ذات يوم (2)
فى جاور عام 1986
أبوووووه …. فى مصر ؟؟؟؟!!!!!!
أبو عبيدة البنشيرى ، وأسئلة آخر أبطال الدفاع الجوى فى قاعدة جاور.
وينهار بفعل “غاز ضاغط” من ضابط باكستانى .. فيهدده قائلا :
(لأ مش كده.. أنا أنزل أسلم نفسي للروس أحسن).
وصلنا إلى جاور وشبح المأساة يخيم عليها.. فالقصف الجوي والمدفعي لا يمكن وصفه أو وقفه.. لا يوجد شبر على سفوح الجبال أو الوادي لا ويحتوي أثراً لإنفجار القنابل والشظايا.
مدافع المجاهدين، المضادة للطائرات تم تدمير معظمها تماماً، ويحاول المجاهدون إستبدالها بأخرى، ولكن لا جدوى…
ولأول مرة أشاهد طائرات (السوخوي 25) وهي تقدم عروضاً جوية في غاية المهارة وكأنها تقدم إستعراضاً في(الأكروبات).
كان رماة المدافع المضادة للطائرات في وضع لا يحسدون عليه، وكلما أصيب مدفع زاد العبء على الآخرين. والمدفع الواحد تهاجمه ثلاث طائرات مرة واحدة وأحيانا خمسة طائرات.
فإذا إشتبك مع إحداها فإنه في ظرف ثوان يكون قد يكون قد تلقى سيلاً من الصواريخ من عدة جهات مختلفة. لقد قتل كثيرون من رماة تلك المدافع الذين قاتلوا ببسالة ليس لها نظيرفي معركة منعدمة التكافؤ.
لم يكن أحدهم يستطيع النوم على الإطلاق، ما لم يهبط من موقعه إلى أسفل الوادي كي ينال قسطاً قصيراً من النوم داخل إحدى المغارات في شبه إغماء، لأنه لولا ذلك الإرهاق الزائد ما کان ليمكنه النوم.
وهذا ما حدث معنا. لم نكن نعبأ بقذائف المدفعية، فهي لن تنفذإلينا من سقف المغارة على أى حال..
لذلك كنا ننام في فترة القصف المدفعي الذي لا يلبث أن ينقطع لثوان لتأتي نوبة الطيران..عندها نستيقظ ونمسك قلوبنا بأيدينا حتى لا تنخلع.. فالسقف فوقنا ليس قوياً لدرجة تمكنه من المقاومة، والمغارات ذات أبواب متسعة وتمتد في الجبل مستقيمة ومتعامدة تماماًعلى الوادي، و لها قابلية كبيرة لاستقبال الشظايا القاتلة .
أما إذا سقطت قذيفة على المدخل فإن ضغط الهواء مع الشظايا كفيل بتحويل الجميع إلى كتل من اللحم المفروم والمشوي. القنابل العنقودية ترميها الطائرات وكنَّا نراها لأول على أطراف جاور. وفوق جاور نفسها هطلت القذائف الثقيلة حتى ألف رطل وأخرى متشظية، وقنابل تهبط بالمظلات تلقيها الطائرات من إرتفاع منخفض ضماناً لدقة الإصابة، حتى أن جبال جاورأصبحت مكسوة بحلة بيضاء من تلك المظلات الحريرية الأنيقة.
وصواريخ جو أرض إستخدمت بكثرة ضد مواضع المدفعية المضادة للطائرات.
بلغت شدة القصف على القاعدة إلى درجة أنها جعلت التحرك فيها حتى على الأقدام،عملاً محفوفاً بالمخاطر.
لم تكن السيارات قادرة إذا عبرت الطريق أن تدخل جاور إلا لدقيقتين أو ثلاث عند الضرورة مثل نقل جريح مثلاً.
من نتائج ذلك أن الطعام أصبح قليلاً في القاعدة. وعملية طهية كانت صعبة جداً. فكان يؤكل على حالته التي جيء بها من ميرانشاه ، سواء كان مطبوخاً أو غير ذلك.
الأسوأ من ذلك أن قمم الجبال عُزِلَتْ تقريباً عن القاعدة في الوادي وأطقم المدفعية في الأعلى أصبح لا يصلهم الطعام إلا نادراً.
ولا يستطيعون الصعود أو الهبوط إلا بصعوبة. وهي رحلة خطرة قد تستغرق من نصف ساعة إلى ساعة تشهد خلالها من غارتين إلى خمس غارات .. سوى قصف المدافع المستمر.
قام أبوحفص وأبوعبيدة بتلك الرحلة وعادا كي نجلس في أحد
المغارات نتباحث فيما ينبغي عمله، وكان معنا عبدالرحمن .
قال أبوحفص وأبوعبيدة أن وضع طاقم المدفع على القمة أكثر من مأسوي. فقد إستشهد طاقم أو إثنان على نفس المدفع.
ومساعد الرامي إستشهد والرامي نفسه جريح وجائع ومنهك.. ناهيك عن كونه الهدف الأول للطائرات التي تهاجم ضمن جماعات من إثنين إلى خمسة طائرات في الدفعة الواحدة.
وقد حضر أبوحفص وأبوعبيدة عدة غارات من ذلك النوع أثناء زيارتهما القصيرة. وقالا إن المجاهدين يرفضون الصعود إلى الأعلى من شدة الخوف.
وصاحب المدفع لا يستطيع النزول لأنه ليس هناك من يحل محله. وقد صعد إليه إمام مسجد جاور وعدد من طلاب العلوم الدينية كي يشدون من أزره ويقومون بالدعاء له وطمأنته..
ولكن للأسف ليس منهم من يستطيع إستخدام ذلك المدفع.
رغم ثباتهم العظيم وشجاعتهم. ولكن لا يستطيعون أكثر من تقديم مساعدات بسيطة مثل إعداد مخازن الذخيرة للمدفع، ومحاولة جلب الطعام والماء للرامي.
لقد قام أبوحفص وأبوعبيدة باستخدام المدفع نيابة عن الرامي أثناء مدة زيارتهما القصيرة، ( وصلا إلی جاور فی 11/4/86م ), وإشتبكا مع الطيران عدة مرات. وكان رأيهما أن المدفع أصبح عديم الفائدة أمام هذه الأسراب المهاجمة من الطائرات.
فالقذائف تسقط على بعد أقدام قليلة وعملية تدميره ليست سوى مسألة وقت. وأن بقاؤه إلى الآن معجزة حقيقية .
خسر المجاهدون 15 مدفعا مضادا للطائرات في كل المعركة. كان ذلك المدفع يعمل منفرداً فقد أُصيبت جميع المدافع الأخرى.
لقد إستشهد رجال الطواقم الأصلية، وتم إستبدالهم عدة مرات والجميع يُصاب أو يُقتل والمدافع تدمر أو تعطب.. وهكذا..
وفي الأخير يرفض المجاهدون تكرار المحاولة أكثر من ذلك. فما الحل؟.. إقترح الإثنان أن يصعدا معاً إلى ذلك المدفع الذي يعمل حالياً..
سؤال وجواب تحت غارات الطيران :
جلس رامى الزيكوياك وبجانبه أبو عبيده وحيدان وسط خراب شامل خلفته صواريخ الطائرات وبقايا بغل ممزق، وقطع حديد ملتوية بارزه من حفرة الذخيرة . لم يعد احد يصعد اليه بالطعام والذخائر الا نادرا ، ورفيقهم الثالث ابو حفص نزل الى المغارات فى الوادى للإستراحة. كان الرامى يخشى ألا يعود ابو حفص ايضا كما فعل الآخرون . لهذا حاول أن يتمسك بأبى عبيده قدر الإمكان وفى لحظات السكون القليلة يحاول تجاذب اطراف الحديث معه ، مستخدما لغة عربية بسيطة للغاية، لمجرد أن يكون هناك حديث مشترك. وقرر ان يسأل ابو عبيده، بعد ان عرف أنه مصرى ، عن عائلته. وبدأ قائلا حسب رواية ابو عبيده الذى تكرر معه هذا الحوار عشرات المرات، فكان يجيب نفس الإجابة الثابتة ،وهو يحصى عدد الأسئلة لأنه بالتجربة اتضح أن غارة الطيران الروسى تبدأ قبل السؤال الرابع. وكانت الإسئلة والاجوبة كالتالى :
س : أبوووووووه …. فى مصر ؟؟؟!!!.
ج: آآآ يييييوه !!!!؟؟؟
س: عمووو…. في مصر ؟؟؟!!!
ج: آآآ يييييوه!!!!؟؟؟
س: خااااالوووو … في مصر ؟؟؟!!!
ج: آآآيييييوه !!!!؟؟؟
و هنا ينتهي الحوار، و تبداء الطائرات السيخوي بطرح الصواريخ حول الموقع.
بعدها توالت علينا الأخبار السيئة، وبإجمالها كانت :
أصيب أبوحفص وأبوعبيدة في موقع (الزيكوياك). ومعهما عدد من الضباط الباكستانيين
(فريق صواريخ بلوبايب)، وعدد من الأفغان كانوا في الموقع. كما أن الموقع نفسه قد دُمَر
تماماً.فأصبحت جاور بلا دفاع جوي.
فی البداية أصيب ابوعبيده (يوم الخميس 17 إيريل ). ونزل بمساعدة من أبوحفص . ولكن لحسن الحظ أن إصابته كانت خفيفة،ولم يفقد روحه المعنوية المرتفعة . الذى وصل إلى المستشفى وهو يضج بالضحك لما حدث ويحدث.
– إستملا أبو حفص يعمل على مدفع زيكوياك يوما أخر حتى أصيب الموقع بصاروخ مباشر كاد ان يقتله ، تاركا له شظيه صغيرة فى عموده الفقرى .
لم يكن ممكنا أن يساعده أحد فى نزول الجبل، فلم يعد هناك أحياء على مرمى بصره . ومعالم جاور تبدو له صغيرة جدا وبعيدة جدا وكأنها كوكب مهجور خارج الكرة الأرضية. ولا يدى كيف نزل وهو على هذه الحالة .
لقد حمل المجاهدون كل الذين أصيبوا عند المدفع وأنزلوهم إلى الوادي حيث كدَسوا الجميع في سيارة (بيك آب).
لكن معانة صديقنا داخل السيارة “يوم الجمعة” كانت أشد من معاناته من جروح الأمس ، بل ومن القصف الجوي .
فكل شخص داخل السيارة يحمل فوق رأسه وأرجله وبدنه أجزاء من الآخرين ودماء مختلطة بين الجميع. أما مطبات الطريق فحدث ولا حرج. ناهيك عن خطر قذائف مدفعية العدو، أو صواريخ الطائرات التي تترصد أي تحرك للسيارات.
– بعد كل ذلك هل من مزيد؟.. نعم هناك المزيد.. يقول أبوعبيدة.. أنه فوق كل تلك المصائب فإن أحد الضباط الباكستانيين أطلق من بطنه ريحاً كريهةً زكمت الأنوف وخنقت الأنفاس.. فصاح أبوعبيدة بأعلى صوته (لأ مش كده.. أنا أنزل أسلم نفسي للروس أحسن)…
وإنفجر أبوعبيدة ضاحكاً خاصة وأن الضابط الباكستاني لم يرضخ للتهديد و واصل إطلاق الغازات الخانقة!!.
وربما من أجل ذلك قلده ضياء الحق وسام الشجاعة رغم أنه لم يُسْقِط أي طائرة سوفيتية بتلك الصواريخ البريطانية “بلو بايب”. وفشل الفريق الباكستانى والصواريخ البريطانية، رغم أنهم أطلقوا منها عددا كبيرا بمقاييس ذلك الزمان.
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )