سلسلة مقالات 33 استراتيجية للحرب -15- (استراتيجية الاستخبارات)
سلسلة مقالات 33 استراتيجية للحرب -15- (استراتيجية الاستخبارات)
بسم الله الرحمن الرحيم
15- استراتيجية الاستخبارات
الإشارات التي يطلقها الناس تبين حركتهم التالية لمن يلتقطها ويقرأها؟ .. حينما سأل الأسد العجوز الثعلب الواقف على فوهة الكهف: لماذا لا تدخل؟ قال الثعلب: كنتُ دخلت لو لم أرى الكثير من آثار الخطوات الداخلة إلى الكهف دون أي خطوات خارجة .. بعد غزو العراق للكويت قال بوش الأب لصدام حسين: دعنا نرسم خطاً .. حينما سأل مراسل أمريكي الشيخ أسامة بن لادن رحمه الله عن خطوته القادمة فقال له: الجواب ما تراه لا ما تسمعه .. ووفى بها كما وفى من قبل هارون الرشيد .. عندما عُرض على سيد العصر في الوفاء الملا عمر رحمه الله بيع الصنم قال: لأن ينادى علي يوم القيامة أين عمر هادم الصنم؟ أحب إلى من أن ينادى علي أين عمر بائع الصنم؟ .. ووفى بها كما وفى من قبل محمود الغزنوي .. ما نقوله أو ما تخطه أيدينا يجعلنا كتاب مفتوح فكل إناء يفيض بما فيه ..
أربعون عام وأفغانستان “قاهرة الامبراطوريات” تقاوم بكبرياء .. في نهاية عام 1838 غزا الانجليز أفغانستان لأنها ستؤمن مصالح بريطانيا ضد الروس .. كما أن نجاح الحملة مضمون فرجال القبائل الأفغانية يحملون أسلحة بدائية .. والجيش الإنجليزي سيقدم نفسه على أنه محرر لأفغانستان من الغشم الروسي .. وكجالب للتقدم والتحضر والدعم .. وسيضعون وكيلاً لهم يرعى مصالحهم ( الشاه شجاع ) ملكاً على أفغانستان .. وعندها يغادر الجيش ويصبح النفوذ البريطاني غير مرئي للشعب الأفغاني .. هكذا كانت رؤية مخطط الحرب الانجليزي ( ماكناتن ) فما الذي حدث حتى أبيد الجيش البريطاني عن بكرة أبيه؟!! ..
الذي رأه الشعب الأفغاني ولم يلحظه قائد الحملة ( ماكناتن ) أن الشاه بداً مع كبر سنه خاضعاً للمحتل .. الحاكم السابق لأفغانستان ( دوست محمد ) يعد جيشاً في الجبال لطرد المحتل .. أهان المحتل القبائل في الجنوب وسلب أراضيهم من أجل الطعام .. استدعى قائد الحملة مايربوا على 12 ألف هم عائلاتهم وخدمهم وجنود إضافيين .. شاهد الأفغان أيضاً في شوارعهم عادات غريبة “الخمور – سباق الخيل – المسرح …إلخ” .. خفض المحتل رسوم العبور في المناطق القبلية التي تُدفع للقبائل إلى النصف .. اتبع المحتل سياسية فرق تسد بين القبائل في محاولة فاشلة برشوة سياسية لأحد قادة القبائل ..
أما الحاكم البريطاني ( مكناتن ) فكل الذي رأه أن ( الشاه شجاع ) بلا شعبية فقرر عدم مغادرة أفغانستان للحفاظ على مصالح بريطانيا .. لم ينصت للأصوات التي حذرته من نشر العادات الغربية في الشارع الأفغاني .. تعلل بأن كل شيئ سينسى ويغتفر عندما يغادر الجيش وما أن يشعر الأفغان بفوائد الحضارة الإنجليزية حتى يزداد امتنانهم .. تجاهل نصيحة ( الشاه شجاع ) حول اغتيال خصومه ..
في نهاية 1841 أحرق الشعب الأفغاني ( الكسندر بورنيس ) المسؤول عن السياسة البريطانية بكابل في بيته الذي أكلته النيران .. وانتشرت الثورة على الإنجليز .. فعقد ( مكناتن ) علناً اتفاقية يخرج بموجبها الجنود الإنجليز ومرافقيهم من أفغانسان في مقابل تأمين الأفغان الطعام لهم خلال انسحابهم .. وفي نفس الوقت أعد حيلة تساعد على بقاء النفوذ الإنجليزي في أفغانستان .. فأرسل سراً عارضاً رشوة سياسية على أحد زعماء القبائل بجعله حاكماً على البلاد وسيموله بسخاء للقضاء على الثورة ..ولتأكيد الاتفاق ذهب ( مكناتن ) للقاء الزعيم القبلي ( أكبر خان ).. ولأن معدن الأفغان نفيس قبض ( أكبر خان ) على ( مكناتن ) وأرسله للسجن .. وفي الطريق احتشد الأفغان وقاموا بتقطيع ( مكناتن ) لأشلاء وساروا بأطرافه في كابل وعلقوا جذعه على خطاف الجزار في سوق كابل ..
وأجبرت القبائل الأفغانية ذات التسليح البدائي الإنجليز القوة العظمى ذات التسليح الحديث والمهول على الانسحاب من طريق ( كابل – جلال آباد ) 160 كم فقط .. وخلال الطريق وبمعية الله قضى الأفغان والطقس السيء على 17000 جندي إنجليزي مع عائلاتهم وخدمهم .. مسطرين بالدماء نهاية الحملة الأولى الفاشلة للإنجليز على أفغانستان التي لم تتجاوز سنتين وأشهر قليلة ..
في 13 يناير 1842 وصل إلى الحدود الأفغانية الهندية بجلال آباد حصاناً يشق طريقه وسط الثلوج باتجاه البوابة .. كان راكبه نصف الميت هو الدكتور ( ويليام برايدون ) الناجي الوحيد من الحملة البريطانية الملعونة لأفغانستان .. فهل اتعظ الأمريكان؟ ..
لقد أغلق ( مكناتن ) عينيه وأصم أذنيه فلم يرى الاشارات كما لم يسمع التنبيهات والنصائح .. ولو أنه تواصل مع الهنود الذين عاشوا بأفغانستان لأخبروه أن الشعب الأفغاني من أكثر الشعوب كبرياء واستقلالية على وجه البسيطة؛ وأن منظر القوات الأجنبية في طرقاته هي إهانة لا تغتفر .. وأن محاولة تغيير عادتهم لما يراه هو تحضراً عندهم فسق وفجور وخروج عن العرف والتقاليد .. أما سلبه لأموالهم وأرضهم هو خط أحمر لا تحمد عقبى تجاوزه .. وأسوء ما هداه إليه عقله تخيله أن المال وجاذبية المصلحة الذاتية تشتري له الولاء بين الأفغان .. أن ترى من منظورك أنت!! وتفهم كما تحلم أنت!! وتريد أن تجبرهم على تبني مشروعك!! وتديرهم كما يحلو لك!! فأين هم من كل ذلك بل أين أنت؟ إنه عمى البصيرة لنفس مريضة وهكذا المحتل دوماً وكذلك الطغاة قال الله تعالى عنهم {… قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ {29}..
الأفغان غير قابلين للتطويع بل تكمن عزتهم في المواجهة والصراع .. وهذا هو أسلوب حياتهم: إله يعبدونه .. دين يفخرون برفع لواءه .. وأرض صلبة يعشقونها ويحرسونها .. وجبال وعرة يمتطون قممها ويروضونها .. وهواء نقي يتنفسونه .. فمن يجرؤ على أن يسلبهم حريتهم أو يعكر عليهم صفو حياتهم ..
لقد مر على أفغانستان الاسكندر المقدوني فلم يهنأ فيها .. وتبعه الإنجليز فما عاد منهم إلا برايدون .. ودَفن الروس في أرضها أشلاءً أطلق عليها يوماً الاتحاد السوفيتي .. واليوم تجتهد أمريكا في الفرار لتبقى متحدة وهيهات فلعنة أفغانستان أصابتها .. كما أصابات الإمبراطوريات قبلها .. إنها مقبرة الغزاة فمن يجرؤ على العودة؟ .. بل راياتها السود تخرج فاتحة للغرب قريباً إن شاء الله ..
وبقيت كلمة: ليس بالسلاح وحده ننتصر وإنما بهذا الدين .. القدرة على تحقيق النصر ليست بحداثة السلاح وتطوره .. ولا بالصواريخ والطائرات والدبابات .. ولا بالتقنية الحديثة .. ولا باسم الامبراطورية إنجليزية أو روسية أو أمريكية .. إنما بهذا الدين الذي عمرت به قلوبهم .. وبهذه اليد الصابرة المحتسبة التي تمسك بالسلاح .. هؤلاء هم الأفغان المسلمون .. البلد والشعب الذي أذل أعتى الامبراطوريات .. لا أحد يقدر عليهم طالما أن الله معهم ..
في لعبة السياسة من الأهداف الاستراتيجية “شخصية متخذ القرار” سواء كان شخص أو مجموعة .. ادرس بعمق شخصية القائد وبطانته المؤثرة في القرار .. تعرف عليهم عن قرب .. حدد نقاط ضعفهم .. ليس بالضرورة أن تكون النساء أو المال .. ربما رغبته في إثارة الإعجاب أو حرصه على إخفاء بعض المظاهر الجسمانية أو حلمه بأن يقبل به المجتمع السياسي كند .. أو توقه لأن تقبله الطبقة الاجتماعية الأعلى كعضو .. أو حرصه على احترام نفسه …إلخ .. فحتى أقوى الرجال لديهم نقاط ضعف إنسانية ..
الجزء الثاني في اللعبة هي إعطاء هذه القيادة ما تريده بشدة لتنال منها ما تريد .. فرجل المخابرات يمنح إعجابه لمن يطلب الإعجاب ليجعله يستمر في الثرثرة والإدلاء بالمعلومات أو لتوجيهه بشكل غير مباشر لما يضره أو لتخويفه فلا يقوى على الخطوة التالية .. كما أن القيادة التي ترغب في أن ترفع من طبقتها الاجتماعية فربما تداوى ببعض المال أو بالزواج من إمرأة من الطبقة الأعلى .. وهكذا يمكن اكتساب ثقتها ومن ثم إدارتها عن بعد لحتفها .. هكذا فعلت أوروبا بنابليون “عبقري الحرب” حتى قضت عليه .. فحينما تقضي على القائد تتوه القوات .. وقديما قيل “اضرب الراعي تتفرق الخراف” ..
وبقيت نقطة:
في اللعبة الدولية الحديثة حينما تحاول بعض الشعوب أن تفلت من وطأة الامبراطوريات المستعمرة تلجأ الأخيرة إلى الخيار شمشون “علي وعلى أعدائي” وتنفذ ذلك من خلال الحكمة الإنجيلية “اضرب الراعي تتبدد خراف الرعية” فتقوم بإثارة الفتن الداخلية فتُدخل البلاد في متاهة وحالة من الفشل تتبدد معها الثروات وتضيع كثير من الفرص .. وللخروج من هذا المأزق لجأت لإعادة صياغة الحكمة السابقة – فالإنجيل على كل حال محرف ولا يضره زيادة البلل – كالأتي: “اكسب الراعي تكسب خراف الرعية” .. أليس هذا ما تعيشه اليوم بلادنا الإسلامية؟ ..
الاساس في نشأة أجهزة الاستخبارات هو رغبة القيادة في معرفة:
أولاً: نفسية القيادة المعادية ونفسية بطانتها والمؤثرين في اتخاذ القرار .. فمن المهم أن نعرف كيف تفكر وما هي المرجعية التي تحكم مسيرتها .. والضوابط العامة والخاصة لشخصية القائد وأعوانه المتنفذين .. وخلاصتها أن تجعل الخصم كتاب مفتوح يمكنك توقع تصرفاته بدقة عالية ..
ثانياً: الحصول على المعلومة الخام لتحركات العدو ليس العسكرية فقط وإنما السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية .. إلخ فكل خطوة يخطوها في كل منها هي مؤشر على مجموعها النهائي .. وهو الهدف الذي تسعى الدولة لتحقيقه وربما الذي كلفت بتحقيقه! ..
ثالثاً: رؤية الاشارات التي تنبئ بالخطوة القادمة للعدو .. جرت العادة أن لدى البشر رغبة مكبوتة في كشف نواياهم ولهذا فمن خلال ملابسهم ومن خلال لغة الجسد وتصرفهم بعقلانية أو بعصبية أو بدعابة أو حتى بالرقص ( البشير ) ورؤية بث عيونهم .. أو بتحديدهم أيام خاصة للقاءات الإعلامية .. أو صياغة عبارات لها دلالة خاصة أو مستوحاة من كتبهم ( المقدسة ) أو لها معنى ودلالات من خلال الحكم والأمثال والقصص الشعبية والأساطير القديمة .. فكل هذه رسائل يكشفون بها عن نوايهم .. وربما عن حيلهم! ..
التعرف على نفسياتهم تجعلهم كتاباً مفتوحاً .. المعلومة الخام هي الواقع العملي .. رؤية الاشارات تكشف النوايا .. وكلها تكسبنا الرؤية والاحساس بالأمن أو الخطر .. وتجعلنا نتنبأ بالخطوة أو الخطوات القادمة ..
نصائح مخابراتية:
– في العمل المخابراتي المطلوب من عنصر المخابرات إحضار المعلومة الخام كما هي .. على أن يدون تحليله الشخصي في تقرير منفصل ..
– نوعية المعلومة أهم من كميتها .. خاصة النفسية منها .. فمعلومة صغيرة تفيد بأن الخصم شخص عصبي يسهل استفزازه .. فنحن أمام شخص نادراً ما يفكر بطريقة صحيحة ويمكن سوقه والسيطرة عليه وإفقاده توازنه لاتخاذ المزيد من القرارات الخاطئة ..
– الأزمات تكشف نقاط ضعف العدو خاصة تلك التي يجتهدون في إخفاءها .. ووضع الخصم في موقف دفاعي يجعل رد فعله فاضحاً لأكبر مخاوفه التي سيبذل الوسع في سترها ..
– المعلومات القيمة هي ثمرة شبكة من الأصدقاء والحلفاء .. الأبواب الخلفية التي يدخلون ويخرجون منها تساهم في الحصول على أثمن المعلومات كما تساهم في تسوية الكثير من النزاعات .. ولا غنى عن هذه الشبكة غير الرسمية ..
– جرت العادة أن تضم شبكة المعلومات الرسمية: بخلاف أصحاب النفوس الضعيف يمكن ضم الشخصيات المناهضة للعدو وترغب في التعاون .. المنبوذون والمهمشون .. الأقليات الطامحة للتحرر والاستقلال .. القبائل التي تم إذلالها .. كل من له ثأر مع نظام العدو وله رغبة في القضاء عليه ..
– لا يمكن الاعتماد على نوع واحد من الشبكات .. كما لا يمكن الاعتماد على معلومات يأتي بها عنصر واحد ..
– قراءة مؤلفات القادة تجعلهم كتاباً مفتوحاً للمدقق .. مثل هذه المؤلفات تحتاج إلى دراسة عميقة ..
– العدو ليس أحمقاً ولا جامداً لا يتفاعل أو يتغير .. هو أيضاً يمارس نفس ما تفعله .. والصراع بين عقلين متجدد ومتغير .. إن عمق المعرفة بنفسية العدو لا تغني عن حداثة المعلومة خاصة إذا كان العدو يعتمد على المؤسسات وليس على الأشخاص الذين يتواجدون على قمتها لفترة من الزمن ..
– اعرف عدوك جيداً قبل اتخاذ أي خطوة .. فالقائد الانجليزي ( مكناتن ) تغافل باستعلاء عن فهم الشعب الأفغاني ولم يرى عزة نفسهم وكبريائهم وبالتالي لم يلمح بريق سيوفهم إلا عندما شرعت في تمزيق جسده ..
بقلم : عابر سبيل
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )
www.mafa.world