جلال الدين حقانى .. العالم الفقية .. والمجاهد المجدد 40
بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
مجلة الصمود الإسلامية | السنة السادسة عشرة – العدد 192 | جمادى الآخرة 1443 ھ – يناير 2022 م .
19-01-2022
حقاني: العالم الفقيه والمجاهد المجدد (40)
حقاني ينقض على جرديز
– حقاني سأل جولاب إن كان يستطيع الاستيلاء على قمّة الجبل قبل غروب الشمس. فأجاب بأنه يستطيع. فضحك حقاني، وهو يعلم صدق جولاب وجدارته بأن يفعل ما يقول. – أخبرني حقاني بعد سقوط خوست أنه سيهاجم جرديز في أسرع وقت قبل أن تحصنها الحكومة. وإذا لم نهاجم سريعًا فسيكون الوضع صعب جدًا في الربيع.
– بعد حوالي تسعة أشهر من فتح خوست، وتحديدًا في25 ديسمبر1991م أعلنت موسكو رسميًا انتهاء الاتحاد السوفيتي وتم طي الأعلام الشيوعية من فوق الكرملين.
– الخيانة حدثت في نفس المنطقة التي كان من المفروض أن نعمل فيها لإغلاق مضيق طيرة، فحوَّلت المخابرات الباكستانية المشروع إلى حماية الطريق من السقوط، وتمكين القوات الشيوعية من عبوره بحرية في اللحظات الحاسمة.
– أخبرني حقاني أنه أوقف الهجوم، لخشيته من ضرب مجنبات قواته المتقدمة، وربما أدى الأمر إلى تطويقها.
بقلم: مصطفى حامد (أبوالوليد المصري)
الوثائق أهم الأسلحة
الغنيمة في العرف القبلي هو ذلك الشيء الذي له سعر في السوق. لذا كانت أطنان الوثائق الحكومية التي غنمها المجاهدون بعد استيلائهم على مدينة خوست، لا تجد من يرفعها من فوق الأرض سوى هؤلاء الذي استخدموها لأغراض طهي الطعام والتدفئة.
– كان حقاني الوحيد الذي اهتم بتجميع وثائق الاستخبارات وخصص مجموعة من رجاله لتصنيفها وتلخيص ما بها. وقد استفاد من ذلك في فتح الطريق أمام قواته للانتقال بها من خوست لمهاجمة جرديز مباشرة. عندما تصدى له بعض الجلاوزة، مطالبين بنصيب مُبَالغ فيه من غنائم حرب لم يشاركوا فيها. ليس هذا فقط بل طالبوا “برسوم” عبور من قواته عند انتقالها من خوست إلى جرديز !!.
كانت محتويات وثائق الخاد، خير وسيلة إقناع لهؤلاء حتى يفتحوا له الطريق ويغلقوا أفواههم، وإلا طمرتهم سيول الفضائح التي تحويها الوثائق عن قضايا أخلاقية مشينة بل وقاتلة في الأعراف القبلية.
– بعض أفراد مجموعتنا الذين ذهبوا لاستطلاع الموقف بعد فتح مدينة خوست مباشرة، عادوا بكمية كبيرة من الأوراق والوثائق الحكومية. لم تكن ذات فائدة لنا سوى خريطة عسكرية تفصيلية لجرديز والطرق الواصله إليها خاصة من طرف كابول.
– جلست مع طاقم مجموعتنا الأساسي فوق الجبل نتأمل الخريطة كي نحدد دورنا في معركة جرديز القادمة. كان رأيي حتى قبل وصول الخرائط إلينا أننا يجب أن نشارك، بل أن نكون القوة الأساسية في عزل جرديز عن كابول، بإغلاق الطريق بينهما. ثم كانت النادرة المشهورة بيننا بأن المجاهدين يتحركون لأجل “الفتح” ونحن مهمّتنا “الإغلاق”.
وبدلا عن إغلاق المطارات علينا هذه المرة أن نغلق طريقًا استراتيجيًا.
جلسنا بحماس ندرس الخرائط. وتم مبدئيًا تحديد نقاط تركيز المدافع أو الراجمات ونوع وعدد القطع المطلوبة. واعتمدنا الفكرة كخطة مبدئية إلى أن نتحرك لاستطلاع المكان ميدانيًا.
كان لحاجي إبراهيم دورًا مرموقًا في الخطّة القادمة، فمنطقة العمليات قريبة من مسقط رأسه “شاهي كوت”، كما أنه في بداية الجهاد شارك في هجوم ناجح للاستيلاء على أحد الجبال المشرفة على الطريق الذي نقصده { وهو جبل “خواجه قمبرغر” وارتفاعه يزيد عن خمسة آلاف متر فوق سطح البحر}.
هدفنا هو مضيق “طيرة” شمال جرديز وهو أكثر المناطق حيوية وصعوبة، وهو الأنسب لتأمين الطريق أو لقطعه. لذا كانت التحصينات الحكومية قوية على ذلك المضيق وإلى الخلف منه وأمامه لعدة كيلومترات.
خيانة تحبط الهجوم الناجح:
كان حماسنا للعملية كبيرًا وثقتنا في النجاح لا تتزعزع. كتبنا مبدئيًا قائمة بالأسلحة والذخائر والمعدات والأفراد المطلوبين للعملية . حتى نعمل على تهيئة الممكن منها حتى قبل الاستطلاع على اعتبار أن تلك الخطوة هي الأصعب في كل العملية نظرًا لانعدام الإمكانات لدينا، واعتمادنا الكامل على “إحسانات ” الآخرين.
ظهر لنا فيما بعد أن مصداقيتنا قد ارتفعت بعد عملية “المطار الجديد” التي كانت إحدى الفقرات الهامة في فتح مدينة خوست، ولم ننتبه إلى ذلك في وقتها.
ولكن عندما شرعنا العمل في مشروعنا الجديد “مشروع إغلاق طريق جرديز/ كابول” كان قد تجمع تحت يدنا أفضل قوة عربية على الإطلاق، تشكلت في الحرب الأفغانية ـ بكل أسف كنت سببًا في ضياع فرصة لا تعوض إذ رفضت التحرك مع حملة جرديز وجلست ممتعضًا في بشاور أمارس الكتابة في مجلة “منبع الجهاد” التي يصدرها حقاني.
وفي الحقيقة أنني لم أتصور أن يبدأ حقاني العمليات إلا في الربيع المقبل أي شهر أبريل على أقرب تقدير، وذلك لصعوبة انتقال تلك القوات الكبيرة ، والأسلحة والعتاد التي كانت بكميات غيرمسبوقة. هذا إلى جانب المعضلة المالية التي يعاني منها.
وبالتالي توقعت أن يواجه مشكلة في الطعام والمحروقات. ثم هناك مشاكله مع القبائل التي اعترضت طريقة بمطالب تعجيزية من الغنائم.
ثم مشكلة داخلية في موضوع توزيع الغنائم. كما توقعت أن تكون الذخائر الثقيلة غير كافية لاقتحام المدينة التي هي أكبر بكثير وأقوى من خوست وأكثر قربًا إلى العاصمة كابول.
إلى كل ذلك أضيفت المشاكل السياسية والأمنية مع باكستان والولايات المتحدة التي بدأت تكشر عن أنيابها ، بل وتمارس “العض” من وراء حجاب.
ثم هناك الشتاء القارص الذي يبدأ مبكرًا في جرديز وينتهي متأخرًا جدًا. والمعارك كما توقعت لا يمكن أن تكون خاطفة لأن الإمكانات المتوفرة لا تسمح بذلك. كل ذلك جعلني على ثقة من أن حقاني لن يحاول اقتحام المدينة بل سيعمل طبقا لسياسته المفضلة “قضمة قضمة “.
كان حقاني قد أخبرني بعد سقوط خوست مباشرة أنه سيهاجم جرديز في أسرع وقت قبل أن تحصن الحكومة المدينة. فقد صدمهم فتح خوست فوجهوا قوتهم كلها صوب جرديز لمنع سقوطها، وإذا لم نهاجم سريعًا فسيكون الوضع صعبًا جدًا في الربيع.
ظننته في البداية متحمسًا أكثر من اللازم . وظللت على توقّعي أن جرديز موعدها الربيع القادم، وأبريل تحديدًا.
ولكنني فوجئت به يشن هجومًا رئيسيًا في أكتوبر ـ الفرصة الأخيرة قبل سقوط الثلوج ـ وأنه حطّم إثنين من خطوط الدفاع، في صدمة هائلة في يوم واحد ووصل إلى حافة المدينة، لولا، كالمعتاد، خيانة باكستانية استخبارية منعت سقوط المدينة .
والمصيبة أن الخيانة حدثت في نفس المنطقة التي كان من المفروض أن نعمل فيها، وفي نفس البرنامج ـ أي إغلاق مضيق طيرة ـ ولكن بدلا من ذلك حولت المخابرات الباكستانية المشروع إلى مشروع حماية الطريق من السقوط، وتمكين القوات الشيوعية من عبوره بحرية وفي اللحظات الحاسمة.
واتبعوا نفس التكتيك الذي اتبعوه معنا في “المطار الجديد”، حين تبنوا مع القائد البدوي “وزير” مشروع إغلاق المطار الجديد. ولكن لولا إصرارنا على أن ننفذ من جانبنا ذلك المشروع، بكل مخاطره، لما تصدى أي أحد للمطار الجديد، فلم تكن هناك أي قطعة مدفعية مخصصة لذلك الغرض. وحتى الكومندان وزير لم يظهر له أثر لا في العمل ضد المطار، ولا في العمليات الأرضية الأخرى، وكأن الأرض انشقّت وابتلعته. وكما ذكرنا فإن باكستان سلمته كمية كبيرة من الصواريخ على حساب عملية المطار كما قال لنا وكما شاهدنا بأنفسنا.
ولكن عمليا ظهر أنه أخذ تلك الصواريخ حتى يتخلى عن تلك العملية وقت الجد فينكشف ظهر المجاهدين، وتستطيع كابول أن تنقل ما تشاء من قوات وذخائر إلى خوست للدفاع عنها.
وعلى نفس الشاكلة عملت المخابرات الباكستانية في موضوع قطع طريق بين جرديز وكابول. فجمعت عددًا من قيادات المنطقة من أحزاب مختلفة وأعطتهم كميات كبيرة من الذخائر والصواريخ، ولكن أحدًا لم يحاول جديًا بذل أي مجهود . بل أطلقوا بعض القذائف على الصخور وانصرفوا محملين بآلاف الصواريخ . لقد أعطتهم باكستان ” ثمن الخيانة “.
– المهم عندما بدأ حقاني في تحريك قواته صوب جرديز، وصاحبته مجموعة أبوالحارث كاملة، وفي أعلى معنويات ممكنة بعد نصر خوست الكبير، والذين كانوا من نجومه الساطعة. لم أكن ضمن ذلك الموكب المبارك، في واحد من أشد المواقف حماقة في حياتي.
السبب هو أنني كنت في حالة من الغضب الشديد ـ والمكتوم ـ لما حدث مع أسرتي في ميرانشاه ، أثناء انشغالنا في الجبهة .
وكما حدث في عملية المطار القديم مع أسرتي منذ ستة أشهر تقريبا ، تكررت أحداث التعديات على بيتنا بشكل أكثر كثافة وعدوانية . وكان ظاهرا تواطؤ إدارة مضافة العرب القريبة من البيت، وكذلك لجوء عناصر، أوقيادات، من المعتدين إلى مكاتب حقاني نفسها كما حدث في المرة السابقة أيضًا. إضافة إلى وجوه تسكن في نفس المنطقة، ثم عناصر من الاستخبارات الباكستانية، لا تخطئ العين تمييز هويتهم. كل ذلك مستمر ولمدة شهر أو أكثر وحتى فُتِحَت خوست. ولكن أحدًا لم يبحث في الأمر أو يتتبع خيوط العملية.
فقررت الانزواء في بشاور وعدم المشاركة في أي عمليات بعد ذلك. وكان ذلك أكبر أخطائي في أفغانستان، بل في حياتي كلها. فعندما تحريت عن مجهود قطع طريق جرديز كابول في وقت المعركة (أكتوبر1990)، أيقنت مدى الجريمة التي ارتكبناها نحن بغياب مجموعتنا عن ساحة المعركة لأداء تلك المهمة تحديدًا.
– فشل هجوم حقاني على جرديز ـ رغم أنه تقدم على الأرض كثيرًا، وأصبح على حدود المدينة. ذهبنا لاستطلاع المنطقة المرشّحة لقطع الطريق، فوجدنا أن العملية ممكنة جدًا وبأكثر من صورة، أي أن عملية قطع الطريق بالمدفعية هي أمر ممكن جدًا، وبأنواع مختلفة من المدافع. كما أن التقدّم أرضًا صوب الطريق وقطعه بالاحتلال المباشر في نقاط معينة، هو أمر ممكن أيضًا وبالإمكانات المتاحة لدينا ولدى حقاني تحديدًا.
بقي أن نكرّر مرة أخرى أن عدم قطع الطريق كان السبب المباشر لفشل الهجوم على المدينة. وأن قوات حقاني عندما عبرت خط الدفاع الأول ثم الثاني في قفزة واحدة مذهلة ثم وصلت إلى الطوق الخارجي للمدينة، كانت قوات كابول قد وصلت في نفس اللحظة إلى الطوق الخارجي، في قوة كثيفة من المشاة والدبابات، فأمر حقاني قواته بالعودة سريعًا إلى آخر مواضع من التلال التي أخذوها من العدو، وترك المناطق المنبسطة. وبذلك أنقذ قواته من خطر التطويق والإبادة واحتفظ بما كسبه في بدايته القوية للمعركة. ولكن المدينة أفلتت من بين يديه وكان عليه الانتظار حتى الربيع كي يستأنف الهجوم مرة أخرى، ولكن أمام جرديز جديدة أشد منعة.
كان نظام كابول قد وضع في جرديز قواته الاستراتيجية من المشاة والمدرعات. وعندما استسلمت المدينة في شهر أبريل التالي (1992) هالنا ما شاهدناه من أسلحة وذخائر وجنود .
لكن القوات كانت قد انهارت معنويًا بالفعل، ولم يعد هناك أحد ـ حتى في كابول ـ يثق في قدرة النظام على الاستمرار، فبدأ التساقط المتتابع للمدن الرئيسية.{ هناك تشابه كبير بين هذا المشهد وما حدث عام 2021 عند انهيار النظام الذي أقامه الاحتلال الأمريكي}.
ولا شك أن سقوط خوست كان عقد المسبحة الذي انقطع فانفرطت الحبات تباعًا بمجرد الحصار وبلا هجمات اقتحامية. وكان الرئيس “نجيب الله” يدرك ذلك تمامًا ، حتى إنه صرّح بنفسه في إذاعة كابول قبل بدء معركة فتح خوست أنه سيستقيل ويسلم البلد للمجاهدين إذا تمكّنوا من فتح خوست. كان يقول ذلك متبجّحًا ولكنه أصاب كبد الحقيقة.
وبعد حوالي تسعة أشهر من فتح خوست، أي في25 ديسمبر1991 أعلنت موسكو رسميًا انتهاء الاتحاد السوفيتي وتم طي الأعلام الشيوعية من فوق الكرملين. واستقلت الجمهوريات السوفياتية، وانتهت الشيوعية بالفشل في عقر دارها.
ولكن أمريكا كانت مصرّة على بقاء الشيوعية في أفغانستان، واستمرار الحرب فيها ضد الإسلام عدوها الجديد، فبعد أن انتهت الحرب الباردة على الشيوعية، أعلنت في ذات اللحظة الحرب الساخنة على الإسلام على اتساع العالم، وفوق الأرض الأفغانية على وجه الخصوص، وضد المجاهدين العرب على وجه أشد خصوصية ـ لكونهم تجسيدًا نادرًا وغير مرغوب فيه لمفهوم “الأمة الإسلامية” التي تمارس فريضة الجهاد كأمة واحدة وليس كأوطان رسمت الصليبية حدودها وفرضت محدودياتها .
تحميل مجلة الصمود عدد 192 : اضغط هنا
جولاب قاهر الصعاب
سنتذكر الآن بداية الهجوم على جرديز في(سبتمبر/ أكتوبر1991) .
كانت البداية مع جولاب ومجموعته من البدو “جماعة الشهيد منان”. وقد عرفنا دورهم الأسطوري في فتح خوست قبل ستة أشهر. وكان الجميع يعرف أن حقاني يحشد قواته للهجوم على جرديز، ولكن لا أحد يعلم بالضبط متى وكيف سيتم الهجوم، واحتفظ الرجل لنفسه بالسر. ولكنه كلف رجلين بمهام سرية.
الأول هو شقيقه الأصغر خليل، وكنا نقول عنه دومًا “لايفل الحديد إلا خليل”.
المهمة كانت تحديد وتجهيز مواضع للدبابات تستطيع منها أن تطال الخط الأول للعدو أسفل جبل “ستي كندو”. كان ذلك سهلا يسيرًا على خليل خبير الدبابات، وقد شاهدنا إنجازاته الإعجازية هو وشقيقه إبراهيم في عمليات فتح خوست بالدبابات.
والمهمة الثانية كلف بها جولاب، وكانت تبدو هي المستحيل بعينه. فالعدو كان قد سيطر منذ سنوات على إحدى القمم الشاهقة واستحكم فيها. القمة واقعة في عمق مناطق المجاهدين، وتدافع عنها قوات من الصفوة تمونهم طائرات الهيلوكبتر.
حاول حقاني ورجاله استعادة تلك القمة عدة مرات ولكنهم فشلوا. أقنع حقاني نفسه أن الموقع الحكومي مزعج لكنه قليل الضرر. فليس عليه أسلحة ثقيلة، إذن فهو موقع ترصد، وبما أنه في موقع منعزل ومرتفع أكثر من اللازم ، فقدرته على الرؤية محدودة. ثم أنه في هجومه القادم سيدفع قواته فجأة وبسرعة إلى مواضع القتال، فلن يستطيع العدو تدارك الأمر.
في أحد جلساته مع قياداته الميدانية سأله جولاب إن كان سيهاجم أولا ذلك الموقع المرتفع قبل بداية العمليات.أجاب حقاني أن المهمة صعبة وقد يفهم منها العدو أن هجومنا على المدينة وشيك بينما من الأفضل تركه في حيرة.أجاب جولاب أنه يمكن الاستيلاء على القمة قبل وقت قصير من الهجوم فلا يستطيع العدو فعل شيء. ولم يكن جولاب يعرف موعد الهجوم.
فسأله حقاني إن كان يستطيع الاستيلاء على القمة قبل غروب شمس هذا اليوم. فأجابه جولاب أنه يستطيع ذلك. ضحك حقاني، وهو يعلم صدق وشجاعة جولاب وجدارته بأن يفعل مايقول.
فوعده حقاني أن هو فعل فسوف يعطيه ورجاله مكافأة مجزية حددها لهم . تحرك جولاب على الفور، وحقاني لا يكاد يتصور إمكان نجاحه. ولكن عند غروب الشمس جاءت مكالمة لاسلكية من جولاب إلى حقاني يقول له إنه ورجاله فوق القمة وهم يسيطرون عليها تمامًا.
كان حقاني لا يكاد يصدق، فطلب من جولاب أن يطلق من موقعة قذيفة (أر بي جي) حتى يتأكد من وجوده هناك. وما لبث أن رأى حقاني والجميع الطلقة تلمع وتنفجر من فوق ظهر الجبل. فكبر الجميع مهللين ضاحكين ساجدين لله شكرًا، وهنأ بعضهم بعضا كأنهم في عيد.
وعند الصباح بدأ الهجوم على الخط الأول للعدو. والذي بدأ الهجوم هذه المرة كان خليل في دباباته. لقد اندفع خليل فجأة إلى موضع كان حدده سلفا وحيث لم يتوقع عدو أو صديق صعود دبابة إليه أو استخدامه في تمهيد مدفعي للهجوم .
وبضرباته المحكمة أصاب خليل ودمر جميع النقاط الهامة لأسلحة العدو الثقيلة ورشاشاته. فر الجنود مذعورين، فاندفع رجال حقاني من أماكنهم التي استحكوا فيها منذ الفجر، واحتلوا خط الدفاع الأول للعدو في وقت قصير. وكان عبارة عن سلسلة من التباب القوية.
لجأ جنود العدو إلى خط الدفاع الثاني عن المدينة، فسادت فوضى نتيجة انضمام هؤلاء الزوار المهزومين المرعوبين.
كان رجال حقاني قد بدأوا في استخدام ما تركه العدو من هاونات ومدافع، مع مالديهم من أسلحة ثقيلة في ضرب خط الدفاع الثاني وهو أيضا عبارة سلسلة من التباب . وما لبث أن انهار هو أيضا، وفر منه الجنود نحو المدينة عبر جسر فوق نهر يشكل حاجزًا بين المدينة وما يليها من مواقع عسكرية. استحكم رجال حقاني بشكل جيد في خط الدفاع الأخير عن المدينة وعند العصر انطلقوا منه صوب المدينة مقدرين أن معنويات العدو في انهيار وأن جنوده في حالة ذعر وفرار يمكن الاستفادة منها ودخول المدينة عبر الجسر.
وبينما طلائع رجاله يهمون بعبور الجسر صوب المدينة، علم حقاني أن مضيق طيرة لم يُغْلَق وأن قوات العدو عبرته بالفعل، كما شاهد رجاله قرب الجسر أن قوات جديدة وتعزيزات بالدبابات والجنود قد وصلت المدينة وأصبحت أمامهم. فأمر رجاله بأن يتوقفوا عن التقدم وينسحبوا فورًا إلى خط الدفاع الأخير ويستحكموا هناك . وكالعادة في أوامر الانسحاب التي تأتي بعد نشوة انتصار كبير غير متوقع ، تذمر البعض وفكر آخرون في عصيان الأمر . ولكن لم يحدث شيء من ذلك وما أن وصلوا إلى المكان المحدد لهم ، حتى رأوا طوفانا من الدبابات والمشاة يعبرون الجسر وينتشرون في الجزء الصحراوي الفاصل بين النهر ومواقع المجاهدين. تمركز العدو هناك وأحضر مدافعه وهاوناته وأخذ لساعات يَدُك خطوط الدفاع التي كان قد تركها صباح هذا اليوم . كانت خسائر المجاهدين في هذا اليوم محدودة جدا . واستشهد عدد من العرب من جماعة أبوالحارث ممن شاركوا في فتح خوست .
قال بعض الكومندانات القدماء ممن حضر الهجوم أنه لو تمسك المجاهدون بالأرض المنبسطة الواقعة بين النهر وخط الدفاع الأخير الذي استولوا عليه، وصمموا على اقتحام المدينة، لاقتلعهم هذا الهجوم الرهيب ولما عاد منهم أحد .
بسبب الشتاء تجمّد الوضع على الأرض على هذه الصورة بدون أي تغير يذكر إلى أن استسلمت المدينة في أبريل من العام التالي. ولكن الاشتباكات لم تكد تنقطع بين الطرفين في حرب استنزاف استمرت حوالي ستة أشهر .
تفاصيل متفرقة عن معركة جرديز:
– قرار الهجوم على جرديز اتخذه حقاني وأركان حربه في اجتماع عقد في مقر كتيبة العمري في خوست بتاريخ 7 سبتمبر 1991.
قبل الهجوم بثلاث أيام قامت مدفعية المجاهدين بقصف مُرَكَّز لعدد كبير من أهداف العدو الحيوية في جرديز. وردت مدفعيات العدو برد معاكس على مواقع المجاهدين. وعندما خمد العدو وبدأ رده المدفعي يهمد ويضعف شن المجاهدون هجومهم الرئيسي، عند الفجر.
– الهجوم الرئيسي بدأته كتيبة أبو جندل (التي بدأت هجوم فتح خوست) في الخامسة صباحا في30 سبتمبر1991 .
– كان الهجوم كاسحا بشكل غير عادي، وبدأ من أعتاب سلسلة جبال ستي كندو، وتوقفت أمام الحد الأول للمدينة، وكان التقدم حوالي 15 كيلومتر تقريبا. وكان لدبابات المجاهدين الدور الأكبرفي تدمير استحكامات العدو . سبب توقف الهجوم عند مدخل المدينة، كان عدم إغلاق مضيق طيرة، فوصلت التعزيزات من كابول إلى الخط القتال الأول مباشرة.
– من الغرب حاول المجاهدون في زورمت التقدم ولكن الطائرات أفشلت الهجوم.
– من الشرق، في منطقة سيد كرم، وهي منطقة يسيطر عليها جماعة “حكمتيار”، قصف المجاهدون أحد المواقع بعدة آلاف من قذائف الكاتيوشا، فهرب العدو. ولكن المجاهدين لم يتقدموا للاستيلاء على الموقع. وفي آخر اليوم عاد العدو إلى مواقعه.
– تكلمنا عن مهزلة المؤامرة في الشمال الغربي عند مضيق طيرة. وكيف رتبت المخابرات الباكستانية إفشال الهجوم على المضيق.
– من كل ما سبق يتضح أن اختراقًا كبيرًا حدث في جنوب شرق الجبهة بينما الموقف ظل على ما هو عليه في باقي المحاور[ شرق الجبهة وغربها] . وقد أخبرني حقاني أن ذلك كان من أسباب إيقافه للهجوم، لخشيته من ضرب مجنبات قواته المتقدمة، وربما أدى الأمر إلى تطويقها.
خاصة وأن إمدادات ضخمة وصلت من كابول وتحشدت أمام قواته في تلك اللحظة الحرجة.
تحميل مجلة الصمود عدد 192 : اضغط هنا
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )