جلال الدين حقانى .. العالم الفقية .. والمجاهد المجدد 36
بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
مجلة الصمود الإسلامية | السنة السادسة عشرة – العدد 188 | صفر 1443 ھ – سبتمبر 2021 م .
22-09-2021
حقاني: العالم الفقيه والمجاهد المجدد ( 36 )
من وقائع فتح خوست
– حقاني كان يتابع ما يحدث عند شقيقه خليل عبر المخابرة، ورفض استخدام القوة لاستعادة قلعة متون. وذلك من منطلق شرعي وحرمة الاقتتال بين المسلمين.
– كان على حقاني قبول “الأمر الواقع” أو قبول حرب داخل خوست لا تبقي ولا تذر، سيكون المجاهدون أول ضحاياها. فقبل حقاني بالخسارة المادية دون خسارة الأرواح.
– من أهم غارات “الغلول” الناجحة كانت الغارة على أفرع البنوك في المدينة التي كانت تحوي المليارات من العملة الأفغانية.
– الهندوس لم يتعرضوا لأي مكروه عندما استولى المجاهدون على قريتهم. وغادروا مدينة خوست تحت إشراف وحماية مجاهدي حقاني رغم اعتراض العرب.
– وفجأه تحولت المنطقة إلى جحيم من العيار الثقيل .. آلاف الانفجارات القوية المتتابعة إنه قصف عنقودي بدون إنذار مسبق.
– عند الغروب جاءتنا ضربة بصاروخ، كادت أن تكون القاضية على طاقمنا القيادي كله.
– النتيجة كانت أسر جنرال طيار كان يقود الطائرة، وأسر المستشار العسكري لرئيس الجمهورية وكان جنرالاً يدعي “صلح أمل”.
تحميل مجلة الصمود عدد 188 : اضغط هنا
ميليشيا دوستم في حرب خوست:
ـ بقي أن نذكر أن تعداد جنود ميليشا”جلم جم” في خوست كان حوالي ألفي فرد، قتل معظمهم والأسرى كانوا أقل من خمسمئة منهم ثلاثمئة مقاتل دون الخامسة عشر!!. كان منظرهم في الأسر مثير للشفقة، فقد كان معظمهم أطفالا بكل معنى الكلمة، وقد شاهدت أحدهم في الأسر وهو يسأل ببراءة الطفلولة أحد الحراس من المجاهدين قائلا:
ـ عمي!! متى أعود إلى البيت؟؟.
رأيت الحارس وقد طفرت الدموع من عينيه وهو يطمئنه بأنهم جميعاً سيعودون إلى بيوتهم سريعاً .. وقد تم ذلك بالفعل.
والسر في وجود الأطفال هو أن هامش الربح المتحقق من ورائهم كان كبيرًا. فقائد الميليشيا عبد الرشيد دوستم، كان يتلقى عن كل “رأس ” من المقاتلين مبلغاً معينا من حكومة كابول بينما هو يعطي مبلغًا أقل بكثير للمقاتل نفسه، أما إذا كان المقاتل طفلًا فإنّ راتبه لا يكاد يذكر. والعائلات الفقيرة مضطرة إلى توريد أطفالها ـ أو بيعهم في الحقيقة لقائد الميليشيا.
استحضار ميليشا جلم جم إلى خوست تم، في معظمه، بعد عمليتنا “المطار القديم ” ضمن الاستعداد لصد هجوم متوقع للمجاهدين على المدينة، ونتيجة عدم ثقة الحكومة في الميليشيات المحلية التي بدأت ” تتفاهم ” مع المجاهدين، وتهرب بشكل متزايد. بالطبع فإن توقف العمل ضد المطار لحوالي ستة أشهر سهل استيراد ميليشيات “جلم جم ” لتعزيز دفاعات المدينة. أي أنه سهل إبادتهم في حقيقة الأمر.
– المجاهدون الذين تسرّبوا من الطرف الغربي للمطار توجهوا مباشرة إلى قلعتي “تخته بك” وكانت القوة المهاجمة مكونة من كتيبة سلمان الفارسي وجماعة أبو الحارث.
سقطت القلعة الكبيرة، وفر المدافعون عنها إلى القلعة الصغيرة التي سرعان ما سقطت هي الأخرى بعد مقاومة بسيطة.
– أشد المعارك دارت في ” البازار” وما حوله من مقار حكومية عسكرية وشبه عسكرية. وقد شاركت دبابات المجاهدين في تحطيم أوكار المقاومة. ولم نعد نسمع أي خبر عن دبابات العدوّ. والغالب أن طواقمها قد فرت منها بعد أن شعروا بخطورة النيران المضادة للدروع التي يطلقها المجاهدون بكثافة من قواذف “آربي جي”.
جثث القتلى كانت كثيرة ومتناثرة في شوارع المدينة وما حولها من مناطق زراعية. عدد كبير من الضباط الشيوعيين قتلوا والكثير منهم فروا عبر الجبال في ملابس مدنية، وبعضهم لجأ إلى القبائل لتهريبة في مقابل كميات كبيرة من المال.
تم القبض على بعض هؤلاء ومنهم قادة عسكريون كبار في الجيش والاستخبارات بعضهم تم القبض عليه وهو مازال يغير ملابسه من العسكري إلى المدني.
– تراجع المدافعون إلى الخلف صوب هضبة متون. وتحت ضغط الرمايات تقهقروا إلى داخل “قلعة متون” وهي الرمز الأشهر في مدينة خوست التي تظهر ضخمة ومهيبة للناظر إليها من بعيد (وقد رأيناها من الداخل، قلعة قديمة وتعيسة ولكن مساحتها ضخمة وتحتوي مبنى للإذاعة ).
كان الشقيقان (إبراهيم وخليل) يطاردان أوكار المقاومة في البازار بواسطة الدبابات، ولما انحسرت المقاومة إلى قلعة متون أدارا إليها مدافع الدبابات وبدأوا في تحطيم الأبراج التي تنطلق منها النيران فبدأت تنهار. أيقن المدافعون عبثية المقاومة فأرسلوا إشارة الاستسلام التي كانت عرفاً بين المقاتلين، وهي إطلاق قذيفة “آر بي جي” في الفضاء.
أوقف “الشقيقان حقاني” رماية الدبابات وأمرا المشاة بالصعود إلى القلعة وإحضار الأسرى. ولكنهم ما كادوا يفعلون حتى شاهدوا مجموعة أخرى تدخل إلى القلعة وتصعد إلى أعلى الأبراج لترفع فوقه علم ـ حزب إسلامي حكمتيار ـ الذي كان “يتربص جهاديًا ” حتى فاز بالرمز الأعظم للمدينة، وهو قلعة متون!! . كاد “إبراهيم ” إن يفقد صوابه وطالب رجاله بالاستعداد للهجوم على القلعة لإخراج هؤلاء المتطفلين.
حقاني الذي كان يتابع ما يحدث عند خليل عبر المخابرة، رفض استخدام القوة لاستعادة القلعة وذلك من منطلق شرعي وحرمة الاقتتال بين المسلمين. ثم من ناحية واقعية وهي استشراء اغتصاب الغنائم بواسطة الآلاف من المتربصين من رجال الأحزاب. وأيضًا ظاهرة جديدة تتشكل لأول مرة وهي ظاهرة قوافل الغلول وهي آلاف من المسلحين القبليين الذين قدموا من وراء الحدود بالسيارات والتركتورات والشاحنات لسلب كل ما يمكن وضع اليد عليه، بعد لصق صور قادة بشاور فوقه، من مدارس ومقار حكومية وعسكرية ومرافق عامة .
كان على حقاني ورجاله قبول ذلك “الأمر الواقع” أو قبول حرب داخل خوست وعلى أطرافها، حرباً لا تبقي ولا تذر، سيكون المجاهدون أول ضحاياها، فقبل حقاني بالخسارة المادية دون خسارة الأرواح .
لم تكن الخسارة مادية فقط بل كانت دعائية أيضًا. فمن بشاور شن حكتيار ورجاله حملة دعائية واسعة ـ تعودوا على أمثالها قبلا ـ قائلين بأنهم فتحوا مدينة خوست واستولوا على هضبة متون وقلعتها الشهيرة . ربما كان معظم ما قالوه صحيحا إلا شيئا واحدا ـ ليس له أهمية بالنسبة لهم ـ وهو أنهم لم يفتحوا خوست ولم يشاركوا في هذا الفتح . وكذلك الأمر بالنسبة “للأحزاب الجهادية” في بشاور، بل أنهم قاوموا هذا الفتح وحرضوا رجالهم على حقاني وحذروهم من مشاركته في أي عمل عسكري .
السـطو على بـنـوك المدينة
من أهم غارات “الغلول” الناجحة كانت الغارة على أفرع البنوك في المدينة التي كانت تحوي المليارات من العملة الأفغانية. اللطيف أن شيئًا من هذا كله لم يقع في أيدي المجاهدين، بل لم يجرؤا على مجرد لمسه ، وإلا …!!
كانت الأموال تقسم بين مغاوير الغلول بالأكوام وليس بالعدد. ثم تتحول الأكوام إلى زكائب، ثم توضع في سيارات ( بيك آب) وتتجه صوب باكستان.
= شاعت قصة عن أحد مغاوير الغلول الذي ملأ سيارته “البيك آب” بزكائب النقود ثم حزمها بالحبال، وساقها صوب ميرانشاه وهو يضحك وكل عدة أمتار يوقف سيارته وينزل منها ويدور حولها ليتأكد أن شيئا من الزكائب لم يسقط .
في فناء بيته في ميرانشاه أحصاها مرة أخرى .. وهو يضحك .. ولعدة أيام ثم عدة أشهر كان يسير في شوارع ميرانشاه سعيدا .. وهو يضحك .. لأنه لم يفقد شيئا من الزكائب، فقط ضاع منه شيئ صغير جدا لا أهمية له .. لقد فقد عقله!!
– الغلول لم يستثن شيئا ـ بالمعنى الحرفي للكلمة. فقد حكى لي حقاني قصة مرت به ، بعد شهر من فتح المدينة ، حين شاهد شابا صغير السن يحمل جزءً من سرير خشبي مكسور ويسحب خلفه كلبا صغيرا بحبل قديم . فنزل حقاني من سيارته وذهب إليه يسأله عن هذه الأشياء . فرد عليه الشاب بكل فخر : هذه من غنائم خوست.
نعم هذا هو كل ما تبقى من خوست بعد نهبها بتلك الطريقة البشعة ، لم تنجو حتى كلابها الضالة من أن تكون ضمن الغنائم .
– وحتى آلهة الهندوس الذهبية لم تصادف التقدير المفترض . فقد عُرِضَ بعضها في ميرانشاه مقابل أعلى سعر، وتقدم الهندوس لدفع فدية للإفراج عن آلهتهم . فقدموا من الأموال أكثر مما قدمه الصاغة وتجار الذهب ، واستردوا الآلهة وعادوا بها فرحين.
– الهندوس أنفسهم لم يتعرضوا لأي مكروه عندما استولى المجاهدون على قريتهم ذات الأسوار. رغم أن موقف الهندوس كان مواليًا لحكومة كابول وحكومة الهند الحليفة لها. وقد أغاظ ذلك العرب الذين شاركوا في الفتح. ومنهم صديقنا “أبوتميم” الذي رافق مجموعة الكوماندان “شرين جمال” التابعة لحقاني، والذي تعامل مباشرة مع الفارين الهندوس.
لقد غادر الهندوس مدينة خوست تحت إشراف وحماية مجاهدي حقاني رغم اعتراض العرب على تلك المعاملة الكريمة “غير المبررة” .
( قبل أن تبدأ الحملة الدولية لطرد العرب من باكستان ، في إبريل 1993 ، عرضت علي بعض العرب أن نهاجر بعائلاتنا من باكستان إلى خوست. ثم اتصلت تلفونيا مع حقاني في ميرانشاه وطلبت منه أن يعطينا قرية الهندوس كي نحولها إلى قرية عربية، حتى ننجو بأنفسنا من مجزرة على وشك أن تبدأ . ضحك حقاني وقال أن ذلك قد يتسبب في مشكلة، ومن الأفضل أن نبحث عن حل آخر في خوست أيضا لكن أحدا من العرب لم يوافق على الهجرة إلي أفغانستان وفضلوا السفر إلى الدول الخارجية حيث تم اصطيادهم بسهولة).
جواسيس يزورون موقعنا
كان للعدو بعض “الأصدقاء” من حولنا يبلغونه المعلومات الضرورية عما يدور عندنا، كما حدث معنا في صباح اليوم الثالث للمعركة . وكنا في الليلة السابقة رمينا بعض القذائف على المطار . وذلك لأول مرة منذ حضورنا ـ حيث أن الأمطار منعت العدو من استخدام المطار في الليلتين الأولى والثانية.
كانت رمايتنا كثيفة نوعًا ما، على غير ما تعود العدو منذ استخدام المطار الجديد قبل ستة أشهر.
في الصباح رأيت ثلاثة من الرجال النشطين قادمين نحونا ماشين فوق خط الافق للجبل بدون احتراس ـ على غير عادة المجاهدين في أوضاع المعارك.
على الفور استنتجت أنهم من جواسيس العدو العاملين في المنطقة ـ وكنت قد رأيت أمثالهم كثيرًا في السنوات الماضية حتى صرت أعرفهم من طريقة مشيهم قبل الكلام معهم. دخلوا مغارتنا المعلقة في جبل الترصد، وكانت مخصصة لمبيت طاقمنا القيادي، وإدارة النيران .
قبل وصولهم أخبرت إخواني أن طاقمًا من الجواسيس قد جاء إلينا ـ وسيأتينا قصف الطيران بعد انصرافهم بقليل .
وبالفعل بعد انصراف هؤلاء بحوالي ساعتين جاءتنا ضربة جوية بصاروخ جو أرض أخطأ مغارتنا وأصاب القمة التالية لنا.
وعند الغروب جاءتنا ضربة أكثر خطورة كادت تكون قاضية لطاقمنا القيادي كله . وأيضًا بصاروخ جو أرض. فقبل الغروب بقليل صعدنا من المغارة الرئيسية في جبل الترصد، وهي قريبة من القمة، إلي “خندق إدارة العمليات” الموجود على خط الأفق لنفس الجبل، وهو خندق حفره المجاهدون فوق الجبل بعد انسحاب القوات الحكومية منه (عام 1989). كان على السفح الآخر للجبل مجموعة خنادق مواجهة للمدينة كما هي العادة في الخنادق الحكومية. لهذا السبب لم يكن من الممكن استخدامها لكونها مكشوفة للمواقع الحكومية المقابلة.
إلى جانب سبب آخر وهو أنها ضيقة وكئيبة وكريهة الرائحة لدرجة لا تطاق، لذا لم نستخدمها أبدًا ، باستثناء واحد حدث معي سأذكره لاحقا.
كان معي أربعة من الشباب، وضعنا مهماتنا على حافة الخندق وهي بعض الأغطية لأن الجو باردٌ وسيزداد برودة مع دخول الليل. وكان معنا منظار مقرب وجهاز مخابرة، وأيضاً ” براد شاي بالحليب ” نتناوله قبل وأثناء العمل بغرض التدفئة ورفع المعنويات. فعملنا هنا، هو عبارة عن “بحلقة” بالمنظار وصراخ على المخابرة.
الطائرات النفاثة كانت موجودة في الجو على ارتفاع كبير. لم نكن نراها أبدا، وكنت أعتمد على حاسة السمع في تجميع المعلومات عنها . والغريب أن أكثر تلك المعلومات تكون صحيحة .
من هذه المعلومات أن هذه الطائرات حديثة من طراز لم يستخدم قبلا. كذلك الذخائر، فقد كان معظمها جديدًا ، خاصة القنابل العنقودية التي ظهر العديد من أنواعها الجديدة، وتقلّص كثيرًا ذلك الطراز الفضائي الذي كان يحدث انفجارات كثيرة في الجوّ قبل أن يصل إلينا في الأرض . أي أنه كان يقدم لنا إنذارًا مبكرًا كي نختبئ. وفي الغالب الأعم لم يكن ذلك مفيداً جدا نتيجة افتقارنا للخنادق المسقوفة. ولكنه كان مفيدًا لهؤلاء الذين يمتلكون مغارات أو يعملون قرب الجروف .
دخل وقت صلاة المغرب، فأذَّن أحد الشباب. وطلبت منهم الصلاة جماعة في المغارة بالأسفل لأنني شككت أن موقعنا مستهدف من الطيران. وأنني سأبقى للصلاة قرب الخندق حتى أستدعيهم بسرعة إذا هبطت طائرات نقل في المطار.
بقي شخص واحد قريبا مني لمساعدتي في استدعاء الشباب عند الضرورة .
بدأت في الصلاة، وزاد اهتمام الطيران بنا. وعند السجود سمعت صوت فحيح فعلمت أن الطائرة قد أطلقت صاروخاً في اتجاهنا، وقدرت أنه سيصل عندي تحديدًا وقت نطقي بالتشهد، فاسترحت لفكرة الموت بعد قراءة التشهد. وبالفعل حدث الانفجار في الوقت الذي خمنته تمامًا، ولكن أخذني الذهول لجزء من الثانية لكون الانفجار حدث أسفل مني بحوالي مترين فقد كنت على قمة صخرية تعلو جرف جبلي حاد.
غمرتني سحابة سوداء وسمعت سقوط كتل ضخمة وأتربة كثيفة لم أتصرف تلقائيًا كما هي العادة ولكن فكرت: ماذا علي أن أفعل الآن؟.
تذكرت أنه ينبغي أن أنبطح على الأرض وأن أغطي رأسي بيدي حتى أحميها من كتل الصخور والقطع المعدنية الملتهبة المتساقطة.
فعلت ذلك، ورغم كثرة الصخور الضخمة المتساقطة لم يصبني منها شيء.
من المغارة حضر إلينا الشباب يهرولون، وأحدهم يناديني بفزع. وكان الدخان الأسود والتراب يغطي المكان بكثافة، فأجبته أنني بخير. وسألته عن باقي الشباب، فكانوا جميعا بخير. فحمدنا الله ـ وجلسنا في الخندق متوقعين ليلة حافلة بالعمل خاصة وأن الجو صحو ويسمح باستخدام المطار . وقد كان الأمر كذلك.
تحميل مجلة الصمود عدد 188 : اضغط هنا
ضربة غير عادية
استخدمتُ الخنادق الحكومية لمرة واحدة في تلك الحرب . في الليالي الأخيرة للمعركة كان القمر في السماء معظم الليل . وكان العدو يستخدم المطار ـ أو يحاول ذلك في النصف الثاني من الليل، لذا كنت حريصا على أن أكون متيقظا نشطا في ذلك الوقت. في تلك الليلة تأخرت طائرات العدو في القدوم إلى المطار، فخرجت أمشي منفردًا على السفح الآخر للجبل في مقابل المدينة. كنت أتفقد الخنادق المسقوفة القديمة أتأمل طريقة بنائها وتوزيعها فوق الجبل وأتخيّل حياة من كانوا فيها، وأتعجب من سوء الخنادق ونتنها وبؤس الحياة فيها، كنت أنظر إلى داخلها ولا أدخل فيها.
كنت أرهف السمع لأصوات الطائرات بشكل دائم. فسمعت صوت طائرة نفاثة على ارتفاع كبير، وبعد ثوان سمعت صوتا كأنه موج البحر، ولما كان الجو هادئا شاعريًا، وضوء القمرالمكتمل يضفي سحرًا رائعًا على الجبال والوادي المقابل لنا، فذهب خيالي إلى ليالي مدينة الأسكندرية وأصوات موج البحر وأيام الشباب الذهبية.
فجأة تنبه عقلي وأزاح خيالاتي وعواطفي، وبصعوبة وتنبهت أن شيئًا غير طبيعي يحدث، ولا أدري ما هو . هذا الصوت غير طبيعي ولا شك أن له علاقة بصوت الطائرة التي عبرت.
هناك كارثة ستحدث لا أدري ما هي!!. من الأفضل إذن أن أدخل إلى الخندق المسقوف وأنتظر، فعلت ذلك وبقيت عدة ثوان أراقب الموقف من فوهة الخندق .
وفجأه تحولت المنطقة إلى جحيم من العيار الثقيل .. آلاف الانفجارات القوية المتتابعة .. إنه قصف عنقودي بدون إنذار مسبق .. هكذا قدرت وقتها ـ كانت ضربة خطيرة هددت جديا راجمات الصواريخ لدينا، وموقع ترصدنا في نفس الوقت .
كانت أخطر ضربة جامحة مباغتة بهذا الشكل نتلقاها في عمليتنا تلك.
رائحة الكفر
تكلمت عن بشاعة خنادق الجيش الحكومي. وتلك ظاهرة عامة . وكان أبشع ما رأيت هو خندقهم الرئيسي فوق جبل تورغار (راجع كتاب المطار90) . وكيف أن ذلك الخندق كان مكانا للقتال، والاحتماء والمبيت، ودورة مياه. كان الوضع أبشع من أن يوصف. مجرد النظر إلى داخلها كان مأساة . لذا لم يدخلها أحد من المجاهدين تحت أي ظرف نتيجة رائحتها البشعة ومنظرها المرعب .
جميع بيوت الشيوعيين في المدينة، بل والمدينة نفسها كان لها رائحة سيئة أطلق الناس عليها “رائحة الكفر”. بعض كبار السن ممّن هاجروا من المدينة منذ الإنقلاب الشيوعي “عام 1978” عادوا بعد الفتح شوقا لرؤية المدينة وفرحاً بالفتح .
لم يستطع هؤلاء البقاء في المدينة سوى لوقت قصير ثم فروا منها . والسبب هو “رائحة الكفر” التي استمرت في المدينة ستة أشهر كاملة .
كانت زجاجات الخمر الفارغة شائعة جدا في المقار الحكومية والعسكرية. وعلى جدران البيوت هناك صور ممثلات السينما الهندية .
لم “يضبط” بيت واحد به نسخة من القرآن الكريم. في المقابل كانت “أصنام لينين” موجودة بكثرة غير عادية بمختلف الأحجام . وهناك حجم صغير “لصنم نصفي” يوضع فوق مكاتب المسئولين. وتم تحطيم تلك الأصنام والتمثيل بها عند دخول المجاهدين .
الجميع مشغولون
ما أن ركزنا راجماتنا في مواضعها حتى بدأنا التعرف على المطار نفسه وظروفه ـ فهذا شيء مفروغ منه ومستمر منذ فترة ـ ولكن الأهم هو التعرف علي أي مجموعات أخرى ستعمل ضده سواء بشكل كامل وتخصصي ـ كما هو حالنا ـ أو بشكل جزئي، أي كمهمة ثانوية إلى جانب مهام رئيسية أخرى.
من الصنف الأول لم نجد أحدا. حتى الكومندان وزير الذي أخبرنا أنه سيعمل بشكل متخصص ضد المطار بالترتيب مع الحكومة الباكستانية التي زودته بكميات كبيرة من الذخائر. وزير هذا لم نجد له أثر في معركة خوست كلها ، لا ضد المطار ولا ضد أي شيء آخر.
فتأكد ظني السابق من أنه كان جزء من خطة باكستانية لحماية المطار وليس الهجوم عليه ـ وبمعنى آخر جزء من خطة لحماية خوست من الانهيار ولإفشال فتح خوست كما فعلوا في مدينة جلال آباد عام1989 ـ حين لم يوجهوا أحدا من المجاهدين لقطع طريقها مع العاصمة كابول حيث تأتي القوات والدعم العسكري .
وكما فعلت باكستان ـ بكل أسف حين أفشلت عمل حقاني في جرديز بعد عدة أشهر من فتح خوست ـ حين تبنت مشروعا لقطع طريق جرديز كابول . وعند العمل اتضح أنه مشروع لحماية الطريق من الإغلاق ، وإفشال هجوم حقاني لفتح المدينة ـ وقد نجحوا في ذلك .
– صديقنا حاجي إبراهيم ، نجم عملية “المطار القديم ” اتصل بوحدات المدفعية والراجمات التابعة لحقاني، مستفسرا عن إمكانية دعمهم للعمل ضد المطار. فوعدوا خيرا إذا أتيحت لهم الفرصة. وعندما بدأت العمليات، كان مجرد الاتصال بهم عملية صعبة . وقد تلقينا في مناسبات نادرة بعض المساندة العابرة .
إذن سنخوض المعركة منفردين تماما ـ وهذا ما حدث بالفعل ـ براجمتين فقط أي أقل من نصف قوة النيران التي كانت تحت تصرفنا في عملية المطار القديم .
الأسوأ من كل هذا هو عملية المعلومات. فالترصد اللاسلكي لقيادة حقاني (عبد العزيز وفضل ) اللذان قدما لنا معلومات غاية الأهمية والدقة في مشروعنا السابق، أخبرانا هذه المرة أنهما لن يكونا معنا نتيجة الانشغال الكبير بأعمال أخرى مع حقاني .
هذه المرة لم يكن لترصد تورغار قيمة تذكر نتيجة بعد المسافة بين الجبل والمطار الجديد. وأيضًا لانشغال معظم من كانوا فوق الجبل بالعمليات الأرضية .
اعتمدنا على أنفسنا بشكل كامل في عملية الترصد ، وكان ذلك هو الجانب الأكثر بؤساُ في عملنا إذا كنا أشبه بأعمى يقاتل في الظلام يخطئ أكثر الوقت ويصيب أحيانا .
كان ذلك مرتبط إلى درجة كبيرة بأمكانية الرؤية في ضوء القمر فالعمليات بدأت مع بداية شهر رمضان ومعظم الليل يكون مظلما ولكنه يتحسن يوما بعد يوم . وكذلك كان أدؤنا يتحسن بنفس النسبة . حتى وصلنا إلى درجة جيدة في النصف الثاني من أيام العملية.
– إصاباتنا المؤكدة كانت ست طائرات احترقت أو انفجرت على المدرج ليلا.
وكان البدو قد سبقونا خلال الأشهر الست التي أعقبت عملية المطار القديم بأن أحرقوا ثلاث طائرات واحدة أسقطها الشاب ” باتشا دينا ” بواسطة صاروخ ستنجر، (كما ذكرنا في كتاب المطار 90 ). واثنتان أصابوهما بالمدفعية من موقعهم في ماليزي .
ذلك بالنسبة لطائرات النقل العسكرية التي هي عماد عملية التموين والإمداد بالسلاح والجنود وجميعها من الطراز الحديث وقتهاـ (انتينوف32) .
وقبل فتح المدينة بيوم واحد أي في يوم الأحد 14 رمضان(30مارس ) أسقط أحدهم طائرة هيلوكبتر عسكرية من طراز (مي ـ24) . وكانت خطوط القتال قد وصلت إلى داخل “البازار” كما ذكرنا ولسبب مجهول لم تتجه قوة أرضية ذات قيمة نحو المطار الجديد وظلت راجمتانا هما قوة النيران الوحيدة الموجهة نحوه. لأجل ذلك ظلت محاولات العدو مستمرة لاستخدامه، وبإصرار شديد .
– في صباح يوم الفتح ( 15رمضان ـ31 مارس) حاولت طائرة نقل عسكرية أن تفر من المطار، وكانت قد هبطت ليلة أمس وسط الرمايات، وحاولت الإقلاع فمنعتها رماياتنا فانتظرت حتى ضحى اليوم التالي ـ وهو تكتيك استخدمه العدو معنا في عمليتنا ضد المطار القديم. وقد نجحت إحدى طائراته في الإفلات في يوم سابق بنفس الأسلوب. ولكن هذه المرة انتبهت مجموعتنا قبل هروب الطائرة ومنعتها نيران الراجمات من الإقلاع وأصابتها ببعض الشظايا .
وكان أبوكنعان وقتها في نقطة الترصد وأدار نيران راجمتينا على الطائرة.
وكان من نتيجة ذلك أسر جنرال طيار كان يقود الطائرة، وأسر المستشار العسكري لرئيس الجمهورية وكان جنرالا يدعي “صلح أمل”، ( وهو اسم شهرة اكتسبه أو أطلقه على نفسه لكونه يدعو إلى مصالحة وطنية ينضم إليها المجاهدون ويشكل الجميع حكومة مشتركة ـ وهو ماتسعى إليه أمريكا والسوفييت بهدف منع قيام حكم إسلامي على يد المجاهدين، وهو أشد المحرمات في السياسة العالمية).
تحميل مجلة الصمود عدد 188 : اضغط هنا
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )