معضلة الطبقية في التيارات الجهادية
سوريا نموذجا”
مفهوم الطبقية كظاهرة اجتماعية وما ينشأ عنه من صور الاستغلال والتسلط والظلم لم تسلم منه حتى المجتمعات الدينية أو التي تعلن أن مبرر وجودها قائم على بناء واقع مثالي يقف عند حدود كلمة الله في هندسة الشأن الاجتماعي والاقتصادي، برز ماركس كمخلص يبشر المجتمعات بزوال الطبقية باعتبارها صورة بشعة يتم فيها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان وشدد على ضرورة إنهاء ذلك عبر بلورة المذهب الاشتراكي الذي يؤول إلى الشيوعية كنتيجة تحفظ حقوق الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمحرومة وتنهي الاستغلال، تمخض عنه قيام الثورة البلشفية وتأسيس ما عرف بالاتحاد السوفييتي وحكم البروليتارية في روسيا القيصرية التي جعلت الدين وقتها قاعدة في عملية الحكم والتأثير في شعوبها كقوة ناعمة في السيطرة..
يهمني ان انتقل إلى الواقع الإسلامي وكيفية تعاطيه مع هذا المفهوم، يستند الكثير في هذا الصدد إلى جملة من الآيات القرآنية التي ألمحت إلى ظاهرة التفاوت الطبقي بين الناس؛ من ذلك قوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} (النساء:32)، وقوله سبحانه: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} (النحل:71)، وقوله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} (الإسراء:21)، وقوله سبحانه: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} (الزخرف:32)، فهذه الآيات ونحوها تقرر حقيقة واقعة وهي أن الله سبحانه قد فضل الناس بعضهم على بعض بشتى أنواع التفضيل؛ مما يعني تكريس قيم التفاوت الاجتماعي، ولكن يبقى الإشكال في ارتهان الطبقات غير المحظوظة بما تراه الطبقات الأكثر حظا من ناحية الاستفادة من الثروات والجاه وبقية الامتيازات الأخرى، درج أهل التأويل إلى الرؤية التي ترى أن الامر الذي وجهه القرآن للأغنياء وذوي الجاه بالإنفاق ومد العون والتكافل عموما هو ما سيضمن عدم جنوحهم نحو الاستئثار والاستغلال والظلم، لكن الواقع على خلاف ذلك ما يفسر ظاهرة قيام الثورات في التاريخ الإنساني.
“يرى ماكس فيبر” ان مكانة الطبقة تحددها علاقة الشخص بوسائل الإنتاج، كذلك كارل ماركس” يقول في موضوع الطبقة: تجمع من الأشخاص ينجز عملا واحدا في إطار عملية إنتاجية واحدة وتختلف باختلاف موقعها من عملية الإنتاج. فهي مجموعات من الناس تستطيع إحداهما ان تستحوذ على الأخرى نتيجة اختلاف المراكز. أوضح ماكس فيبر تعدد أبعاد تحديد الطبقة الاجتماعية وعدم قصورها على البعد الاقتصادي وحده فقد أضاف بعدين: (المكانة والقوة).
بعد هذا التمهيد المفاهيمي سأتحول إلى الحقل السلفي الجهادي في بيئة الصراع، لا شك أن من عاش في خضم تجربة من هذا النوع يدرك حجم التفاوت الموجود بين الأشخاص داخل الجماعات الجهادية خصوصا في مرحلة من الانفتاح على المكاسب والسيطرة على المناطق والموارد، فروق كبيرة على مستوى الثروة والمكانة، غالبا ما تلعب المسميات والألقاب دورها في تأسيس الطبقية رغم التمظهر الديني، هناك من يملك كل شيء ومن لا يملك أي شيء! وسائل الإنتاج في بيئة الحروب تندرج ضمن ماله علاقة بملكية آلة الحرب (الأسلحة والجنود) ولكن الجميع يتشارك في الحصول عليها من خلال العمليات العسكرية، بحيث يخاطر الجنود بحياتهم مع ما يترتب عليه من ترك أبنائهم وازواجهم بلا معيل في سبيل ذلك، مع هذا التساوي في العمل أو بالأحرى أن من يخاطر غالبا من الطبقات المتدنية في السلم المادي ليحصد ثمار ذلك مجموعة من الرأسماليين -إن صح التعبير- أو أمراء الحرب الذين يعيشون رفاهية لا يمكن تصورها في مقابل البؤس الذي عليه أولئك الأتباع الذين تزداد الفوارق بينهم مع مرور الزمن.
يفتح هذا الباب للذين يرون في التملق اللفظي والسلوكي بحيث ترى أن الكل يحرص على المظهر الخارجي (اللحية والزي) سلما لبناء علاقة مع مالك وسائل الإنتاج، او الدخول في صراع معه على تلك المكاسب باعتبارها من حق الجميع، اما من عدم الحيلتين فلا شك سيبقى في الطبقات المتدنية والتي سيتم استغلالها مقابل بعض الدخل المادي الذي بدوره يكرس نوع من التبعية والارتباط قد تصل إلى نوع من العبودية لمالك لوسائل الإنتاج.
انطلق مما قرره “فيبر” عن المكانة والقوة باعتبارها بعدين آخرين في المفهوم الطبقي؛ في السياق الجهادي يعتبر الدين او نوع من القراءة له حجر الزاوية في البناء الداخلي، وتبرز أهميته كذلك باعتباره محوريا في عملية الحشد والتعبئة والتبرير لتحقيق أهداف الجماعة، ولكون الرمزية التي يمثلها في تلك البيئة يسعى البعض الآخر ان ينال كرسي من خلاله يبني لنفسه مكانة اجتماعية تقفز به إلى الأعلى على مستوى الهرم من خلال تمثله لدور الحامي للأيديولوجية والمنافح عنها والداعي إليها تحت سقف المالك لوسائل الإنتاج طبعا.
يعكس تملك وسائل الإنتاج قوة كبيرة بموجبها يقدم الكثير من الناس الولاء، ومن اختار غير ذلك ينال الحرمان فالكثير من الذين يختلفون مع تلك الجماعات او يجنحون نحو ما يرونه يخدم قضيتهم يعيش التهميش والإقصاء، لا شك أني بسبب انخراطي في الصراع السوري تسبب لي ذلك في أضرار كبيرة أبرزها محاكمتي في حال الرجوع إلى المغرب ضمن قانون الإرهاب.
ومع ذلك لم نحظ بأي تفهم لقضيتنا او دعم من شأنه أن يعزز خيار الوصول إلى أفضل المقاربات مع المغرب؛ بل اطلقوا العنان لبعض أبناء بلدنا المغفلين مقابل الطعن في تلك المبادرة او العمل على افشالها بشتى الوسائل؛ كانت الفكرة المقبولة أن نتشاور معهم (هتش) في طرح قضية الحوار مع النظام المغربي وأن لا نتجاوزهم، حتى الشباب المغاربة هناك أبدوا تحفظات كبيرة حيال الأمر، فمن يقدر على تبعات إعلان هكذا مبادرة في جو من الأفكار السلفية الجهادية الممتزجة بالنظرة الاستغلالية التي ترى في الأنظمة طاغوتا يجب الكفر به والبراءة منه وعدم الدخول معه في أي حوار.
فبقاء الشباب لا شك يخدم تلك الجماعات في صعودها الطبقي مقابل بعض الفتات وإضفاء بعض الألقاب على البعض منهم مقابل ضمان عدم خروج بقية القطيع او جنوحه نحو التمرد أو المطالبة بالحقوق.. تسبب هذا في وقوعنا ضحية للطبقية المقيتة، كنا نظن اننا نخدم قضية وليس شخص او جماعة، فلما تبين ان مصالحنا اختلفت اخترت الصواب في نظري، فتنكروا لكل تلك السنوات التي ضحينا وتبعاتها، رغم أنهم أسياد البرغماتية والبحث عن الحلول!
بقلم: أديب أنور
المصدر :
مافا السياسي ( ادب المطاريد )