جلال الدين حقانى .. العالم الفقية .. والمجاهد المجدد 35
بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
مجلة الصمود الإسلامية | السنة السادسة عشرة – العدد 186 | ذوالحجة 1442 ھ – يوليو 2021 م.
25-07-2021
حقاني: العالم الفقيه والمجاهد المجدد ( 35 )
ونفذت ذخائر المجاهدين
وأوشك كل شيء علي الانهيار وأن يعود الوضع كله إلى نقطة الصفر مرة أخرى.
– دبابات المجاهدين ـ تحت قيادة الأخوين إبراهيم وخليل ـ واجهت كل ذلك بشجاعة فائقة ومهارة كبيرة وتجنبوا بنجاح مجهودات العدو غير العادية لتدميرهم.
– مخازن حقاني خاوية فلا ذخائر ثقيلة ولا ذخائر خفيفة ـ بينما المعركة في ذروتها والعدو يقاوم بشدة، والمجاهدون ليس لديهم من الذخائر ما يكفي حتى للحفاظ على مواقعهم.
– حقاني أن يصارح رجاله بحقيقة ما يجري، فقال لهم: ليس لدينا أي قذائف للدبابات، كما أن الذخائر الخفيفة قد نفذت هي الأخرى، وليس لدينا منها سوى الغنائم التي بين أيديكم.
– بكى الرجال، وصلوا وتضرعوا إلى الله ، ثم قرروا جميعًا بلا تردد:
” سننفق مالدينا من دم ومال في سبيل الله ولن نتراجع حتى ينصرنا الله أو نستشهد “.
– قامت الطائرات أثناء النهار بإسقاط كمية ضخمة من قذائف الدبابات لولا خطأ بسيط “الريح” هي المسؤولة عنه. إذ حملت جميع المظلات المحملة بالقذائف، وعبرت بها نهر شمل وأنزلتها فوق دبابات المجاهدين !!!! .
– جماعة أبوالحارث يشاركون بقوة في معارك المرحلة الجديدة ويقتحمون النهر الهائج بكل جسارة ، ويغرق عدد منهم . ثم يشتبكون بالأسلحة الخفيفة والمضادة للدروع مع دفاعات العدو جنوب المطار القديم وعلى مجنباته.
تحميل مجلة الصمود عدد 186 : اضغط هنا
الجمعة 5 رمضان ـ 21مارس 1991 :
بدأ المجاهدون، بقيادة الشقيقين إبراهيم وخليل، في التقدم على المدق الترابي لتطويق خط دفاع العدو ـ والتقدم من خلفه للاستيلاء على مواقعه الحصينة.
دبابات العدو كانت قد انسحبت بالكامل إلى شمال نهر “شمل “. ولكنها اصطفت على طول الضفة وصبت نيرانها بأقصى قوة على قوات المجاهدين المتقدمة أمامها على الضفة الجنوبية.
(يعتبر العسكريون أن التحرك بعرض الجبهة، في مواجهة قوات العدوّ، من المناورات الخطيرة جداً لكون مجنبه القوات تكون مكشوفة لنيران العدو. فقد المصريون أحد ألويتهم المدرعة في حرب 1973 أمام إسرائيل في سيناء في مناورة كهذه. ولكن مجاهدي خوست لم يخسروا أحدا من أفرادهم رغم أنهم قاتلوا راجلين أمام 40 دبابة للعدو ومئات الجنود، وطيران يقصف بشراسة).
بالطبع لم تكن العملية سهلة، فقد ووجهت قوات المجاهدين بنيران عنيفة جدا تنصب على ميمنة الطابور المتقدم، من الدبابات، والمصفحات، ورشاشات ثقيلة مضادة للطائرات كانت مثبتة على شاحنات عسكرية ومدرعات، وكلها مصطفة على الضفة الأخرى من النهر. هذا إلى جانب القصف الجوي الذي استمر طوال أيام المعركة ليلا ونهارا بعنف لم يسبق له مثيل ـ وعلى الأرجح أن الطيران السوفيتي قدم دعمًا جويًا كبيرًا في تلك المعركة ـ التي شهدت أيضا استخداما موسّعًا لصواريخ سكود بعضها كان يحتوي غاز الخردل برتقالي اللون.
– بدأ استخدام الغاز السام في صبيحة هذا اليوم وسقط أول صاروخ خلف ” باشيم ” وكان النهار مشرقا والريح راكدة. ارتفع الغاز بضع مئات من الأمتار في الجو على شكل عش الغراب ضخم كما يحدث في التفجير النووي ـ ومن موقع ترصدنا في “خرمتو” خشينا أن تهب الرياح في اتجاهنا فنكون على قمة جبلنا عرضة للإصابة.
في الشمس المشرقة سخن الغاز وارتفع إلى أعلى ولم تهب الريح . فمرت أزمة غاز الخردل بسلام ولم يصب أحد لاعندنا ولا في باشيم، وفارم باغ.
سجلت ذلك المشهد بالكاميرا ـ وفعلت ذلك أكثر من عشر مرات في ضربات غاز في أنحاء مختلفة من ميدان المعركة ، التي كنا نعرف تطوراتها من انتقال ضربات الطيران والصواريخ والغازات. فنعرف إلى أي مدى تقدم المجاهدون، قبل أن تصلنا الأخبار على جهاز المخابرة، وكانت تلك وسيلة أكثر مصداقية لدينا.
في تقدمهم على الطريق الترابي اتّخذ المجاهدون أسلوبًا حريصًا فكانوا يجهزون على المواقع الجبلية واحداً تلو آخر. ولا يتركون شيئا خلفهم وذلك حتى لا يتعرضوا لنيران معادية من مجنبتهم اليسرى بينما اليمني هي أيضا مكشوفة للعدو على شاطئ النهر. بل ربما تعرضوا لقطع الطريق من خلفهم وطوقهم العدو. لذلك استغرق تقدمهم على ذلك المحور عدة أيام.
– استسلم اليوم موقع “أليسار ” ويقوم “المجاهدون /المتربصون” بنزح ما به من معدات وأسلحة وتجهيزات وكانت كميات معتبرة.
– على الحدود الباكسانية على بعد حوالى خمسين كيلومترا شمال شرق خوست استسلم موقع “جاجي ميدان” الحدودي، وهو المنفذ الرئيسي لعمليات تهريب البضائع من باكستان إلي خوست.
الآن وقد انقطع اتصاله البري مع المدينة بسقوط كوكاراك وأليسار فلم يعد هناك من معنى لبقائه، خاصة بعد الضربات القاصمة التي تتلقاها القوات الحكومية يوميًا وتراجعها المتواصل أمام هجمات المجاهدين.
استسلم ” جاجي ميان” في عملية تقليدية تتجلى فيها مهارة الاستخبارات الأفغانية في التعامل مع مجموعات المجاهدين والقبائل . فعقَدَت اتفاق تسليم مع أسوأ العناصر الممكنة على جانبي الحدود الأفغانية والباكستانية، في حالة فريدة نادرة المثال .
أيضا تجهيزات جاجي ميدان كانت هائلة كموقع كان ذو أهمية خاصة فهو صمام الوجود للمدينة طوال مدة حصارها الطويلة جداً.
وذهبت غنائم “جاجي ميدان ” إلى نفس الفئة من “المجاهدين /المتربصين “
– تعرض المجاهدون اليوم لأكبر نكسة تعرضوا لها في معركة فتح خوست. فقواتهم العاملة غرب تورغار كانت تجهز لهجوم رئيسي انطلاقا من مواقعها.
كانت التجهيزات كثيفة واستغرقت عدة أشهر، قابلها العدو باستعدادات مماثلة لصد الهجوم خاصة في مجال الأسلحة المضادة للدبابات.
الآن وقد انتقل الهجوم إلى الطرف الشرقي من الجبهة ، وبدون تجهيزات مسبقة كبيرة الحجم ـ ثم الانتصارات الكبيرة المتتابعة من ماليزي إلى باشيم إلى فارم باغ إلى السير في طريق تطويق دفاعات العدو جنوب النهر واقتحامها من الخلف .
قوات المجاهدين غرب تورغار مكونة أساسا من كتيبة سلمان الفارسي التي يقودها الدكتور نصرت الله . ومعه عدة مجموعات ملحقة بها، أهمها المجموعة العربية بقيادة “أبو الحارث الأردني ” ثم مجموعة من طلاب الشريعة من قندهار يقودهم “ملا قندهاري” ( وكان هؤلاء إرهاصة متقدمة لظهور حركة طالبان التي تحركت عام 1994 وسيطرت على العاصمة عام1996 وأسقطتها أمريكا وحلفاؤها الإقليميون والدوليون عام 2001م) .
ثارت تلك المجموعات وشعرت بالغيرة ، نتيجة تهميشها الشديد ونجاحات الآخرين ، فوجهوا ضغوطا شديدة على حقاني كي ينفذوا برنامجهم الهجومي الذي تم تجاهله. عارض حقاني بشدة ، ولكنه كان يواجه ما هو أكثر من مجرد احتجاج لمطالب الثائرين .
انطلق الهجوم تدعمه دبابتان يسير المجاهدون أمامها وخلفها ، وتكدس كثيرون فوقها أيضا. توجه الجميع صوب هضبة “جاجر سر” التي تعتبر الطرف الغربي لخط دفاع العدو الذي تكون “باشيم ” طرفه الشرقي .
ما أن وصل الموكب إلى “منطقة القتل” التي حددها العدو حتى انفتحت عليهم سيول من النيران ، قال من نجي من الموقعة أن الصواريخ المضادة للدبابات التي أطلقت عليهم كانت أكثر من طلقات البنادق .
فاحترقت الدبابتان على الفور، وقتل عدد كبير ممن كانوا على ظهرها ومنهم “ملا قندهاري” الذي أصيب بصاروخ “آر بي جي” أطاح بنصف وجهه . قتل أيضا عدد من العرب وكثيرون من كتيبة سلمان الفارسي .
ارتسم الوجوم على وجوه المجاهدين في الجبهة بعد أن عرف بعضهم الخبر. وشعر الآخرون أن الهجوم قد فشل وأن الخسائر ثقيلة . تم سحب الجثث ، ودفن الشهداء العرب فوق هضبة مقابل مركز خليل في باري . توقف العمل من هذا المحور حتى بلغ التقدم المنطلق من “فارم باغ” مداه وسقط خط الدفاع الجنوبي كله .
ونفذت ذخائر المجاهدين
السبت 6 رمضان ـ 22 ما رس 1991 :
اليوم أشد الأيام حرجاً .. وأوشك كل شيء على الانهيار وأن يعود الوضع كله إلى نقطة الصفر مرة أخرى. فقد استولى المجاهدون حتى الآن على نصف خط الدفاع الجنوبي أو أقل قليلا . ونهر شمل في ثورة خطيرة مازالت تتزايد تدريجيا منذ بداية المعارك ومنسوب الفيضانات العنيف يزيد يوما بعد آخر .
والمدافعون عن مواقع العدو المتبقية جنوب النهر مستميتون في الدفاع ، وقد انقطع أملهم تقريبا في تلقي معونات سوى من الطيران . وزاد تأزم موقفهم أنهم قتلوا عددا من المجاهدين المهاجمين ، فضاعت منهم فرصة العفو التي يمنحها المجاهدون عادة للجنود الذين يستسلمون طواعية .
المجاهدون يواجهون الآن مقاومة أشرس من مواقع العدو الجبلية التي يتقدمون عليها من الخلف ، لكنهم يتلقون أيضا نيرانا حامية من مواقع العدو شمال النهر خاصة من الدبابات التي ظهر منها عددا أكبر مما كان متوقعا قبل بدء المعارك. فقد ظهر أن لدى العدو أربعين دبابة صالحة للعمل وليس عشرون كما توقع المجاهدون .
فقد المجاهدون بالأمس دبابتان ، أي ربع عدد الدبابات العاملة معهم . لديهم الآن ست دبابات فقط عليها واجبات ثقيلة جداً : أولا عليها أن تشق طرقاً للحصار خلف مواقع العدو ، الذي تزود بصواريخ سلكية مضادة للدبابات ، وبأعداد كبيرة من قواذف (آر بي جي ). وقد تمكن بالأمس من تحطيم هجوم المجاهدين وأحرق دبابتيهم .
وعليها ثانيا: التصدي لنيران دبابات العدو على الضفة الأخرى التي تشكل خطورة على مشاة المجاهدين ودباباتهم . كل ذلك يتم تحت قصف جوي غير اعتيادي تستخدم فيه كافة الذخائر المتاحة والمحرمة .. من العنقودي إلى الفوسفوري وغاز الخردل إلى صواريخ سكود العنقودية والغازية.
وقد وجه طيران العدو اهتماما خاصاً لدبابات المجاهدين محاولا تدميرها باعتبارها الخطر الأول على موقفهم العسكري على الأرض .
دبابات المجاهدين ـ تحت قيادة الأخوين إبراهيم وخليل ـ واجهت كل ذلك بشجاعة فائقة ومهارة كبيرة ، وحققوا بنجاح كل ماهو مطلوب منهم ، وتجنبوا بنجاح أيضا مجهودات العدو غير العادية لتدميرهم .
ولكن ما عساهم أن يفعلوا الآن وقد نفذتهم ذخائرهم؟؟. منذ يومين والشقيقان “حقاني” يرسلان إشارات تحذيريه لشقيقهم الأكبر جلال الدين ، بأن استهلاكهم للذخائر مرتفع وأن مالديهم يتناقص بسرعة ، وقد يتوقفون عن العمل فجأه . فرد عليهم قائلا أن لا قذائف لديه في المخازن ولكنه سوف يرسل شخصا إلى سوق ميرانشاه ليشتري ما هناك من ذخائر..لكن كان هناك ذلك المشتري “المجهول” الذي يسحب ذخائر الأسلحة الثقيلة بأعلى سعر .
(أخبرني حقاني بعد المعركة أنه في الحقيقة لم يكن يدري ماذا يفعل، فهناك من يتحكم في وتيرة تقدم المجاهدين بواسطة التحكم في كمية ونوع ذخائر الأسلحة الثقيلة المتاحة بين أيديهم أو في الأسواق القبلية القريبة منهم ).
ليس هذا كل شيء فالمصائب لا تأتي فرادى. فالمجاهدون في الجبهة الجنوبية المحتدمة أبلغوا حقاني عن نفاذ ذخائرهم من طلقات البنادق إلى قنابل الهاونات وقذائف (آر بي جي )!! .
وقالوا أن الذخائر متوفرة من الغنائم ـ وهي كميات ضخمة ـ لكنها لم تقسم بين المجاهدين ـ ( سيكون للمجاهدين أربعه أخماس الغنائم وللتنظيم الخمس ) .
في هذه اللحظة تحديدا كانت مخازن حقاني خاوية على عروشها فلا ذخائر ثقيلة ولا ذخائر خفيفة ـ انتهى كل شيء، بينما المعركة في ذروتها والعدو مازال يقاوم بشدة، والمجاهدون ليس لديهم من الذخائر ما يكفي حتى للحفاظ على مواقعهم.
فالعدو “نظريا” يمكنه الآن وبسهولة استعادة كل ما فقد من مواقع بل والوصول إلى القواعد الإدارية الكبيرة في عمق مناطق المجاهدين، هذا إذا كان لديه المعنويات الكافية لذلك.
– كان الموقف في غاية الحرج، واختار حقاني أن يصارح رجاله بحقيقة ما يجري، فقال لهم : ليس لدينا أي قذائف للدبابات ، كما أن الذخائر الخفيفة قد نفذت هي الأخرى، وليس لدينا منها سوى الغنائم التي بين أيديكم.
إني أطالب من الجميع صلاة ركعتين لله، والدعاء والاستخارة ثم يقررون قرارهم، فإن رأيتم الاحتفاظ بالغنائم فهذا حقكم، وإن رأيتم أن تنفقوها في سبيل الله فهذا خير لكم عند الله.
عند هذه النقطة عاد الجهاد إلى منبعه النقي الصافي الذي بدأ منه في أفغانستان، وزالت الغشاوة من على العيون .
فهذا موقف الخيار الصعب والحاسم ، فإما الجهاد بالنفس والمال معا والاستمرار في الجهاد حتى النصر أو الشهادة ، وإما أخذ الأموال والإنصراف بها إلى البيوت، وترك البلاد في أيدي العدو.
بكى الرجال وصلوا وتضرعوا إلى الله ، ثم قرروا جميعًا بلا تردد:
” سننفق مالدينا من دم ومال في سبيل الله ولن نتراجع حتى ينصرنا الله أو نستشهد “.
وكأن الله علم صدق نياتهم ففتح عليهم في خوست فتحاً لم تر أفغانستان له مثيلاً.
ولكن ما حدث لرجال الدبابات كان أعجب !!.
كانوا قد أنفقوا بالفعل ما غنموه من قذائف دبابات من فارم باغ التي كان بها عشرة دبابات على الأقل فرت أمام دبابتي المجاهدين تاركة مخزونها من القذائف . وهو مخزون ضخم، لكن الاستهلاك كان غير عادي ولم يسبق له مثيل في أي معارك سابقة، فنفذ ذلك المخزون أيضاً.
وكما ذكرنا لم يكن في مخازن المجاهدين أي قذائف إضافية، وحتى في أسواق السلاح القبلية ، هناك من سحب منها كل قذائف المدفعية والدبابات !!.
والآن تحشد القوات الحكومية معظم دباباتها الأربعون على الضفة الشمالية لنهر شمل في مقابل الدبابات الست للمجاهدين.
وكما قال إبراهيم لأخيه جلال الدين: “إن المعركة لا يمكن الاستمرار فيها بدون الدبابات”.
لقد لعب نهر شمل دوراً أكبر مما هو متصور في مسيرة تلك المعركة . فذلك النهر العذب الرقيق، الذي يمكن أن يعبره طفل من أكثر مناطقه، تحول إلى وحش كاسر مخيف، يبتلع أي شيء يعترض طريقه. حتى إنّ العدو عند فراره من “فارم باغ” خسر عدة شاحنات في النهر وانقلبت مدرعة أو أكثر هناك.
ولم يكن ممكنا للمجاهدين مطاردته إلى الجانب الآخر. وبالمثل عندما بلغ هجوم المجاهدين مداه الأقصى ونفذتهم ذخائرهم خفيفها وثقيلها، وكان العدو يعلم ذلك بلا شك من متابعاته اللاسلكية لأحاديث المجاهدين.
– وفي نفس الوقت تحطم هجوم رئيسي للمجاهدين على أعتاب هضبة “جاجرسر” رغم أنه هجوم جرى الإعداد له لعدة أشهر، وفقدوا فيه عددا من أفضل القيادات إضافة إلى تدمير ربع سلاح دباباتهم.
لو أن العدو شن هجومًا معاكسًا في ذلك الوقت، لاستطاع على أقل تقدير، أن يعيد الأمور إلى نقطة الصفر ويستعيد جميع ما فقده من مواقع .
إذا استثنينا انهيارهم المعنوي ، فإن العقبة المادية الأكبر أمام ذلك كانت نهر شمل، وغضبته الرهيبة التي تمنع الشاحنات العسكرية وحتى المدرعات والدبابات من العبور إلى الضفة الجنوبية.
عقبة أخرى واجهت العدو وغابت عن المجاهدين وقتها وهي أن العدو يعاني من نفس المشكلة بالنسبة للدبابات، فقد نفذت ذخائره أيضًا.
لم يعد في خوست كلها قذائف دبابات، والإمدادات من كابول عبر “المطار الجديد” إما أنها انقطعت أو أصبحت شحيحة جدا.
فراجمات العرب، وإن لم تمنع نهائيا استخدام المطار، إلا أنها جعلت استخدامه مسألة غاية الخطورة ، وأحرقت على مدرجه عدة طائرات بمن فيها . فهي تقف بالمرصاد لحركة النقل في المطار منذ غروب الشمس وحتى الشروق. إذن تموين الدبابات بالذخائر لن يتم إلا بالإسقاط المظلي .
فقامت الطائرات أثناء النهار بإسقاط كمية ضخمة من قذائف الدبابات على المنطقة شمال النهر.
تمت العملية بنجاح تام لولا خطأ بسيط لم يتعمده أحد بل أن “الريح ” هي المسئولة عنه. إذ حملت جميع المظلات المحملة بالقذائف، وعبرت بها نهر شمل وأنزلتها فوق دبابات المجاهدين !!!.
لا يمكن لأحد أن يتخيل مدى فرحة المجاهدين بتلك المعجزة التي اعتبروها تأييدا ربانيا لهم . فقابلوها بالهتاف والتكبير والسجود لله. فإذا كانت أمريكا وباكستان والسعودية قد حجبت عنهم الذخائر، فقد أمدهم الله بها من عقر دار العدو .. من كابول !!.
اتّصل الأخوان حقاني بأخيهم الأكبر كي يخبراه أن الله حل لهم المشكلة، ولم يعودوا في حاجة إلى الذخائر.
وبالفعل كفتهم تلك الذخائر إلى نهاية المعركة وفتح المدينة. وظلت هناك كمية زائدة استخدموها بعد ستة أشهر في الهجوم الكبير على مدينة جرديز.
( أخبرني الأخوان حقاني بعد ذلك أن القذائف كانت محفوظة في علب من الكرتون السميك، ومثبت بها صواعق التفجير وجاهزة للإطلاق الفوري ).
تحميل مجلة الصمود عدد 186 : اضغط هنا
الأحد 7رمضان ـ 23 مارس 91 :
أكمل المجاهدون اقتحام مواقع خط الدفاع الجبلي حتى وصلوا إلي هضبة “جاجرسر”.
المواقع الأخرى جنوب النهر إلى الغرب من الخط الجبلي تم إخلائها بسرعة، وأهمها موقع “شيخ أمير” الذي صمد طويلا أمام هجمات المجاهدين في السنوات الماضية.
تلك المواقع كانت عرضة للتطويق بعد سقوط الخط الجبلي فانسحب منها العدو فور سقوط”جاجرسر”. ولما كانت غير واقعة تحت الهجوم وقت الجلاء عنها فقد تمكن الجنود من عبور النهر بلا خسائر تقريبا بعكس زملائهم في الخط الجبلي الذين سقط معظمهم قتلى وأسرى أو غرقى في النهر.
– تعرضت مجموعة من شباب القاعدة لموقف حرج عندما عبرت مجموعة صغيرة منهم نهر شمل في مقابل شيخ أمير في محاولة لاستطلاع الوضع على الجانب الآخر وعند وصولهم إلى جرف على شاطئ النهر تعرضوا لنيران شديدة من قوات “جلم جم” الأوزبكية، فجُرِح أحدهم وظل في الماء البارد تحت الجرف لأكثر من اثني عشر ساعة حتى تم إخلائه بواسطة زملائه وبعض مجاهدي المنطقة من “المتربصين”.
وكان للقاعدة مركز قرب “شيخ أمير” في منطقة تدعي البتالون.
وقـفـة تـعـبويـة
الإثنين (8 / 9رمضان 1411هـ ـ 24 /25 مارس1991) :
أوقف حقاني القتال لمدة يومين فيما يمكن تسميته بالوقفة التعبوية.الهدف منها إعادة ترتيب القوات وتموينها وإراحتها ، ثم الإعداد للمرحلة القادمة من العمليات.
ولكن أحزاب بيشاور والصحافة الباكستانية شنت حربا نفسية شديدة عليه. وروجوا أنه قد اكتفى بما حازه من مكاسب في العمليات وأن معارك خوست قد انتهت والمجاهدون سيعودون إلى بيوتهم!! . وكالعادة نسبت الأحزاب إلى نفسها ما حدث ومالم يحدث من انتصارات حتى بدا كأن وجود حقاني لا معنى له ولا تأثير . فاضطر حقاني إلى إصدار بيان بأن المعارك سوف تستمر في القريب العاجل وأن الوقفة الحالية هي لإعادة تنظيم الصفوف .
خلال هذين اليومين كان فيضان نهر شمل قد بلغ أشده، وأي محاولة لعبوره كانت مجازفة كبيرة. وعندما بدأت العمليات مرة أخرى كان الفيضان مستمرا ولكن حدته قد خفت قليلا .
الأربعاء 10رمضان ـ ( 26مارس 1991) :
المرحلة الثانية من القتال قد بدأت بالفعل. (انظر خريطة المرحلة الثانية من العمليات)
أصعب المهام فيها كان عبور النهر الثائر ثم اختراق دفاعات العدو، الذي لم يكن قد استحكم بشكل كاف ولم يحفر الخنادق ويبث الألغام المطلوبة ، ولكنه علي أي حال وضع معظم قوة نيرانه ورجاله ودعمه الجوي الكاسح لمنع عبور المجاهدين للحاجز المائي المتلاطم في نهر شمل، الذي يعمل في هذه اللحظة بالذات إلى جانب العدو فقط. ظهر من العمليات لاحقا أن الخطوط العامة لخطة المجاهدين كانت كالتالي :
1ـ التركيز على المطار القديم كمحور أساسي للهجوم .
فيتم الهجوم عليه بشكل مباشر. مع هجمتان علي الأطراف بهدف تجاوزه.
من طرف الشرق في إتجاه “نوي كلاي” وهي ضاحية جديدة ملحقة بالمدينة.
ثم من ناحية الغرب تهاجم مباشرة على قلعتي “تخته بك” وهي قلعتان حصينتان قديمتان بهما مقر القيادة العسكرية للمدينة ، مع مخازن كبيرة للذخائر . وتبعد (تخته بك) عن المطار حوالي ثلاث كيلومترات .
وتبعد عن سوق ( بازار) المدينة عدة عشرات من الأمتار تشغلها حديقة من الأشجار ثم شارع رئيسي مرصوف. بعده تبدأ حافة البازار المحاط بمباني سكنية ومراكز حكومية عديدة، ثم تأتي من خلفه هضبة متون بعد حوالي كيلومترين تقريبا من قلاع تخته بيك.
– هضبة متون تحولت إلى تكدس رهيب للأسلحة الثقيلة المتخندقة بكثافة غير عادية تجعل من احتمال إصابتها بأي رماية احتمالا كبيرا وقد اضطرت الحكومة إلى ذلك نتيجة تقلص الأراضي تحت يدها. وكانت الهضبة مركزا للترصد بعد ضياع الجبال، ومركزا للاتصالات اللاسلكية والإذاعة.
2 ـ كان لحقاني مجموعات قوية في كل من دراجي ونادر شاه كوت.
الأولى يصلها بالمدينة طريق فرعي غير مرصوف ، والثانية على الطريق العام مباشرة ، وكلاهما يمكنه التقدم الآن بسهولة صوب المدينة بعد ما ضعفت كثيرا قوات العدو المواجهة لها. وانسحاب الجزء الأكبر منها للدفاع عن المحور الجنوبي عند المطار القديم وما حوله.
3ـ كان على مجموعاتنا العاملة ضد المطار الجديد أن تواصل عملها المعتاد ، إلى أن يصل المجاهدون إلى مركز المدينة أوالمطار الجديد .
هذه هي المحاور التي عمل عليها حقاني بالقوات المتاحة لديه تحت إمرته المباشرة .
ولكن ما إن تمكّنت قواته من عبور نهر شمل واختراق دفاعات العدو قرب المطار القديم، حتى اندفعت قوات “المتربصين ” تحاول السباق صوب مراكز العدو المليئة بالغنائم.
لم يقاتل “المتربصون” بشكل مناسب، بل ناوشوا بشكل إزعاجي ـ كما لاحظنا من منطقتنا الشرقية ـ ولكنهم أربكوا العدو وشتتوا مجهوداته المتبقية وأرعبوا قواته النظامية وميليشيا “جلم جم” وهم يرون بحار من البشر تطبق عليهم من كل جانب.
الخميس 11رمضان (27مارس 1991) :
جماعة أبوالحارث يشاركون بقوة في معارك المرحلة الجديدة ويقتحمون النهر الهائج بكل جسارة ، ويغرق عدد منهم . ثم يشتبكون بالأسلحة الخفيفة والمضادة للدروع مع دفاعات العدو جنوب المطار القديم وعلى مجنباته. ويبرز أبو معاذ الخوستي قائداً لتلك المجموعات، يتمتع بأفضل المزايا لقائد ميداني ناجح. وأظن أن نجاحات أبومعاذ في ذلك المجال لم ينافسه فيها أي عربي آخر طوال مدة الحرب في أفغانستان .
العدو يقاتل بضراوة ولكن المجاهدين يتقدمون ببطء على طول خط المواجهة .
الطيران مازال يعمل بنفس الوتيرة الجنونية. وأي موقع ينسحب منه العدو يتم قصفه فورا بالطيران وبصواريخ سكود وهكذا كنا نعرف تطورات الوضع العسكري من مواقعنا الجبلية في “خرمتو” .
الجمعة 12 رمضان ( 28مارس 91):
القتال يدور بالأسلحة الخفيفة على جانبي مدرج المطار القديم. لقد سقطت الدفاعات الجنوبية للمطار وكانت قوية ومنيعة.وكذلك هي الدفاعات الشمالية المتخندقة بشكل هائل ، وخلفها بيوت أسمنتية عديدة وحدائق ذات أشجار وقناة ري كبيرة نسبيا . وبشكل عام المنطقة تساعد على القيام بدفاع جيد، خاصة وأن المدرج الترابي المتسع يشكل عائقا كبيرا لكونه مكشوفا. لأجل ذلك تجمدت المعارك في المطار عند هذا الحد حتى تمكن المجاهدون من تجاوز المجنبات فأصبحت القوة المدافعة مهددة بالتطويق، فأخذت في الانسحاب صوب المدينة .
السبت /الأحد /الإثنين ( 13ـ14ـ15رمضان ) /(29ـ30ـ31 مارس) :
في تلك الأيام الثلاث توالى سقوط الأهداف الهامة:
– المجاهدون المتقدمون من شرق مدرج المطار القديم استطاعوا الاستيلاء على الحي الجديد (نوي كلاي) ـ وكان بالقرب منه السجن الجديد في المدينة فأطلقوا سراح المساجين هناك وأكثرهم كانوا “مساجين سياسيين ” فكانت فرحتهم لا تقدر وقد قضوا سنوات طويلة وصعبة جداً .
– توجه المجاهدون بعدها صوب المدينة القديمة ، وكان القتال عنيفا ، يدور في الشوارع الضيقة وعبر البيوت. وكانت المقاومة أساسا تأتي من ميليشيا “جلم جم ” الأوزبكية ، فقد كانت فرصة فرارهم معدومة نتيجة ملامحهم المميزة والمخالفة تماما لملامح أهل المنطقة . بينما كان الجنود يستطيعون الفرار بسهولة أكثر بملابسهم المدنية فيندسون بين السكان الفارين الذين كانوا يتوجهون فورا إلى المجاهدين الذين عاملوهم معاملة حسنة وسهلوا خروجهم من منطقة المعارك ومن ثم صوب ميرانشاه في باكستان .
حتى الجنود الذين يرتدون ملابسهم الرسمية ويستسلمون للمجاهدين كانوا يعاملون معاملة حسنة ويرحلون خارج الميدان مع المدنيين بدون أي مضايقات .
أما الضباط الكبار فكانوا يعتقلون ويضعون في الحجز في انتظار التحقيق .
ولم نسمع أن أيًا من هؤلاء تم إعدامه . بل أن أحدهم تم الأفراج عنه بعد أيام، وكان من قبيلة منجل ، وهي الأكبر عددا في ولاية باكتيا.
وقد تعاون هؤلاء مع المجاهدين خاصة في عمليات الهجوم على “جرديز” التي جرت بعد ذلك بحوالي ستة أشهر . تعاونوا بالمعلومات والاتصالات مع نظرائهم الضباط على الجانب الآخر. ولكن لم يشارك أيا منهم في العمليات مع المجاهدين .
تحميل مجلة الصمود عدد 186 : اضغط هنا
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )