقف غامض، ومواقع جميع القوات ملتبسه ، سواء المجاهدين أو الروس أو الشيوعيين المحليين .
كان كل شئ غامضا ولم يعد أحد فى مكانه المعهود . ومناطق واسعة كانت سابقا مليئه بالمجموعات أصبحت خالية. والقوات السوفيتية تنسحب جواً بلا أى عائق. والقوات الحكومية تنسحب براً عن طريق منجل الطويل والخطير، ولكن بلا اى مخاطرة .
أحاديث تتنقل خافته ولكنها مرعبة، عن وقوع خيانات أدت الى سقوط جاور. وأخبار عن مقاومة بطولية لمجموعة صغيرة من طلاب العلوم الشرعية (طالبان) أوقفت الزحف على جاور لمدة يوم كامل بلا دعم من طعام أو ذخائر، فى مقابل عدة آلاف من جنود العدو المدعومين بالطائرات . فى تلك المعركة أتضحت العقيدة القتالية لطالب العلوم الشرعية. وما زال طالبان هم طالبان .
فى ذلك الوقت كنا نحاول العمل ضد مطار المدينة ومهاجمة القوات الروسية المنسحبة جوا. وكان لنا سابق خيره منذ العام الماضى وحققنا نتائج جيدة رغم قلة الامكانيات وسذاجة العمل. ولكن وجدنا المناطق فارغة وكأن المجموعات التى كانت فى تلك المناطق الشاسعة قد تبخرت. كانت الأرض بالنسبة لنا فى هذه اللحظة غامضة جدا، ولا ندرى من يشغلها فى هذه اللحظة، هل هم الشيوعيون ام الميليشيات أم لصوص. هل دخل العدو كل هذه المناطق ، أم دخل بعضهما أم لم يدخل أصلا ؟؟. لابد أنه خلال شهر تمكن من بث ما يشاء من ألغام فى أى مناطق يراها مهمة أوتشكل خطرا عليه. فأين هى الألغام، وفى أى طرف وأى ممرات وأى قمم وعند أى مياه وتحت أى أشجار. لم تكن قوتنا تكفى للبحث عن إجابات . وعددنا قليل ومعداتنا بالكاد تكفى للعمل ضد المطار. كنا فى كامل عددنا كمجموعة .سبق وأطلقنا على المجموعة فى بداية عملنا العام الماضى إسم الفرقه الرابعة مطارات، لأن عددنا كان أربعة، ثلاثة من العرب والرابع بطلنا الافغانى الشهيد محمد طالب. كنت وعبد الرحمن و ابوحفص المصرى نشكل الاضلاع الثلاثة الباقية من الفرقة . أما الان فقد إنضم الينا ابوعبيدة البنشيرى وابو الخير المصرى. ولكن ظل الدخول إلى الجبهة خطيرا والتقدم فى تلك المناطق يشبه القفز فى الظلام من قمة جبل مرتفع. حتى أن كل المجموعات تباطئت عن الدخول ، خاصة أن شهر رمضان مع حرارة الجو الشديدة قد فرضت هدوءا أجباريا وراحة لابد منها، خاصة مع الجراح البليغة التى أصابت المجاهدين فى معركة جاور .
تقدم عدد منا الى تلك المناطق بصحبة مجموعة من شباب البدو من جماعة القائد عبد المنان الكوتشى . وكان هدفهم تأمين منطقتهم وتفتشها من الالغام وحمايتها من عملاء الحكومة ونقل الاسلحة والذخائر اليها تمهيدا لمتابعة إستكشاف المنطقة الذى تاجل الى ما بعد العيد . وتلك المهمة طويلة والمساحات واسعة جدا ومخاطر الالغام قاتلة ولا يمكن توقعها وجبل تورغار الذى يشرف على معظم تلك المناطق بشكل جزئى او كامل ،قد عزز الروس قدراته بمعدات حديثة لرصد الصواريخ والرد السريع على النيران. الإشاعات ضاعفت القدارات الحقيقية للعدو. فلا شئ يمكن الأطمئنان إليه فى جميع المناطق .
فى ظل المخاوف والخشية من ان ينسحب العدو ويفلت بلا مطارده ظهر أمامنا فجأة أحد المعجزات البشرية التى تظهر على ارض الجهاد فى أفغانستان حيث لا يحس به أحد، ويتقدم إلى حيث لا يتوقع أحد . كان شيخاً طاعناً فى السن. ولم نكن ندرى غير انه من قبيلة جربز. وأتفقت مع صديقى عبد الرحمن على تسميته (الحاج جُرْبُز). وقدَّرنا انه تخطى السبعين او الثمانين. وكان قوى البنيان أقرب إلى القصر أخضر العين ونظرات ثاقبة وكانها تخترق من أمامه وتصل الى أعماقه . وكانت لحيته كثيفة حمراء فاقعة بلون الحناء . يحمل فوق ظهره بندقيه أنجليزية قديمة, وحزام طلقات وخنجر فى حزام معلق بالكتف ومربوط بالوسط . كان نموذجاً للأصالة القتاليه التاريخية لرجل القبائل. أصالة نَأَتْ بنفسها وسط الجبال، بعيداً عن الإختلاط بموجة الجهاد الحديث، بما فيها من تنظيمات حزبية تخطت الأعراف القبلية وأضعفت من سلطة القبيلة .
حتى مظاهر البطولة قلت كثيرا. والقدماء يأخذون على الشباب أعتمادهم الزائد على المدافع والدبابات والصواريخ. ويسخرون منهم لأنهم لو توقفت مدافعهم لتوقفوا عن الجهاد. فى حين أن القدماء كانوا يقاتلون بالحراب والخناجر او البنادق على أقصى تقدير.
كنا نسمع منهم هذا الكلام ورأيته مكتوباً على محيا الحاج (جُرْبُز) بطلعته الطيبة الباسلة ، والهادئه مثل نسمة صيف بين الجبال .
كان يتحرك وحيدا بسلاسة وهدوء، فى جمع المناطق التى نريد إستكشافها، وفى مناطق أخرى لا ندرى ما هى. فلا أحد يعلم وهو لا يخبر أحد ماذا رأى ، ولا كيف يعيش . فأينما وجد قواما فهم أهله يفرحون بمقدمه، وكانه حبيب غائب منذ سنوات يسمع منهم كثيراً ويتكلم قليلاً. ويخبرهم أحيانا بما يهمهم من أحوال العدو والمجاهدين فى المناطق القريبه والبعيدة ثم يمضى.
كان له شقيق أصغر منه سناً، يشبهه تماما، ولكنه أقل حجما وان كان شبيها له فى كل شئ .
قمت مع عبد الرحمن المصرى و(الحاج جُرْبُز) بجولات فى مناطق تهمنا أكثر من غيرها. وسعدنا لقوله أن العدو لم يدخلها وأنها غير ملغومة . ومنها مراكز عملنا فيها ضد المطار العام الماضى ، سرّنا ذلك كثيرا .
وأصطحبنا الشيخ الجليل فى جولات أخرى بالقرب من ترغار فأوضح لنا مناطق جديدة دخل إليها العدو بكثافة وأغلق بالألغام الثغرة ما بين جبل ترغار وجبل زرمنكى الواقع الى الغرب منه، بما فى ذلك تلغيم الوادى بين الجبلين، الذى إتخذه أبو الحارث مقراً لجماعته عام(1988). ونبهنا الحاج (جُرْبُز) الى تكثيف العدو لتلغيم المنطقة المقابلة لتورغار و المغطاة بالحشائش العالية والأشجار.
شفويا قدم لنا الحاج (جُرْبُز) خريطة موثوقة عن وضع الألغام فى المنطقة، ومراكز القوات الحكومية بعد معركة جاور (ومن حسن الحظ انها لم تتوسع كثيراً ) وذكر لنا مجموعات المجاهدين خلال تلك المعركة التى أستمرت شهراً.
(قامت المجموعات بإخلاء متعمد للمنطقة بضغط من باكستان و أحزاب بشاور لإحداث هزيمة فى جاور كانت مطلوبة لمساعدة السوفييت على إتخاذ قرار مبدئى بالإنسحاب من أفغانستان خلال مؤتمر قادم للحزب شيوعى فى موسكو) .
بعد معركة جاور بأيام، وقع إنفجار مفاعل (شير نوبل) فى اوكرانيا لم ندر عنه فى وقتها لعدم أمتلاكنا أجهزة راديوا فى الجبهة ولكننا بعد أنتشار الخبر أعتبرنا الحادث إنتقاماً لشهداء جاور .
منذ ذلك الوقت لم نر الشيخ (جُرْبُز) أو نسمع عنه شيئاً . سألنا عنه أحيانا ولكن لم نظفر بأى إجابة. لقد إختفى بنفس الغموض الذى ظهر به أمامنا . وفقدنا أثر آخر مقاتلى قبيلة جربز العظماء.
المجاهد الأكبر : الشيخ محمد أكبر
ذلك الشيخ الجليل الغامض ظهر له نظير ، أثناء إقتحام المجاهدين لجبل تورغار. فى محاولتهم النهائية الناجحة فى فبراير(1919) .
كادت المحاولة أن تفشل وأن يتراجع المجاهدون وهم على بعد خطوات من خط دفاع العدو قرب قمة جبل تورغار.
أوقفهم العدو وهم على حافة حقل الألغام . وأستخدم ضدهم القنابل اليدوية والرشاشات بأنواعها وهو فى خنادق منيعة والمجاهدون مكشفون أمامه بلا وقاية تذكر.
فى تلك اللحظة أوشكت الشمس على المغيب وأن يحل الظلام على الموقع، وأن يتوقف القتال وتفشل هذه المحاولة كما فشلت محاولات أخرى سابقة .
وهنا ظهر من بين البدو شيخ وقور طاعن فى السن ، ويدعى (محمد أكبر). نهض بهيئته الجليلة من بين صفوف الشباب البدو الذين جمدتهم نيران العدو، ليندفع مثل الإعصار فى إتجاه خنادق العدو، غير مبال بالألغام أو الرصاص الذى يلعلع من حوله، ولا بالقنابل اليدوية التى كانت تنهال مثل المطر.
قفز الشيخ فوق جنود العدو فى الخندق، مطلقاً عليهم نيران رشاشه فإرتفعت صرخاتهم ، وفر معظمهم فى أتجاه الجزء المخفى من الجبل.
كبَّر (الشباب البدو) وتابعوا الهجوم وقتلوا من تبقى من الجنود، وأستولوا على الخندق، ومنه واصلوا تطهير باقى الخنادق ومواقع الجبل .ومن فرط فرحتهم فتحوا جميعا أجهزة اللاسلكى وهم يعلنون سقوط ترغار قائلين (تورغار ختم ) (تورغار ختم) .
فنهرهم حقانى وطلب عدم تكرار ذلك، قائلا أن العدو مازال يقاوم فى بعض الخنادق وأن هذا الكلام قد يجعل المجاهدين يتوقفون عن القتال. غابت الشمس عن خوست فى تلك اللحظة، وما طلعت خلال اليوم إلا قليلا بسبب كثافة السحب .
تناقل (شباب البدو) المقتحمون أخبار البطولة الإعجازية للشيخ (محمد أكبر) وانها كانت السبب المباشر وغير المتوقع لفتح الجبل.
تقابل مولوى (حقانى) مع الشيخ (محمد أكبر)، وسألة عن سر هذه الهجمة البطولية على الأعداء فى تلك اللحظة، وهو الشيخ المسن، بينما حوله شباب أقوياء لم يجرؤوا على فعل ذلك .
فأجاب الشيخ (محمد أكبر) أنه ومن حوله من الشباب أختبؤوا تحت صخرة لتحميهم من رصاص العدو وقنابله اليدوية. ولكنه لاحظ ان القنابل إما أنها تتخاطهم، فتسقط فى الوادى من خلفهم . أو أنها تصطدم بحافة الصخرة لترتد وتسقط داخل خندق العدو. فأيقنت أننا لن نصاب بمكروه، فنهضت واقفا، وكبرت وجريت صوب خندق العدو وقفزت داخله. وما لبث الشباب أن تابعونى ، وفتح الله علينا تورغار .
من يومها لم أسمع شيئا عن الشيخ (محمد أكبر). وغابت عن عينى صورته . واختفى بشكل غامض، آخر مجاهدى البدو العظماء.
درويش أسطرة تتحدى ضوء الشمس
غموض سيرة الشيخين (الحاج جُرْبُز) و(محمد أكبر) كان مصدره قلة المعلومات لدى من سألناهم. الثابت الوحيد فى سيرة الشيخ جربز هو أنه مجاهد منفرد ، موطنة كل تلك الجبال والوديان. لا أحد يعلم متى يظهر ومتى بغيب. حاملا بندقيته العتيقة فوق كتفه ، وينساب بهدؤ النسيم، عاقدا كفيه خلف ظهره.
– الشيخ محمد أكبر كان نجم معركة تورغار الحاسمة ولم أسمع عنه أى شئ قبلها ولا بعدها. وعموما فإن البدو لامكان لهم ولا برنامج ، ولا عنوان.
– ولكن صديقنا (درويش المقدونى) وصلتنا تفاصيل أكثر عن بدايته الجهادية ، وصولاً الى نهاية مسيرته التى كانت غريبة وغامضة .
مسيرة (درويش) مع الجهاد تعتبر نوعا من التلخيص لمأساة شعب أفغانستان ، ورمزا لجهاد ذلك الشعب ضد الاحتلال السوفيتى .
كان (درويش) شاباً يافعاً عندما غادر قريته فى ولاية (وردك) للبحث عن عمل فى باكستان لتأسيس حياته الجديدة. فقد تزوج بفتاة من القرية وعقد قرآنه عليها ولكنه لا يمتلك ما يؤسس به بيتا. وكان مليئا بالصحة والشجاعة والاستقامة. فأعتقد ان ذلك سيكون كافيا فى باكستان لأكتساب المال وبناء حياة.
ولكن حماة درويش لم تكن راضية عن فقره رغم محبة الناس له وثقتهم به. كانت تريد لإبنتها زوجا غنياً أو موظفا حكومياً .
وقع الإنقلاب الشيوعى فى افغانستان فى تلك الظروف الحساسة بالنسبة (لدرويش). ولم يكد يحصل على عمل فى باكستان وقد ملأه القلق على مصير زوجته الجديدة ومصير أسرته، خاصة وان الحزب الشيوعى الحاكم أسرف فى القتل وفرض القوانين التى أستنكرها الناس وصدمت عقائدهم وأعرافهم القبلية .
من ضمن هذه القوانين كان إعطاء المرأة الحق فى الذهاب الى اى قسم شرطة لتطليق زوجها ، وتتزوج بأى شخص آخر تريده . وكأن حزب خلق الشيوعى قد تحالف مع حماة (درويش) فى تدمير حياته وتغييرها إلى الأبد .
الحماة لم تكذب خبراً وعقدت أتفاقا مع شخص حزبى نافذ ، كان يعمل مدرساً حكوميا. وإتفقت معه على أن يتزوج من ابنتها بدلا من ذلك الفقير المعدم (درويش) الذى أصبح (طالقا) وهو وراء الحدود . كان الحدث بمثابة قنبلة سببت ألماً حادً، وصداعا لا يكاد يغادر رأس (درويش) .
أنضم درويش الى مجوعة جلال الدين حقانى. فأحبه الجميع وتعاطفوا معه. وكان مقاتلا شديد البأس. بملامح يونانية قديمة ، يشبه مقاتل إسبرطى ، قادم من أعماق التاريخ. عيناه خضروان تقدحان شرراً أخضراً يمكن أن بحرق أى شئ. وصوته خفيض مع ندرة الإبتسام، ويعوض عن ذلك السكون البركانى مدفعة الذى ينطق حتى لو صمتت جميع المدافع .
بداية شهرة درويش ، كانت بإقتحام مواقع المليشيات الباكستانية التى تضايق المجاهدين عند عبورهم.
فى إحدى المرات أوقفتهم مجموعة شرسة من حرس الحدود القبليين (المليشيا).كانت مجموعة سيئة السمعة تبتز أموال المجاهدين و أطعمتهم و أحيانا ذخائرهم. وكانت معاملتهم خشنة وحقيرة. ولكن هذا لا ينفع مع (درويش المقدونى) الذى نزل من سيارة المجاهدين وأندفع صوب غرفة جنود (المليشيا) وسحب أجزاء إطلاق النار مستعداً لضغطة زر حازمة ، قد تغير مصير العشرات خلال لحظات قليلة. هى الفارق بين الحياة والموت .
صاح (درويش) أيها المنافقون الكفرة، أعيدوا كل ما أختموه من المجاهدين ، الآن وبلا تأخير ، ومن كان منكم رجلاً يريد الموت فلينظر إلى وجهى .
ظهر الحق وزهق الباطل فى جملتين قصيرتين. وعادت الحقوق الى أصحابها وعَبَرَ المجاهدون الحدود. ورجال الميلشيا الذين كانوا من الجبارين ، طأطؤا رؤوسهم فى ذلة و خضوع. وأنزلوا الحبل الذى يمنعون به سير للمجاهدين والمهاجرين، ليمر الجميع بسلام أمنين وسط هتافات المجاهدين بحياة درويش.
وكانت نقاط الميليشيا على الحدود تسأل إن كان (درويش) ضمن فوج العابرين أم لا . فالمسالة لا مزاح فيها ، و درويش غير قابل للتفاهم أو المساومة . وهو دئما هادئ مثل لغم مدفون لا يعلم أحد متى يتفجر. و ملامحة حادة لا ترحم .
بعد سماعى بتلك الحادثة أسميته (درويش المقدونى) .
درويش فى موقعة البازار الكبرى:
حدث آخر بعد أكثر من عام أعلن فيه (درويش) أنه المقاتل الأسطورى الذى لا يقهر ولا تهدأ ثورته .
لقد زاد عدد من حوله من شباب (وردك) الذين سمعوا عنه ولحقوا به. فتكونت حوله مجموعه تميزت بالإنضباط و الشجاعة. وفى مرحلة متقدمه من الجهاد ظهرت لديهم مواهب هندسية أثرت فى نتيجة الحرب، بشهادة الرئيس الشيوعى ( نجيب الله ) .
– فى مدينة (ميرانشاه )، ذات يوم من شهر ابريل (1986)، تحرك (درويش) الهادئ ـ ولكن ليحدث طوفانا من الدم فى مدينة (ميرانشاه) بأكملها .
كنا نتهيأ لدخول مناطق (بارى) التى هجرها المجاهدون أثناء معركة (جاور) وهى الرحلة التى قابلنا فها الحاج (جُرْبُز) التى تكلمنا عنه سابقا . باقى مجموعتنا فى ميرانشاه كانوا من الأسماء الكبيرة مثل (أبوحفص المصرى ـ ابوعبيده البنشيرى ـ ابو الخير المصرى).
وكنا فى غرفة خاصة بنا فى ما يشبه مكتب سرى يشرف عليه الشباب الأفغانى المثقف (موسى) .
بعضنا كان قد ذهب الى بازار (ميرانشاة) القريب لشراء بعض الاحتيجات الضرورية لشهر رمضان. وعند الضحى سمعنا إطلاق نيران كثيف قادم من جهة البازار. وخشينا على إخواننا هناك. تزايد أطلاق النار وأتسعت رقعته حتى بدت المدينة وكأنها دخلت حرباً أهليه أو أقتحمها عدو خارجى .
بدأت الأخبار تنتقل الينا عبر الإشاعات السارية فى الشارع القريب. وقال الناس أن حكومة (ميرانشاه) قد أنزلت مدرعات إلى السوق.
نقل إلينا (موسى) فصل الخطاب. وقال أن (درويش) قد بدأ حرباً فى البازار. ويبدوا أن مجموعته من شباب (وردك) قد دعموه. بل وأيضا تجار من السوق و مجاهدون عابرون، جميعهم تعاضدوا معه.
– أصل المشكلة هى أن (درويش) إكتشف وجود ذلك الشيوعى/ الذى تزوج من زوجته فى (قسم الشرطه) فى بداية الانقلاب الشيوعى/ والآن هو فى ميرانشاه بعد أن هرب من (وردك) فى إثر صراع بين الأحزاب الشيوعية. فأطيح به وفرَّ الى (ميرانشاه) خوفا من القتل ولكن مدفع (درويش) كان فى انتظاره منذ سنوات .
تفاعلت الأزمة حتى حلها شيوخ القبائل ناصحين الحكومة بعدم تطبق القانون الباكستانى الذى يدين (درويش) ويفضى إلى أعدامه. ورأوا فى ذلك دعماً للقانون الشيوعى فى أفغانستان .
– ولكن (درويش) ظل خلف الحدود فى افغانستان . لاجئا فوق أرض وطنه مجاهدا من أجل تحريره من الشيوعية وقوانينها .
كان درويش محوراً لمجموعات شباب (وردك). بعضهم عمل مع المجاهدين فى نشاطتهم التقليدية . وآخرون شكلوا سلسلة مجموعات عائلية لحفر المغارات والخنادق.
معظم عملهم كان يعتمد على المتفجرات وقد تقدموا كثيراً فى هندسة الكهوف لمختلف الأغراض. ونشروها على نطاق واسع خاصة المنطقة الحيوية التى شهدت أهم المعارك فى فتح خوست. رئيس الدولة نجيب الله قال بانهم السبب فى أفشال الحمله الجوية بالطيران وصواريخ سكود والتى كان مقررا ان تجهض خطط المجاهدين فى إستلاء على خط الدفاع الجبلى أونقل المعركة الى الوادى. عرض عليهم نجيب الله اموالاً أكثر مما يعطيهم المجاهدين ولكنه رفع من أعتبارهم وشهرتهم ، رغم أنه تعمد تحقيرهم و تسميتهن (جرزان وردك).
– قابلت درويش لآخر مرة فى مركز الغرب من وادى جرديز ..
(درويش) أنشأ موقعا منيعا و مغارتين مرتفعتان لتخزين ذخائر و اطعمه بكميات كبيرة ولحماية الموقع وضع مدفع (شلكه) 23 مليمتر مضاده للطائرات كان يديره شقيقه الأصغر (فاروق) الذى فقد قدمه فى المعارك ثم أستشهد قبل فتح كابل . (من روايات مجاهدى المنطقة أن فاروق اصيب مباشرة مع مدفعه بصاروخ موَجَّه من طائرة سوخوى).
فى لقائى الأخير معه فى ذلك الموقع، وجه لى (درويش) لوماً يقترب من التقريع، قائلا انه يشكر مساعدتى له ولمجموعته فى السنوات الماضية. وقد كان يتوقع دعما من العرب و أوصانى بالتدخل لتسهيل ذلك الدعم .
ولم يكن مناسبا ان أشرح له حقيقة وضعى المذرى بين العرب، وبالتالي عدم قدرتى على فعل اى شئ نافع من خلالهم .
تم فتح (جرديز) بعد ذلك اللقاء بحاولى خمسة أشهر, وما لبثت كابل أن فتحت أيضا ولم أسمع شيئا عن درويش وجماعته سوى خبر استشهاد (فاروق) ،وكان ذلك حدثا قاصماً لظهر درويش. فقد كان (فاروق) هو كل دنياه، وكل ماربطه بها .
– ذات يوم من عام (1994) كانت قوات طالبان قد دخلت وردك وهم فى طريقهم الى فتح كابل جاءنى خبر من صديق عن وفاة (درويش) .
فى تلك البداية المبكرة لحركة طالبان ، كانوا ينظرون الى القيادات الميدانية للمجاهدين نظرة سيئة ،على أنهم أساءوا إستخدام الغنائم من أسلحة وذخائر وسيارات لمصالحهم الشخصية بدون مراعاة للقوانين الشرعية.
فسحبوا منهم اى سلاح يزيد عن حاجاتهم للدافاع الشخصى ، وصادروا ما زاد عن ذلك من أسلحة وذخائر وسيارات .
كان لدى درويش ، سيارة (سوزوكى) عسكرية صغيرة جدا تشبه علبه السردين . وهي اول نوع إستخدمه المجاهدون فى الجبال . كانت ضعيفة وضيقة وقليلة النفع فى النقل، وكان درويش قد حصل عليها من حقانى لمساعدة فى نقل أحتيجات مجموعته وايضا لتحركات (فاروق) الذى فقد ساقه ولم يعد قادرا عن الحركة بدون وسيلة نقل. كان لدى درويش العديد من قطع السلاح التى غنمها خلال معارك السنوات المجيدة .
بقرار واحد وتصرف عصبى، كان سانداً فى تلك الفترة، صدر ما عند درويش) من أسلحة ومهمات عسكرية، كان قد حصل عليها بالدم وبقوة السلاح.
وقتها كان درويش كمن سقط فى قاع بئر لا نهاية له . فلا أهل ولا أصدقاءـ ولاأموال, وطابعة الصامت، جعله لسنوات بعيدا عن كل ما حوله, وحتى صوته الحقيقى صار هو صوت مدفعه . و سلسال الطلقات هو الرابط الحقيقى الذى يربطه مع العالم الخارجى .
فى حياته “المدنية”وفى القرية ، صداقته الوحيدة كانت مع المسجدـ الذى يصلى فيه الفروض الخمسه .
فى أيامه الأخيرة وقبل الاستيقاظ لصلاه الفجر، كان يرى رؤيا واحد وصوت واحد يقول له (ولسوف يعطيك ربك فترضى )، لم يكن درويش يعرف العربية، ولا يحفظ من القرآن غير الفاتحة وسورة أو اثنين من قصار السور .
كان فى شك ،هل ما يسمعه هو من القرآن أم ليس من القرآن؟؟ فذهب ذات ليلة ، مبكرا إلى المسجد ليسأل إمام الجماعة عن معنى هذا الكلام الذى ظل يسمعه، حتى حفظه عن ظهر قلب بدون ان يفهم معناه .. (ولسوف يعطيك ربك فترضى) .
أكد له الشيخ أن هذا الكلام من القرآن.، ولكنه لا يدرى ما هو المقصود منه هنا ؟.
.. ولكن الخبر اليقين سريعا ما وصل الى (درويش ) .
فقد توفى قبل الظهير .
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )