مصر ..العِبَر والعَبَرات فى ثلاث ثورات
مصر .. العِبَر والعَبَرات فى ثلاث ثورات
ثورة عرابى ـ ثورة سعد زغلول ـ “لا.. ثورة” 2011
الفهرس
الفصل الأول :
– حرب فلسطين . وحرب الفدائيين فى قناة السويس .
– الجيش للقضاء على الجهاد والثورات الشعبية.
– الوفد يهرب من ماضيه الجهادى .
– سعد زغلول مؤسس أول جهاز سرى للثورة الشعبية .
– جهاز سرى لثورة 1919 . – سعد زغلول حلقة ربط بين ثورتين .
– ثورات مصر .. والتردد فى الإستلاء على السلطة.
– الثورات المصرية وأجهزتها المسلحة .
الفصل الثانى :
– تحديات أمام ثورة 1919 : جيش الإحتلال والقصر الملكى .
– ” نجيب الهلباوى” يخون الثورة . – ثورة 1919 : الدم مقابل مياه النيل .
– خلية العمال تغتال السردار (لي ستاك) . – بطل .. بدون بطولة .
– إعترافات قبل الإعدام . – حكومة زعيم الثورة .. لم تنصف الثوار .
الفصل الثالث :
– (أحمد عبد الحي كيرة ) بطل الجهاز السرى، شهيدا تحت أسوار إسطنبول .
– المخابرات البريطانية تبحث عن “عبده”. # طعنة خنجر تحت أسوار إسطنبول .
– ثوار يناير .. وشهيد إسطنبول (أحمد عبد الحي كيرة ) .
– عبد الحى وخاشقجى : بين التجاهل والإهتمام .
– طعنتان من تركيا للأحمدين (أحمد عرابى ـ وأحمد عبد الحي).
بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
تحميل PDF (مصر .. العِبَر والعَبَرات فى ثلاث ثورات) كامل .. اضغط هنا
مصر .. العِبَر والعَبَرات فى ثلاث ثورات
ثورة عرابى ـ ثورة سعد زغلول ـ “لا.. ثورة” 2011
الإستعمار الخارجى أو الداخلى يسلب الشعوب حريتها بالقوة المسلحة . ولا يمكن للشعوب أن تسترد حريتها وكرامتها بغير القوة . والقول بغير ذلك كذب وتدليس .
– (ثورة) 25 يناير 2011 كانت مزيفة، وعملية إجهاض لثورة كانت تختمر تحت سطح الرماد. جميع الأطراف مدانة .. وجميعها يكذب أو ما هو أكثر من الكذب . وبدون تقييم التجارب الثورية المحلية والعالمية لا يمكن لشعب أن يقوم بثورة ناجحة . فليس أى عنف أو تظاهر هو ثورة ، بل غالبا ما يكون ثورة مضادة من الطراز”الملون” الذى برع فيه شياطين هذا الزمان . أو ربما عملية إجهاض لثورة لم تكتمل شروط نجاحها . فتقتل نفسها بنفسها قبل أن يبطش بها العدو .
المشاركون أو المتهمون فى خديعة يناير لم يتكلموا إلا بما يخدم مصالح ضيقة لصالح حزب أو جماعة أو أفراد. وجميعهم شركاء فى كارثة واحدة إختتمها العسكر بضربة قاضية كانت سهلة وجاهزة منذ حتى ما قبل 25 يناير .
إنتفاضة يناير 2011 كانت ثاني عملية إجهاض يجريها الجيش المصرى لثورة شعبية فى مصر عملية الإجهاض الأولى قام بها الجيش فى إنقلاب يوليو 52 إجهاضا لثورة تختمر وسط طبقات الشعب. وبنجاح الإنقلاب العسكرى ذهب الشعب إلى ضباط الجيش مطالبا بتحقيق أمنياته. وبدلا عن ذلك تصرف الجيش كمالك لمصر ومُستَعبِد جديد لشعبها، الذى هو عبيد إحسانات الحاكم ، كما كان يراه سلاطين مصر على مر العصور .
حرب فلسطين .. وحرب الفدائيين فى قناة السويس.
كانت حرب الفدائيين فى قناة السويس ضد قوات الإحتلال البريطانى ، وما أبداه شباب مصر من بسالة بدعم هائل من الشعب فى كل مجال ، كانت جرس إنذار للإحتلال البريطانى بأن مصر على وشك أن تثور، وقد أبدع شبابها فى حروب العصابات ضد واحد من أفضل جيوش ذلك الوقت . واستفاد الفدائيين فى قناة السويس بالخبرات القتالية المتبقية من حرب فلسطين عام 1948 على يد متطوعى الإخوان المسلمين.
كانت التشكيلات الشعبية فى مصر واضحة وفعالة، مع درجة وعي عالية لم تشهد لها مصر مثيلا قبل ذلك أو بعده . ويكفى أسماء الكتاب والمفكرين من شتى التوجهات لإدراك أن الثورة التى تختمر كانت على وشك إمتلاك قدرة الفكر المستنير ، المدعوم بالسلاح والخبرة القتالية .
المناخ السياسى الدولى كان مناسبا، بعد تصدع النظام الدولى القديم الذى كانت بريطانيا ضمن قمته. ولم يكتمل بعد تشكيل نظام دولى آخر تستعد الولايات المتحدة للإمساك بخناقه بِيَدْ من حديد ودولارات من ورق .
عمليات المجاهدين ضد قواعد الجيش البريطانى أخافت بريطانيا وأوروبا التى خشيت من العدوى المصرية أن تنتقل إلى مستعمراتها . وخشى الإستعمار الأمريكى القادم أن تفلت منه الفريسة المصرية إذا حصلت على حريتها بإرادتها وقيادتها وسلاحها. عندها لن يكون له المكان الذى يشتهى، خاصة مع وجود بديل سوفيتى منافس ومتابع .
علمليات الفدائيين فى قناة السويس كانت عنصراً حاسماً فى التعجيل بإنقلاب 1952 الذى كان ضربة إجهاض لثورة شعبية تفرضها وقائع الحال فى مصر .
شاركت أطياف واسعة من الشعب فى العمل المسلح ودعمه، وفى مقاطعة القواعد البريطانية ورفض العمل فيها أو تزويدها بالطعام فكانت ضربة أخرى قوية للإحتلال .
من تبقى من مجاهدي الإخوان فى حرب فلسطين 1948 ، كان لهم دور كبير فى عمليات المقاومة ضد القوات البريطانية فى القناة بخبراتهم المكتسبة. فكانوا طاقة كبيرة جدا هزت البريطانيين ودفعت المقاومة قُدُما .
الجيش .. للقضاء على الجهاد والثورات الشعبية :
تولت سلطات ثورة العسكر عام 52 القضاء على العناصر الجهادية فى الإخوان ، وضربت التنظيم ضربة شاملة لإقتلاعه من الجذور، حتى لا يظهر خطر الجهاد المسلح مرة أخرى فى مصر التى نشأت تاريخيا على الخنوع للحاكم .
نجح ضباط يوليو فى “تطهير” الإخوان من فيروسات الجهاد . ثم أجهزت عليهم أنظمة الخليج التى هاجروا إليها، فحقنتهم بفيروسات السلفية وبالموالاة للغرب والوقوف إلى جانبه دعائيا وسياسيا، فى مقابل الرضا عنهم فى مشيخات النفط وفى الغرب عموما .
– حرب 1948 كانت ذروة المجد الجهادى للإخوان . وهو ما تنقم عليهم بسببه إسرائيل، بأن”تلوثت” أيدى الإخوان بدماء اليهود الغزاة لفلسطين . لذا لم تتساهل إسرائيل مع محاولات الإخوان ـ رغم توبتهم ـ الوصل إلى الحكم أو المشاركة فيه عبر الجيش الذى يعتبره الإخوان أملهم فى الإقتراب من السلطة فى بلاد هامة مثل مصر والسودان ـ باكستان ـ تركيا. حتى وصلوا إلى المشاركة فى حكم أفغانسان بالتحاف مع الجيش الأمريكى الصديق، والجيش التركى الشقيق.
– حتى تثبت حركة الإخوان المسلمين أنها لم تتبرأ من ماضيها الجهادى فى حياة مؤسسها حسن البنا ، وأنها لم تَخُنْ دماء شهدائها فى فلسطين والقناة ، فإن أبسط واجبات اللياقة هو إحياء ذكرى هؤلاء الشهداء، وتسجيل موسوعة بأسمائهم وأعمالهم وتاريخهم ، وتقديم تسجيل تفصيلى ـ حقيقى ونقدى ـ لتجربة الإخوان فى فلسطين لتكون درسا لشباب المسلمين .
وأن يتزامن إحياء الإخوان لذكرى شهدائهم فى فلسطين وقناة السويس، مع إحتفالات إسرائيل بذكرى تأسيسها فى مايو من كل عام ، ومع ذكرى جلاء الإحتلال البريطانى عن مصر، وذكرى تأميم قناة السويس.
كان الإخوان منفردين بأمجاد الجهاد فى فلسطين، عكس جميع التيارات السياسية المصرية، الذين أحجموا، بل أن بعضهم أيد قيام إسرائيل من منظور إشتراكى طبقى .
بينما فى جهاد قناة السويس كان الجميع ـ تقريبا ـ مشاركون سواء كأحزاب أو كأفراد خارج كل القيود الحزبية . لكن خبرة الإخوان فى فلسطين وحماسهم الدينى صنع فارقا كبيرا. ولأجل ذلك دفعوا ثمنا كبيرا، وما زالوا . والأخطر هو أن الجماعة القديمة إنتهت وظهر محلها شئ جديد ـ مخالف تماما ـ إنتهازى وخيانى ـ وبرئ من الجهاد إلا من منظور إقتصادى كعمل مربح ماليا ودعائيا ، ومعرقلاً للجهاد الحقيقى .
الوفد يهرب من ماضيه الجهادى.
وكما تبرأ الإخوان المسلمون من ماضيهم الجهادى فى فلسطين وقناة السويس . فإن (حزب الوفد) الحزب السياسى الأعظم شعبية فى تارخ مصر المعاصر . هو أيضا تبرأ بكل نذالة من مجاهديه الذين قدموا كل شئ فداءً لمصر وإستقلالها خلال ثورة 1919 والسنوات القليلة التى تلتها.(شارك وفديون فى حركة الفدائيين فى قناة السويس وقدموا شهداء. لكن عملهم إفتقر إلى التنظيم والتدريب ، واستهدف الدعاية الحزبية أكثر من إستهداف الفعالية القتالية).
سعد زغلول : مؤسس أول جهاز سرى للثورة الشعبية.
كان لسعد زغلول قائد ثورة 1919 الفضل فى تشكيل الجهاز السرى للثورة . وكان مجاهدو ذلك الجهاز من روافد حزبية عديدة ومن المستقلين . لكنهم شكلوا أفضل أجهزة المقاومة السرية المسلحة فى تاريخ مصر المعاصر. رغم محدودية حجم الجهاز والمدة التى قضاها فى الجهاد ، ليس بسبب قصور وضعف فى الجهاز ومجاهديه ، ولكن بسبب ضعف قيادة ثورة 1919 وإنقسامها وميل أكثرها لأنصاف الحلول بل والترضيات مع الإنجليز والملك. زعماء الثورة بعد وصولهم إلى الحكم عاملوا المجاهدين بجفاء ونكران، وحتى بالتبرؤ منهم، ثم الإبعاد والنسيان الكامل . ولولا مجازفات صحفية شجاعة لما سمع بهم أحد.(أهم مراجع ذلك الموضوع هو كتاب الصحفى الشهير “مصطفى أمين” ، وعنوانه : الكتاب الممنوع ـ أسرار ثورة 1919 ـ وهو مرجع رئيسى فى بحثنا هذا).
كان ينبغى لقادة ثورة 1919 إستيعاب ذلك التاريخ بعمق والدفاع عنه وتأكيده إلى أن تتحقق المطالب المصرية بالتحرر من الإستعمار البريطانى والتخلص من الحكم الملكى الفاسد.
وذلك كان واجب أيضا على المشاركين فى أحداث يناير2011 ، أن يمضوا بثورتهم قدما حتى الإطاحة بحكم العسكر، وإعادة الجيش إلى وظيفته الحقيقية كحامى للبلد ، وليس مالكا لها ومحتكراً لثرواتها ومستعبدا لشعبها ومتحكما فى مصيرها .
المتسلقون على ظهر الشعب فى يناير 2011 خافوا أن يتحول الإضطراب الشعبى فى يناير إلى “ثورة”، ربما تلجأ إلى دعم نفسها بجهازدفاعى ضد هجمات جيش البلطجية الذى يديره النظام ، وأن تضع “الثورة” فى المقدمة مطالبها الإجتماعية والإقتصادية إلى جانب المطالب “الحريات” السياسية . لهذا إنطلقت “ثورة يناير” من أحضان الجيش وإنتهت فى معتقلاته وفوق مشانقه .
القيادات المتخاذلة والخائنة رسخت فى نفوس شعبها الخوف من السلاح، وأكذوبة أن الثورات ينبغى أن تكون سلمية . رغم أن أى ثورة/ مهما كانت سلمية/ يكون لها جهازها المسلح المختفى أو شبه المعلن .
جهاز سري لثورة 1919 :
فى حديث للصحفى مصطفى أمين مع أحمد ماهر (أحد أشهر الشخصيات السياسية المصرية، ومن أعمدة العمل السرى المسلح لثورة 1919 ـ وقد أغتيل فى عام 1945 ).
قال أحمد ماهر: { سعد باشا “زغلول” هو أول من ألف جمعية سرية فى مصر لمقاومة الإحتلال عقب هزيمة عرابى مباشرة ونفيه هو وزملائه فى الخارج . هذا التنظيم هو خلايا متصلة ببعضها ولا تزيد كل خلية عن إثنين ولا يعرف الأعضاء بعضهم بعضا . وأنه وضع هذا التنظيم مع شريكه فى المحاماة حسن صقر . ولم يكن سعد باشا يريد إنشاء جمعية سرية من بضعة أشخاص ، بل غرضه بعد هزيمة عرابى إنشاء حزب تحت الأرض } .
توفرت لثورة 1919 شخصية قيادية ذات كفاءة وتاريخ جهادى ، هى شخصية سعد زغلول. وكانت الثورة العرابية قبل حوالى خمسة عقود قد توفرت لها الشخصية القوية النبيلة للضابط أحمد عرابى . الذى خاض قبل ثورته صراعا مدنيا طويلا ضد النظام الحاكم، وما صاحبه من تسلط أجنبى /تركى أوروبى/ على شئون الجيش والدولة ، وما سببه ذلك من كوارث بلا حدود دمرت حياة الفلاحيين الذين هم شعب مصر وقتها.
ورغم عظمة الزعيمين إلا أن لكل منهما أخطاؤه وظروف ثورته الصعبة وعدم إكتمال الرؤية الثورية لديه، وقصوره عن إدراك الأبعاد الدولية التى تتربص بمصر تحديدا. فكلا الزعيمين إعتقد أن أوروبا قد تمد لمصر يد العون من منطلق المبادئ التى يتباهى بها الغرب ، والصراعات بين أقطابه فى تسابقهم على حيازة المستعمرات. وتلقى عرابى طعنة قاتلة من “الباب العالى”فى تركيا بإصداره مرسوما يعلن عصيان عرابى وتمرده. فتزلزلت شرعية الثورة العرابية وتضاعفت الخيانات فى الصفوف . كما تلقى عرابى طعنة أخرى قاتلة من الفرنسى “ديليسبس” صاحب فكرة حفر قناة السويس، حول حياد القناة واستحالة أن يستخدها الإنجليز كممر لغزو مصر.
سعد زغلول حلقة ربط بين ثورتين
يقول عباس محمود العقاد فى كتابه عن سعد زغلول :
” فى أواخر القرن التاسع عشر ثارت مصر” ….{ ولم تثر إلا كعادتها فى كل ثورة : أى حين أزعجها الخطر فى عقائدها كما أزعجها فى مصالحها ، وخولفت أحكام دينها كما خولفت أحكام العقل فى سياستها ، فهانت الأرواح وضاعت الحرمات وكسدت الأعمال وغاض معين الأرزاق ، وإستنزفت الحكومة أموال الرعية جبايةً ونهباً وإحتيالاً ، حتى لم يبق لها ما يُسْتَنْزَف. فكان الفلاح عاجزا عن سداد الضائب المنوعة مرة فى العام ، وهى تجبى منه مرات، لتنفق فى البزخ والسفاهة : ظلم وإسراف وربا وفجور ومخالفة دين من جميع الوجوه .
وكان الحكام الذين جنوا كل هذا وجَرُّوا على الناس الخراب والضياع يتيهون كبراً وإختيالا وكأنهم أحسنوا الحكومة كل الإحسان وأسبغوا على الرعية نعمة الرغد والأمان} .
{ هبت الثورة العرابية كما تهب العاصفة بعد طول السكينة ، فاشتركت فيها من الأمة كل قوة فكرية أو عسكرية . وشايعها الجامدون والمصلحون على السواء ، لأن المظالم والمفاسد لم تدع للمصريين سلْوَة يتعزون بها أو مهربا يثوبون إليه ، فمستهم مساً عنيفا فى إيمانهم الدينى وفى مصلحتهم الوطنية وفى نخوتهم القومية وفى أرزاق الأفراد وما يغارون عليه من حرمة مصونة. ومن خصائص الطبيعة المصرية على ما نظن لم تكن لتسيغ ثورة ليس فيها”للمحافظة” مكان .
لم تفلح الثورة العرابية لأنها أُحيطَت بدواعى الحبوط من الدسائس الخارجية ، ومن تهالك الحكام على الدول الأجنبية ، ومن خَطَلْ الزعامة ، وعبث الدولة العثمانية .
ولولا ذلك لسارت فى طريق أقوم من طريقها وإنتهت إلى مصير خير من مصيرها ، ولكنها تعرضت لذلك جميعه فأنتهى أمرها إلى الهزيمة ، وكانت نهايتها بداية إحتلال أجنبى للبلاد .
وأعقب الثورة ما أعقبها من نِكال وإنتقام، ومن تجسس وسعاية ، ومن خيانة الأصحاب ومكائد الأعداء . فنكصت الأخلاق شر نكوص، وران اليأس على الضمائر فمات فيها رجاء الخير} .
ويقول العقاد: { إشترك سعد (زغلول) فى الثورة “العرابية” كما إشترك فيها أساتذته وبعض زملائه. وناله من أذى الإعتقال بلاء غير يسير ، وخسر وظيفته وبات مرصد الشبهة من أنظار الحكام ، وأعداء العرابيين (أنصار أحمد عرابى) .
وكان فى وسعه ـ لو رضى ضميره ـ أن يتعذر ويتزلف كما إعتذر وتزلف مئات الألوف، وأن ينفض يده من أصدقائه المهزومين ، ويترامى فى أحضان أعدائهم الغالبين ، ولكنه أبى لرجولته أن يسومها هذا السوم ، وكره لخلائقه ان توصم هذه الوصمة وظل على وفائه لأصدقائه المبعدين}.
ويواصل العقاد القول :
{إنتقلت مصر بعد هزيمة الثورة العرابية إلى شئ من الذهول . فأما الجيل العرابى فقد تفرق زعماؤه بين النفى والسجن والإضطهاد والإعتزال .
ولو أنهم تُرِكوا أحرارا لما إستطاعوا القيام بعمل يذكر فى الأحوال الجديدة، لأن الجيل الواحد قلَّما يقوى على النهوض بدورين متعاقبين ، ولا سيما بعد الهزيمة الصريحة .
وأما الجيل الجديد فلم يكبر بعد، ولابد من الإنتظار بضع سنوات . ولبثت مصر زمنا فى حالة الخمود والإعياء ، ولعل الأصح أنها كانت فى حالة الترقب والإنتظار ، ريثما تنجلى الأيام عن مصائر الأمور.
فلم يدر الناس فى مبدأ الأمر ماذا يصنع الإنجليز ؟ وماذا ينوون أن يصنعوا ؟ أغلب الظن أنهم باقون فى مصر إلى زمن لا تعرف له نهاية ّ!} .
( من كتاب ” سعد زغلول” لعباس محمود العقاد )
الأجواء الكئيبة التى أعقبت فشل الثورة العرابية تكاد تتطابق مع النهاية المحبطة لثورة 1919 . وقد إرتد الثوار الأثرياء عن مبادئ الثورة والتحقوا بالقصر والسفارة البريطانية يلتمسون المجد والثراء والحماية تحت حراب المحتلين . وزعيم الأمة “سعد زغلول” منكفئ على مرضه وحسرته من تنكر الأصحاب وإدبار السلطة وسقوط الثورة، وإنتكاس الأخلاق، والردة الشاملة عن كل مبدأ . ومن المأثورات فى وصف تلك الحالته ، ما كتبه سعد فى 17 يناير 1925 :
{ لقد دلت هذه المحنة التى نجتازها على ضعف شديد فى الأخلاق ، وهبوط عظيم فى روح الناس ولاسيما فى الطبقة العليا وما تحتها … فإنها كشفت عن دناءة وخسة ولؤم وخور.. دلت على أن هذه الطبقة لا تعرف للتضحية معنى ، ولا تتنازل عن حبة من راحتها فى سبيل الوطن ، وتميل الى المظاهر الكاذبة وتعبد القوة .. ومع أن المتعلمين فيهم أفسدهم أخلاقاً وأحطهم صفات: يجرمون ثم يتباهون بالإجرام .. ويأتون بالمنكر ثم يفاخرون بإتيانه .. وكأن بينهم وبين الفضل عداء } … (فهل فى تلك المأثورات ما يصلح للإستخدام بعد فشل 25 يناير؟؟).
ثورات مصر : التردد فى الإستيلاء على السلطة .
ثورات 1882 ، 1919 ، ثم تجاوزا “مشروع ثورة” يناير 2011 .الخطأ المشترك هو التردد فى الإستيلاء على السطة عندما سنحت الفرصة لذلك.
كان أحمد عرابى هو الأوفر حظاً إذ أتيحت له الفرصة مرتان فى عام واحد1881 ((فى شهر فبراير ثم فى شهر سبتمبر)) أمام قصر عابدين. عندما وقف وخلفه الجيش على أهبة الاستعداد بكامل أسلحته، والشعب المتحمس خلف الجيش بالألوف، بينما الخديوى توفيق يقف أمامه مرعوبا ومن حوله الأوروبيون قناصل ومستشارون يشدون من أزره لأفشال مسعى عرابى . ومع ذلك لم يُقْدِم عرابى وقتها على أهم خطوات الثورة وهى الإستيلاء على السلطة . وكان الخدوى قد رضخ لمطالب عرابى منحنيا أمام العاصفة.. ولكن إلى حين.
سعد زغلول أتيحت له فرصة واحدة على الأقل ـ فى قصر عابدين أيضا ـ وهو إلى جانب الملك فؤاد يطل معه على الآلاف من الشعب الثائر، يحاصرون القصر، ويصيحون فى وجه الملك المرتعب(سعد أو الثورة ). فتراجع الملك ورضخ لمطالب سعد. وانحنى الملك فؤاد كما انحنى توفيق حتى تعبر العاصفة ثم يعاود الإنقضاض على سعد والثورة .
وفى “شبه ثورة” 2011 أتيحت الفرصة عندما أُعْلِنَتْ إستقالة مبارك . وبدلا من التوجه إلى مقار السلطة للإستيلاء عليها . أخذ الشعب يرقص فى ميدان التحرير حتى الفجر . ثم عاد إلى البيوت سعيدا بإنتهاء الثورة !!. من لحظتها بدأت الثورة المضادة هجومها المعاكس.
الشئ المشترك أن لحظات التردد تلك أتاحت للنظام إلتقاط أنفاسه والكيد للثورة ثم القضاء عليها والتنكيل بالقائمين عليها ، ثم تجريف أرضية المجتمع من أى إحتمالات للثورة إلى أبعد مدى زمنى ممكن .
فمرت47 سنة فاصلة بين ثورة عرابى وثورة سعد زغلول . ثم 92 سنة تفصل بين ثورة 1919 ومشروع (لا.. ثورة)2011 التى لم يكن لها قيادة ولا برنامج ولا رؤية، فقد إنطلقت من خزائن المخابرات الحربية ، حتى قضت نحبها فى زنازينها .
فهى بشكل من الأشكال ثورة الجيش كما كانت ثورة عرابى . وتلك مفارقة مضحكة مبكية، لأنها من أسود مآسى التاريخ المصرى . لعظم الفارق بين جيش مصر فى الثورتين .الذى يماثل تقريبا الفارق بين شخصية أحمد عرابى، البطل الشهم “الفلاح”، وشخصية البئرالمُظْلِم عبد الفتاح السيسي “السفاح”.
الثورات المصرية وأجهزتها المسلحة:
ثورة عرابى التى يقودها ضابط وطنى مصرى (فلاح) متدين ، وجيش من الفلاحين المصريين الوطنيين المتدينين . لم تكن فى حاجة الى جهاز مسلح آخر غير الجيش لحماية الثورة وتنفيذ برنامجها . ومع ذلك عندما تعرضت مصر وجيشها إلى الغزو البريطانى وقف الشعب بأجمعه مع ثورته بما تيسر لديه وما وزعه الجيش من أسلحة على المتطوعين .
– ثورة 1919 كانت مهددة ومكشوفة أمام جيش الإحتلال البريطانى بكل جبروته على أرض مصر، بينما الجيش المصرى لا يسمن ولا يغنى من جوع . بعد أن تعرض للإضعاف المادى والإذلال المعنوى على يد الإحتلال والحكم العميل .
{تعرض الجيش المصرى بعد حرب 73 لحالة مماثلة بطلب من إسرائيل ، المحتل الجديد، وبطش الحكم العميل لجنرالات الخيانة الجهلة الشرهين للسلطة ، وتخلُّصهم بعنف من أبطال حرب 1973} .
لهذا لجأ سعد زغلول إلى بناء جهاز سرى مسلح ، لحماية الثورة ومساندتها أمنيا وسياسيا . أعضاء الوفد المصرى مع سعد زغلول لم يكونوا يعرفون شيئا عن ذلك الجهاز . ومن ناحية أمنية، حقق “سعد” وجهازه السرى قدرا مدهشا من الكتمان ، مع نجاحات عملية كبيرة جدا بمقاييس ذلك الوقت وظروفه، وظروف الجهاز الصغير.
– فى مشروع ثورة 2011 أنشأ الشعب تلقائيا وحدات دفاع ذاتى ضد قطعان البلطجية الذين إستخدمهم النظام للإخلال بالأمن وإرعاب الشعب وصده عن التمادى فى طريق الثورة . كانت تجربة الدفاع الذاتى ناجحة إلى درجة معقولة . وكان يمكن المضى بها قدما لتشكيل جيش للثورة يحميها ويوفر لها الأمن الداخلى مؤقتا، إلى حين تشكيل جيش نظامى جديد وحقيقى، بعيدا عن العين واليد الإسرائيلية. لكن مشروع الثورة كان بلا قيادة ولا رؤية ولا برنامج . فظلت تحت سيطرة المخابرات الحربية منذ لحظة ولادتها إلى لحظة وفاتها. وقد إنتحرت (اللا..ثورة) عمليا يوم11 فبراير يوم الرقص الثورى فى التحرير وماتت رسميا وبالكامل بإنقلاب 3 يوليو 2013
– وبهذا تكون تجربة ثورة 1919فى بناء جهاز مسلح للثورة هى التجربة الأوضح رغم صغرها وقصر مدتها .
– مع ملاحظة أن حركة الفدائيين على قناة السويس أعوام 1951 ـ 1952 كان يمكن أن تقود بنفسها ثورة ضد الإحتلال والنظام الملكى . ولكنها كانت بلا قيادة ، وكانت تحت إشراف وسيطرة حكومة الوفد ، التى خضعت للإنجليز والملك، فأوقفت نشاط الفدائيين. ثم جاء حريق القاهرة فى 26يناير ليفرش الطريق بالأزهار أمام إنقلاب العسكر فى يوليو 52 .
تحميل PDF (مصر .. العِبَر والعَبَرات فى ثلاث ثورات) كامل .. اضغط هنا
الفصل الثانى :
تحديات أمام ثورة 1919 : جيش الإحتلال والقصر الملكى .
إتجه سعد زغلول إلى إمتلاك قوة مسلحة ـ ولو أنها صغيرة وتعمل بشكل سرى ـ ليقينه بأن مواجهة الجيش البريطانى الجبار لا يمكن أن تتم فقط بأيدى خالية ، أو بمجرد إمتلاك الحق القانونى فى الإستقلال . وكانت بريطانيا متمسكة بالبقاء فى مصر والحفاظ على النظام الملكى الضعيف الفاسد . يتضح ذلك فى رسالة من المندوب السامى البريطانى فى القاهرة إلى وزير خارجية بريطانيا فى 25 مايو 1926 ويقول فها :
{إن سعد زغلول وأعوانه لا يمكن أن يدركوا أن تحقيق آمالهم فى خلع الملك فؤاد هو مقصود من الصعب أن يكون ممكناً ، ما دامت حكومة صاحب الجلاله البريطانية ليس لديها ما يبرر رفض تقديم مساعدة للملك فؤاد ، وما دامت الحراب البريطانية موجودة هنا لتقديم المساعدة} ..{ أما الملك فؤاد فإنه يدين بسلامة عرشة وسلامته الشخصية للإحتلال البريطانى ، وبشكل لا يقل عن الخديوى توفيق} .. { إن الأمانى المصرية فى الحرية والإستقلال تكبحها اليوم قوتان هى الجيش البريطانى وحقوق العرش.. } .
– واحد من نقاط الضعف الرئيسية فى ثورة 1919 هى أن أعضاء الوفد الذى يمثل الأمة فى مطالبها بالإستقلال ويرأسه سعد زغلول، كان معظمهم من كبار ملاك الأراضى الموالين للأسرة المالكة أو تربطهم بها صلات قرابة . مثل (عدلى يكن باشا) ـ الخصم اللدود لسعد زغلول داخل قيادة الوفد ـ وكان من أصهار العائلة المالكه . أما (علي شعراوى باشا) وهو أيضا من قيادات الوفد فقد كان من كبار الإقطاعين ويمتلك أكثر من عشرين ألف فدان(!!) . هؤلاء وأمثالهم كبحوا ميل سعد زغلول ومعه إتجاه شعبى من أمثال الجماهير التى حاصرت قصر عابدين وصاحت فى وجه الملك فؤاد (سعد أو الثورة ) يطالبون بالتخلص من العائلة المالكة وإعلان الجمهورية.
– الملك لم يكن مستعدا لأن يترك الحكم .. والجيش البريطانى جاهز لإحراق مصر ، لا أن يتركها ويرحل . فخلال أول شهرين من الثورة التى بدأت صراعها مع القصر والإحتلال فى 9 مارس 1919 ، وصل عدد القتلى إلى ألف قتيل حسب إعلان الحكومة البريطانية فى مجلس العموم . أما المؤرخ المصرى عبد الرحمن الرافعى فيرى أن قتلى الثورة وصل عددهم إلى ثلاثة آلاف على الأقل .
وبلغ الإرهاب البريطانى مدى لم تشهده مصر قبلا . فالمحكمة العسكرية البريطانية حكمت بإعدام 51 مصريا إشتركوا فى ثورة (ديرمواس) ونُفِّذ الحكم فى 34من بينهم البكباش “محمد كامل” مأمور أسيوط الذى قاد ثورتها ضد الإنجيز . وأُعْدِم 3 مصريين قادوا ثورة (الواسطى) وحكم بالإعدام على المئات ، وامتلأت السجون بالآلاف من الثوار وطرد آلاف الفلاحين من قراهم بسبب إشتراكهم فى الثورة . واستخدم الأنجليز الطائرات فى قصف الثائرين والأسواق فى القرى .
كان تنظيم قيادة الثورة (وبالتحديد سعد زغلول) لجهاز مسلح لمواجهة الجيش البريطانى أمراً حتميا ـ ولكن سعد أبقاه سراً لأن أغلبية “الوفد” كانوا من الموالين للقصر الملكى والمحبذين لتقديم العرائض والمناشدات ولكن ليس الثورة [وهؤلاء هم السلف الصالح لثوار”توقيعك باطل”، من أجل التخلص من سد النهضة وإنقاذ مصر] . لذا عندما وصل الوفد الى الحكم كان هؤلاء أول من نكَّلَ بالفدائيين الذين إستخدموا السلاح ضد الإحتلال والقصر .
وقت احتدام الثورة كان سعد زغلول فى المنفى . ولكنه أدار جهاز الثورة للعمل المسلح عبر مراسلات سرية مشفرة. وأول من أدار الجهاز السرى ميدانيا كان الضابط السابق عبد الرحمن بك فهمى الذى أنشأ عدة أقسام للجهاز هى :
– ادارة مخابرات الثورة: فكان للثورة عملاء فى كل مكان حتى فى قصر السلطان ودار الحماية البريطانية وقيادة جيش الإحتلال ، ومجلس الوزراء . وتراقب كبار السياسيين والوزراء .
– إدارة للإتصالات الخارجية : ولها مراسلين فى لندن وباريس وسويسرا .
– إدارة للمظاهرات والإضرابات: وتقوم بعمليات تخريب وقطع السكك الحديد والمواصلات .
– إدارة الدعاية : تتصل بالصحف وتزودها بالاخبار .
– إدارة الإغتيالات : وهى أهم الأقسام فى الجهاز السرى .
– ما كتبه كبار المسئولين البريطانيين فى مصر يؤكد كفاءة وفعالية الجهاز السرى لثورة 1919. فيقول لورد أللنبى المندوب السامى البريطاني فى مصر، أن مخابرات بريطانيا أنفقت أثناء ثورة 1919 فى المدة ما بين نوفمبر 1918 ومنتصف 1925 حوالى ثلاثة ملايين جنيه إسترلينى فى مصر وحدها ، وأنها لم تحصل طوال هذه المدة على خيط واحد يوصلها إلى الجهاز السرى للثورة .
أما الدكتور سيدنى سميث الطبيب الشرعى فى المخابرات البريطانية ، فيقول فى مذكراته :
{خلال الفترة بين 1919 ـ 1922 وقع 30 حادث إغتيال على الموظفين والضباط والجنود البريطانيين فى مصر . كما وقعت 5 حوادث إلقاء قنابل مصنوعة محليا .
ومع أن أكثر الحوادث كانت تقع فى وضح النهار وفى الشوارع المزدحمة بالسكان ، فلم يحدث لمرة واحدة أن تقدم شاهد عيان واحد للتعرف على المشتبه بهم . ولم يحاول أحد من الجمهور أن يساعد البوليس بأية طريقة . وكان من الصعوبة بمكان إثبات أى جريمة من هذه الجرائم على أى فرد . ولم يحصل البوليس مرة واحدة على أثر واحد مفيد فى التعرف على القتلة } .
– ومع هذا وقعت خيانات من أفراد يستعين بهم الجهاز السرى . فكانت تصدر على الخونة أحكام من محكمة الجهاز السرى ، ثم تفذ فى الحال .
“نجيب الهلباوى” يخون الثورة :
– رغم كل نجاحات الجهاز السرى للثورة إلا أنه أصيب بضربتين خطيرتين . الأولى كانت على يد(محمد نجيب الهلباوى) الوطنى الذى إرتد على الثورة نتيجة أهمالها له. وكان قد ألقى قنبلة على السلطان حسين عام 1915 . وهو الوحيد الذى قَبِل بالتعاون مع الإنجليز وعمل معهم بحماس ضد الثورة وتحديدا ضد الجهاز السرى.
والضربة الثانية على يد(شفيق منصور) العضو فى المجلس الأعلى للإغتيالات . وقد إعترف بعد ضغوط هائلة فى التحقيق . ونتيجة لإعترافاته بدأت قضية أحمد ماهر والنقراشى ـ زميلاه فى المجلس الأعلى للإغتيالات ـ فبدأت نهاية الجهاز السرى للثورة .
– الهلباوى بأوامر الانجليز إستغل ثقة عدد من أبرز قيادات (المجلس التنفيذى للإغتيالات) فأقنعهم بضرورة إغتيال السردار البريطانى (لي ستاك) حاكم السودان ـ ورغم معارضة عدد من أعضاء المجلس تمت عملية الإغتيال بنجاح . وهو العمل الذى أدى إلى كوارث على الثورة وعلى مصر والسودان معاً . فقد أزيح سعد زغلول من رئاسة الوزراة وأعادت بريطانيا إحتلال السودان مباشرة ـ بدون مشاركة مصرية .
بالنسبة للثورة فقد أدت عملية إغتيال السردار إلى كشف قيادة الجهاز السرى. فأصبحوا تحت رقابة المخابرات البريطانية ، حتى تم إعتقالهم . وإنقطعت صلة قدامى الزعماء وحكوماتهم بالمجموعات الضاربة. وكان أكثر الفدائيين فقدوا كل ما يملكون فى طريق الثورة والعمل المسلح واُسَر الشهداء عانت الضياع والفقر . وبعض المجاهدين تشرد فى الشوارع والبعض لم يجد ثمن الكفن الذى يدفن فيه، وعومل المجاهدون الوطنيون معاملة المجرمين والمشبوهين ، حتى من زملائهم السابقين الذين وصلوا إلى مناصب عالية فى الدولة .
– تشير كل المعلومات والدلائل إلى أن المخابرات البريطانية عبر عميلها “الهلباوى” قد ورطت جهاز الإغتيالات فى عملية إغتيال السردار “لي ستاك” ، لتحقيق عدة ضربات كبرى ضد الثورة ومصر . وقد دافع مخلصون فى الجهاز السرى عن أن عملية الإغتيال هى عملية لجهاز الثورة وهذا صحيح ، ولكن التوجيه كان بريطانيا عبر العميل (محمد نجيب الهلباوى) .
( ولعل ذلك يذكرنا بأن عملية 11 سبتمبر 2011 لها نظائر فى التاريخ المعاصر) .
– مرة أخرى عن التأثير السياسى لعملية إغتيال السردار، قال سعد زغلول أنه شعر أن العملية موجهة ضده . وأن المستفيد من قتل السردار هو الملك والإنجليز . فالملك تخلص من وزارة الشعب ليحكم حكما دكتاتوريا ، والإنجليز تخلصوا من حكومة وطنية تطالب بالإستقلال ليجيئوا بحكومة تنفذ أوامر المندوب السامى البريطانى ، وجعل السودان مستعمرة بريطانية .
ثورة 1919: الدم مقابل مياه النيل :
أرسل سعد زغلول من باريس رسالة بالشيفرة لرئيس الجهاز السرى للثورة “عبد الرحمن فهمى” يقول فيها : {بلغنا أن الإنجليز يسعون للحصول على موافقة الوزراء المصريين على مشروعات الري فى السودان مخالفة للمصلحة . نرجو تبصرة الوزراء بعواقب هذه المشروعات وإفادتنا عن تفصيلات ذلك }.
وكانت الترجمة العملية للرسالة هى ما قام به الجهاز السرى من محاولة لإغتيال وزير الأشغال محمد شفيق باشا ، الذى يعمل بمشروع الرى فى السودان. بواسطة قنبلة ألقها ( عبد القادر محمد شحاته) الطالب بالمدرسة الإلهامية (22 فبراير 1920) .
وكان إسماعيل سرى باشا وزير الأشغال قد تعرض أيضا لمحاولة إغتيال فى (18 يناير 1920) بسبب مشروعات رى السودان فى خزان(مكوار) .
سعد زغلول وقتها كان منفيا خارج مصر ـ لكنه إستطاع تنفيذ رؤية الثورة تجاه مياه النيل(الماء مقابل الدم) وهو ما فشل فيه الرئيس مرسى عام 2012 بتلاوة كلام مشابه ، بدون أى قدرة أو نية فى تنفيذ شئ منه يوما ما .
– كانت رؤية سعد زغلول فى أحاديثه مع كبار موظفى الإحتلال، أن السودان ضرورى بالنسبة لمصر. وذلك فى معرض الحديث عن الإفراج عنه وتوليته منصب(ملك مصر) مقابل التنازل عن السودان{الأمر الذى قبله عسكر إنقلاب يوليو بتنازلهم عن السودان مقابل توليتهم الحكم }.
– يصنف الجهاز السرى ـ القوة الضاربة المسلحة لثورة 1919 ـ أنه أخطر أجهزة الثورة ، فى تثبيت مواقفها السياسية وأثبات جديتها ، ثم مواجهة الإرهاب العسكرى البريطانى .
كان سعد زغلول يسيطرعلى الثورة إلى حد كبير ـ كقائد يحظى بالإحترام والطاعة والقدرة على القيادة. ومن مواقفه السياسية الهامة والتى دعمها عسكريا بجهاز العمل السرى ، هو الإعلان بأن كل مصرى يتولى رئاسة الوزارة فى ظل الحماية البريطانية هو خائن لبلاده .
– فكانت أول محاولة لإغتيال رئيس وزراء بعد ذلك الإعلان هى محاولة إغتيال محمد سعيد باشا رئيس الوزراء أثناء خروجه من بيته . جرت المحاولة فى الإسكندرية فى أول سبتمبر 1919 . وكان قد ألف وزارته فى 21 مايو1919 . وألقى القنبلة على سيارته الشاب الأزهرى (سيد محمد علي) وعمره 17 عاما . وحكم عليه بالسجن عشر سنوات قضى منها خمسة فى السجن وأفرج عنه سعد زغلول عندما تولى رئاسة الوزراء يوم 24فبراير 1924 .
– المحاولة الثانية لإغتيال رئيس وزراء كانت يوم 15ديسمبر 1919 ، بإستهدف يوسف وهبه باشا وهو قبطى ، والذى إستهدفه كان(عريان يوسف سعد) وهو طالب قبطي فى كلية الطب. ألقى قنبلتين على رئيس الوزراء ، لم تصيبا الهدف . وكان غاية الجرأة أثناء التحقيق واعترف بإستهدفه قتل رئيس الوزراء، رغم أنه قبطى مثله ، حتى لا تحدث فتنة بين المسلمين والأقباط ، مثل تلك التى حدثت عندما إغتال (إبراهيم الورداني) رئيس الوزراء القبطى بطرس باشا غالي.
كانت تجربة الجهاز السرى للثورة ، فريدة من نوعها فى التاريخ المصرى. وأظهرت تفوقا فى العمل السرى والقتالى والإدارى، وإحداث التأثيرات السياسية فى مجرى الصراع مع الإنجليز والقصر الملكى .
وفى مناخ الهزيمة النفسية التى إستقرت فى الوجدان المصرى ، تُعامَل تلك التجربة بالتجاهل أو بالإستهجان ، أو بالخشية من أن تُلوَّث سمعة الأنقياء من سفلة المستسلمين، فتطالهم تهمة الإرهاب التى أذل بها المستعمرون الشعب المصرى خاصة، والعرب عموما.
كان التسلسل التنظيمى للعمل السرى للثورة على النحو التالى :
1ـ القيادة العليا للثورة – سعد زغلول زعيم الثورة، وكان قائدا منفردا وموجها للعمل السرى العسكري والسياسي.
2ـ المجلس الأعلى للإغتيالات ـ عقل العمل السرى الميداني . وكان يرأسه عبد الرحمن بك فهمى إلى أن أعتقل، فجاء محله أحمد ماهر . ومن الأعضاء محمود فهمى النقراشى (وكلاهما قتل فى عمليات إغتيال سياسى فى فترة الأربعينات). ومن ضمن الأسماء كان شفيق منصور، (وقد إعترف على الجهاز تحت الضغط والتعذيب). وكان مكلفا بالإتصال بالحلقة التنظيمية التالية، وهى المجلس التنفيذى للإغتيالات، عن طريق رابط هو محمود اسماعيل.
3 ـ المجلس التنفيذى للإغتيالات ـ القوة الضاربة الصلبة للعمل السرى. ومهمة هذا المجلس التعامل مع الأهداف من حيث : المراقبة ـ التخطيط ـ التنفيذ .
وكان مكونا من: عبدالفتاح عنايت (طالب حقوق)، وشقيقه عبد الحميد عنايت (طالب فى المعلمين العليا )، ومحمد راشد(مساعد مهندس)، وإبراهيم موسى(زعيم عمال العنابر)، ومحمد علي فهمى زعيم عمال الترسانة .
وتتفرع من هذا المجلس “الخلايا السرية الفرعية” . ومهمتها الحضور يوم التنفيذ لأداء مهام : مساعدة المنفذين ـ مراقبة الطريق ـ تضليل البوليس ـ مساعدة المنفذين على الهرب.
4 ـ الجهاز السرى للعمال :
وكان المسئول عنه الحاج أحمد جاد الله ـ عامل فى العنابرـ ويبلغ من العمر 60 سنة. أطلق النار فى معظم الهجمات فى أول الثورة . وبدأ فى العمل السرى منذ عام 1919 . ومنهم معظم العناصر المتفوقة فى الهجوم المباشر. وإشتهر عدد منهم بإتقان الرماية بالمسدس . وأهم شخصياتهم التى تكررت كثيرا فى عمليات الإغتيال :
إبراهيم موسى (زعيم عمال العنابر) وهو أول من أطلق نيران مسدسه على السردار الإنجليزى. ومن أبرز عناصرهم محمد فهمى ـ ومحمد راشد ـ وكان معهما على الدوام تقريبا(أولاد عنايت) وهما الشقيقان عبد الفتاح عنايت وعبد الحميد عنايت، وهما من أبرز الفدائيين آنذاك .
– وفى أى موقف للثورة المسلحة لا يمكن تجاهل الموقع الأساسي للبطل (أحمد حسن عبد الحى كيرة) الطالب كلية الطب، وصانع القنابل، والحاضر دوما أينما وجد عمل فدائى خطير. وسنعود للحديث عنه فى(الفصل الثالث).
– ولمعرفة أهمية الجهاز الفدائى المسلح للعمال ، نقرأ لائحة التهم لقائد ذلك الجهاز وهو الحاج أحمد جاد الله (60سنة) البرشمجى فى العنابر. تقول اللائحة أن عمليات القتل التى نفذها الحاج أحمد جاد الله ، كانت :
فى 22 نوفمير 1919 قَتَل الكابتن صمويل كوهين الضابط البريطانى .
6 مايو 1920 قَتَل الضابط البريطانى (هدن) .
20 ديسمبر 1921 قتل العسكرى البريطانى (بروكول).
25 يناير 1922 قَتَل (ستيل) الصول بالجيش البريطانى .
2ديسمبر 1919 قَتَل المستر (درنك ) والمستر (تروايجوى) الضابطان فى الجيش البريطانى .
أما محاولات القتل فكانت :
13 نوفمبر 1920 محاولة قتل مستر “نايت” الموظف البريطانى الكبير.
10 فبراير 1922 محاولة قتل مستر هوبكنز.
18 فبراير 1922 محاولة قتل مستر إدمون بيتش.
11 مارس 1922 محاولة قتل مستر جون ماكنتوش.
ذلك عن البطل الستينى قائد الجهاز المسلح للعمال . وهناك الكثير من شباب ذلك الجهاز ومنهم النجار”محمد علي فهمي ” وكان فى الثلاثين من العمر، ويعمل بأجر يومى مقداره عشرة قروش(!!). كان (محمد علي فهمى) من أبرز أبطال الجهاز السرى، وشارك فى أخطر عمليات الجهاز. وقد إنضم إلى الجهاز عام 1921 وقدمته النيابة فى ما سمى”قضية الإغتيالات” المتهم فيها القادة أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى . وجهت النيابة للبطل محمد علي 15 تهمة بالقتل والشروع فى القتل إعترف بها جميعا . فأصدرت المحكمة حكما بتحويل أوراقه إلى المفتى .
وقد كتب عنه سعد زغلول فى مذكراته بتاريخ 22 مايو 1925 ما يلى :
{ .. وقد حُكِم أن يؤخذ فى أمر تهمته رأى المفتى ، دون شركائه فى التهمة ، مما يدل على نية الحكم عليه بالإعدام . ولم يهتم الجمهور بشأنه ولا استشعر بشئ من الأسف لحاله، إذ حصر كل همه فى الآخرين وما ينتظرهم من الإدانة أو البراءة . ثم هو قادم على الموت وما يرثي له أحد. لماذا إنصرف الناس عنه ؟ .. .. أظن أن هذا لكون ذلك البائس من العامة الذين لا يهم الجمهور موتهم أو حياتهم . إن كان الأمر كذلك فكيف يخرج من هذا الجمهور من يُعَرِّض حياته للخطر خدمة لهذا الجمهور؟..}
خلية العمال تغتال السردار (لى ستاك)
يتذكر عبد الفتاح عنايت فى رسالته إلى الصحفى مصطفى أمين ، حادث إغتيال السردار(لي ستاك) . والتى شارك فيها شقيقه عبد الحميد عنايت .
يقول عبد الفتاح عنايت (تحدد يوم 19نوفمبر 1924 لقتل السردار . ثم حدث أن قرأنا فى الصحف أن السردار قرر تأجيل السفر إلى السودان يوم واحد لعمل هام. وإذ بالعمل الهام أن القصر الملكى قرر فجأة إقامة حفل شاى للسردار فى ذلك اليوم فى الحرس الملكى. وعندئذ قررنا القيام بالتنفيذ. فقام بإطلاق النار كل من: إبراهيم موسى زعيم عمال العنابر ، وهو أول من أطلق النار من مسدسه. وأطلق النارعضوان فى خلية إبراهيم موسى هما: علي إبراهيم ـ وراغب حسن النجار .
يقول عبد الفتاح عنايت (وصلت إلى شارع القصر العينى ، وجدت المنفذين شاهرين مسدساتهم فى الفضاء .. وبصوت رائع يصيحون” إوعى”. إنضممت إليهم بدراجتى حتى وصلوا إلى سيارة الهروب (سيارة فيات كان يقودها سائق نوبى إسمه محمد صالح محمود) .
موظف إنجليزى حاول اللحاق بالسيارة على موتوسيكل ، فأطلق عليه إبراهيم موسى عياراً ناريا مرَّ من جانب أذنه فإرتد هاربا ) .
ورأينا جنديا “مصريا” يجرى فأطلق إبراهيم موسى عليه النار إرهابا ليستمر فى الجرى ، ولكنه سقط على الأرض ، وركب الجميع السيارة . وألقى عبد الحميد عنايت القنبلة على سبيل التهديد ـ بدون أن ينزع الفتيل ـ وقفز إلى السيارة ، فإتجهت بهم إلى مصر القديمة . وعدت بالدراجة إلى منزلى فى عابدين .. وبذلك إنتهى الحادث .
بطل .. بدون بطولة
الجندى الذى سقط على الأرض له قصة طريفة تُصَوِّر جانباً لا يستهان بها مما كان يدور فى مصر وقتها . يحكى جزء منها الطبيب الشرعي”العالمى” سيدنى سميث العامل مع المخابرات البريطانية فى تحليل الجرائم . يقول سميث أنه أخبر اللورد أللنبى أن الجندى كان يهرب وأن الطلقة أصابته فى ساقة من الخلف .
وقع حادث إغتيال السردار فى شارع القصر العينى الساعة الواحدة والنصف ظهراً ساعة إنصراف الموظفين من الوزارات والشارع مزدحم بالمارة . ولم يتقدم مصرى واحد ليقبض على القتلة أويشهد ضدهم . وكان الإنجليز يَشُكّون فى أن المصريين يرون الإنجليز يقتلون فى النهار فى الشوارع المزدحمة ، فلا يتقدم أحد للشهادة .
– وعندما وقع حادث السردار وسقط هذا الجندى برصاص إبراهيم موسى ، قال فى التحقيق أنه هاجم الجناة وأراد القبض عليهم فأطلق أحدهم النار عليه .
سمع لورد أللنبى بما حدث ، وفرح لأنها أول مرة يحاول فيها مصرى أن يقبض على الذين قتلوا الإنجليز. فأسرع أللنبى فى موكب رسمى إلى المستشفى الذى يعالج فيه الجندى (علي محمد عبد الجواد) من رجال بوليس بلوك الخفر . وزاره فى فراشه ، وقال إنه يهديه بإسم حكومة بريطانيا مكافأة مقدارها “ألف جنيه” على ما أظهره من شجاعة وبطولة . وأنعم الملك فؤاد على هذا الجندى بنوط الجدارة . وأنعم ملك إنجلترا على الجندى بنيشان .
وأمر اللورد أللنبى بإذاعة الأنباء كلها فى الصحف ، ليعرف المصريون أن هناك من يحاول القبض على المصريين الذين يقتلون الإنجليز ، بل وينقَضْ عليهم ولا يستسلم إلا بعد أن يسقط جريحا بالرصاص .. وهكذا سيكون جزاء من يتعاون مع الإنجليز .
– يقول الطبيب “سيدنى سميث” فى مذكراته متهكماً :
( كان المستفيد الأول فى مصر من قتل السردار هو رجل البوليس الذى أصيب بجروح خلال إطلاق النار على السردار ، وكان هذا أمراً غير عادى ، أن نجد مصريا يبدى هذه الشجاعة فى جريمة ضد الإنجليز ، وزار اللورد أللنبى المندوب السامى هذا العسكرى الباسل فى المستشفى ، وقدم له وساما ، وشيكا بألف جنيه . وكانت صدمة لعسكرى البوليس أن يجد هذه الثروة بين أصابعه فأصيب بحمى مرتفعة ، حتى كدنا أن نفقده .
وتحدث لورد أللنبى عن هذا البطل فقال(إنه رجل رائع كاد أن يفقد حياته وهو يحاول الدفاع عن السردار ويحاول قتل القتلة ) .
يقول “سميث” : (وكان معى صورة الإصابة بالأشعة فعرضتها على لورد أللنبى ، وكانت الصورة تثبت أن الرجل الرائع قد أصيب من الخلف وهو يجرى، وأن الرصاصة نفذت من الخلف إلى الأمام . وكان من الواضح أنه قرر أن الهروب هو أفضل طريقة ، ولكنه أصيب مصادفة أثناء هربه برصاصة طائشة .
تمعن اللورد أللنبى فى صورة الأشعة وقال لى: أعتقد أن هذه المسألة ينبغى ان نحتفظ بها لأنفسنا ياسدنى سميث) . وظلت شفتاى مغلقتين إلى أن إلتقيت لورد أللنبى بعد ذلك بعدة سنوات فى مأدبه غداء ، وذكرته بجندى البوليس الشجاع وكان يذكره جيدا .. وضحك كثيرا .
إعترافات قبل الأعدام
فى يوم 23أغسطس 1925 نُفِذ حكم الاعدام فى المحكوم عليهم فى قضية إغتيال السردار (لي ستاك) إلا عبد الفتاح عنايت حيث إستبدلت عقوبتة بالإعدام بالأشغال الشاقة . وقد شنق سبعة من الذين اتهموا بقتل السردار .
ولقد أبدى المنفذ عليهم الحكم ثباتا عظيماً ، إلا شفيق منصور(الذى إعترف على قيادة الجهاز السرى لثورة 1919) فإنه كان جباناً . ولم يتأثر الناس بإعدامه ، وأعجبوا بثبات محمود إسماعيل واستخفافه بالموت لحظة الإعدام . وقد فعل مثله محمد راشد وآخرون (من العمال).
أما إبراهيم موسى (العامل، وأنشط عناصرالإغتيال بالمسدسات) فقد هتف بحياة سعد زغلول قبل تنفيذ الاعدام .
– قبل إعدامه كشف شفيق منصور مجموعة عمليات كان على علم بها، قامت بها مجموعات الإغتيال ومنها :
– إغتيال مستر”برادن” أحد كبار موظف وزارة المعارف ، فى شارع القصر العينى فى 18 فبراير 1921 .وشارك فى التنفيذ إبراهيم موسى ، محمد علي فهمى ، وعبد الحميدعنايت . وقام بالترتيب والأسلحة محمود اسماعيل .
– إغتيال البكباشى “كيف” أحد كبار الضباط الإنجليز فى الجيش المصرى فى 24مايو 1922 وقام بالتنفيذ إبراهيم موسى ومحمد علي فهمي وعمال آخرون، أطلقوا عليه النار وقتل على الفور أثناء مروره بشارع الفلكى .
– إغتيال الكولونيل (بيجوت) أحد كبار ضباط الجيش البريطانى فى مصر فى 15 يوليو1922 بشارع القاضى الفاضل بقسم عابدين .
– إغتيال مستر”براون” أحد كبار الموظفين الإنجليز فى وزارة الزراعة بحديقة الأورمان فى الجيزة . وقام بها إبراهيم موسى (عامل فى العنابر)، ومحمود عثمان مصطفى (تلميذ بمدرسة التلغراف )، والشقيقان عبد الحميد وعبد الفتاح عنايت ، ومحمود إسماعيل .
– إغتيال حسين باشا عبد الررزاق ، وإسماعيل زهدى بك عضوى مجلس إدارة حزب الأحرار الدستوريين أمام جريدة السياسة مقر حزب الأحرار فى 17 نوفمبر 1922 وقام بالتنفيذ العمال إبراهيم موسى ومحمد علي فهمي ، وآخرون . رسم الخطة محمود اسماعيل . وأولاد عنايت (عبد الحميد وعبد الفتاح ) أخذا العمال للتنفيذ .
وكان المقصود قتل عدلى يكن ورشدى باشا ، ولكنهما لم يذهبا إلى الإجتماع .
– إغتيال مستر روبنسون بشارع الجيزة فى 27 ديسمبر 1922 . مرتكبوا الحادث هم محمود إسماعيل ،والشقيقان عبد الحميد وعبد الفتاح عنايت، وإبراهيم موسى ، وآخرون.
حكومة زعيم الثورة .. لم تنصف الثوار
من المفارقات المؤلمة وذات الدلالة الخطيرة ـ هى أن سعد زغلول زعيم الثورة تولى رئاسة الحكومة بعد فوز الوفد بالأغلبية الساحقة فى الإنتخابات . ولكنه نتيجة لمؤامرات الإنجليز والقصر لم يتمكن من البقاء فيها أكثر من ثمانية أشهر فقط . فجيش الإحتلال البريطانى كان هو الحاكم الفعلى لمصر ، وكان الملك فؤاد مجرد ستارة لتلك الحقيقة .
– من تناقضات ذلك الوضع ، وأحد ألغاز ثورة 1919 أن زعيم الثورة عين إثنين من الوزراء فى حكومته كانا يوصفان بالخيانة وكان الجهاز السرى للثورة قد حاول إغتيالهما، وألقى عليهما قنابل. وهما توفيق نسيم الذى تولى منصب وزارة المالية فى وزارة سعد ، والثانى كان محمد سعيد باشا الذى تولى وزارة الحقانية .
حاول سعد زغلول مساعدة ثوار الجهازالسرى ، الذين أفرج عنهم من السجن. ولكن الذى تصدى لتعيينهم فى الحكومة كان نسيم باشا وزير المالية . الذى إستلم كشفاً بأسماء هؤلاء الثوار والوظائف المرشحين لتوليها ـ وكلها وظائف تافهة للغاية لا يزيد مرتب أعلاها عن مبلغ 15 جنيه . ولكن وزير المالية نسيم باشا ثار وقذف بالكشف الذى أرسله رئيس الوزراء (سعد زغلول) وصرخ قائلا (هذه محسوبية صارخة ، هذا ضد القانون المالى) (هؤلاء مجرمون !! إن القانون لا يسمح بهذا). واستعان نسيم بالمستشار البريطانى لوزارة المالية الذى أيد رأى الوزير وقال عن التعيينات التافهة المقترحة للثوار (أنها ضد القانون على خط مستقيم !! ) .
– إستقال توفيق نسيم من الوزاره قائلا أن سعد باشا يريد أن يملأ الدولة بالمجرمين .
– سعد زغلول بدوره غضب عندما بلغه الحادث وقال: كيف نثور على بريطانيا أعظم إمبراطورية فى العالم ، وصاحبة أكبر أسطول فى الدنيا ، ثم نخضع للقانون المالى الذى وضعه لنا الانجليز؟
{ ولكن الغلطة تكررت مع “محاولة الثورة” فى 2011 عندما فاز فى الإنتخابات من تقدموا إليها بإسم الثوار . ولكنهم فشلوا فى تنفيذ أى شئ ، إذ ظلت السلطة فى يد الجيش الذى يحمل السلاح ويحتفظ لنفسه بالسيادة كاملة وسلطات حكم غير منقوصة . فى حين يفشل الفائزون فى الإنتخابات من الحكم فى أبسط المسائل التى لا تزيد عن صلاحيات حكم ذاتى منزوع السيادة.والإستنتاج المنطقي من تلك المآسى هو أن البندقية هى مصدر السيادة ، وليس صندوق الإنتخابات. وأن العبرة بعدد الطلقات وليس بعدد الأصوات}.
ومن أمثلة التعيينات التافهة التى حاول سعد زغلول (زعيم الثورة ورئيس مجلس الوزارء والفائز فى الإنتخابات بنسبة كاسحة، حاول تنفيذها ونجح فى بعضها ، وكان منها: تعيين “عريان سعد يوسف ” الذى ألقى قنبلة على”يوسف وهبة باشا” رئيس الوزراء سنة 1919 . وكان راتب الوظيفة سبعة جنيهات ونصف شهريا. ويومها هاجت صحف المعارضة على سعد زغلول ووصفت عمله بالمحسوبية (!!)، واعترض “أحمد زيور باشا ” رئيس مجلس الشيوخ لأن “عريان سعد يوسف ” لم يحصل على شهادة عليا . مع العلم أنه كان طالبا بكلية الطب وقت الثورة وأن المحكمة العسكرية هى التى فصلته من الجامعة .
وكان سعد زغلول قد إقترح وظائف بسيطة لحوالى ثلاثين من مقاتلى الثورة الفدائيين . ولكن الأسماء المقترحة ـ وليست الوظائف ـ هى التى أثارت رعب الثورة المضادة التى سكنت وزارة سعد زغلول ـ كما أثارت فزع الإنجليز والقصر الملكى . ومن تلك الأسماء(ومؤهلاتهم ) الجهادية كان مثلا :
محمد حسن البشبيشي وكان محكوما عليه بالاعدام ـ محمد عبد السلام(إعدام)ـ علي هنداوي
(إعدام) ـ محمد لطفى المسلمى(إعدام فى قضية عبدالرحمن فهمى قائد العمل السرى للثورة ) ـ محمد شمس الدين (إعدام فى قضية قنبلة السلطان حسين )ـ عريان يوسف سعد( أشغال شاقة فى قنبلة يوسف وهبه باشا) .
[[ ولكن السيادة لم تكن لثورة 1919 ولا لزعيمها سعد زغلول رئيس الوزراء ، بل ظلت للإنجليز وجيشهم. وقَبِلَ سعد والثورة بتلك النقيصة ـ كما قَبَلَها الرئيس مرسى و”ثورة” 2011]]
– كتب الطبيب البريطانى سيدنى سميث يصف وضع السلطة فى مصر بعد الإستقلال :
(فى فبراير 1922 أنهت الحكومة البريطانية رسميا الحماية عن مصر ، وأعلنت مصر دولة مستقلة ذات سيادة . وأطلق على السلطان لقب ملك . واُعِدَ دستور جديد ـ وأكتسبت البلاد كل مظاهر الاستقلال، ولكن السلطان البريطانى لم ينقص إطلاقاً . فالمندوب السامى البريطانى يُقَدِّم نصيحته للملك . ولكل مصلحة فى الدولة مستشار بريطانى للوزير .
القضاه البريطانيون يجلسون فى المحاكم إلى جانب القضاة المصريين . وكل موظف مصرى كبير فى الحكومة إلى جانبه موظف بريطانى يقدم له النصيحة … وكانت النصيحة البريطانية التى تقدم يجب أن يؤخذ بها ، فقد كان يسندها جيش الإحتلال) .
تحميل PDF (مصر .. العِبَر والعَبَرات فى ثلاث ثورات) كامل .. اضغط هنا
الفصل الثالث :
أحمد عبد الحى كيرة :
بطل الجهاز السرى.. شهيدا تحت أسوار اسطنبول
( أحمد حسن عبدالحى كيرة)، واحد من أهم أبطال جهاز المقاومة ضد الإحتلال البريطانى فى مصر . بدأ جهاده قبل ثورة 1919 عندما شارك فى محاولة إغتيال السلطان حسين كامل عام1915 بسبب قبوله تولى عرش مصر فى ظل الحماية البريطانية . وهى القضية التى أعتقل فيها محمود عنايت الأخ الأكبر لأسطورَتَي آل عنايت (عبد الفتاح وعبدالحميد عنايت ) وقد مات محمود عنايت فى السجن سنة 1917 بعد أن حكم عليه الإنجليز بالنفى إلى جزيرة مالطا . وهى نفس القضية التى تركت أثرا معاكسا فى الفدائى (محمد نجيب الهلباوى) فتحول بسببها إلى جاسوس يعمل لمصلحة البريطانيين على الجهاز السرى لثورة 1919 ، فتسبب فى أكبر الكوارث التى منى بها ذلك الجهاز .
فى قضية واحدة تحول ثلاث أشخاص إلى ثلاثة إتجاهات مختلفة. الأول راح شهيدا (محمود عنايت)، والثانى تطور إلى مقاتل أسطورة (أحمد عبد الحي) ، والثالث تحول إلى خائن وعميل للإحتلال (نجيب الهلباوى).
إعتقل الإنجليز البطل أحمد عبد الحي عام 1916 على حساب قضية السلطان حسين كامل. وظل فى السجن ثمانية أشهر . ولكن والده (الشيخ عبد الحي كيرة ) من تجار “فارسكور”ـ دقهلية ـ إستأجر محاميا إنجليزيا ودفع له 1500 جنيه ، فحصل له على براءه من التهم الموجهة إليه .
عندما نشبت ثورة 1919 وبدأ مشروع سعد زغلول لإنشاء جهاز سرى مسلح لمقاومة الإنجليز إتصلت قيادات ذلك الجهاز بالأسطورة “أحمد عبد الحي كيرة” . فاتصل به أحمد ماهر ، والنقراشى ، وحسن كامل الشيشينى وعبد الحليم البِيَّلى وهم قادة المجلس الأعلى للإغتيالات . وضموه إلى العمل السرى المسلح . فشارك فى صنع القنابل التى ألقيت على كل من:
ـ إسماعيل سرى باشا وزير الأشغال والحربية فى 28 يناير 1920 .
ـ محمد شفيق باشا وزير الأشغال فى 22 فبراير 1920 .
ـ حسن درويش باشا وزير الأوقاف فى 8 مايو 1920 .
ـ توفيق نسيم باشا وزير الوزراء فى 12 مايو 1920 .
كما أتُهِم بالإشتراك فى محاولة قتل عبد الخالق ثروت باشا فى يناير 1922 .
– جاء فى مذكرات محمد يوسف عضو الجهاز السرى الذى حكم عليه بالإعدام فى قضية عبد الرحمن فهمى وخفف عنه الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة : (كان عبد الحى كيرة شخصية عجيبة ومثيرة : يجيد التنكر ، ويستطيع دائما أن يخدع البوليس ، ويفلت من الشباك التى تنصب لأعضاء الجهاز السرى ).
– بعد حوالى أسبوعين من إغتيال السردار (لي ستاك) أى فى يوم 9ديسمبر 1924 ، أصدرت دائرة المخابرات البريطانية نشرة مطبوعة إلى جميع فروعها فى العالم هذا نصها :
{ مطلوب القبض عليه حياً أو ميتا ـ أحمد حسن عبد الحي كيرة ـ فى اسطنبول أو فى أوروبا ـ كيميائى ـ كان طالبا فى كلية الطب فى مصر ـ متهم فى قضية عبد الخالق ثروت فى مصر ـ فرَّ من القاهرة عام 1922 ـ مكلف بالقيام بإغتيالات فى الخارج ـ خطير فى الإغتيالات السياسية ـ عمره 28 أو 29 سنة العينان سوداوان ـ الرموش خفيفة ـ اللون أسمر ـ عريض الصدر ـ قصير القامة ـ آثار حروق على خده الأيمن ـ ذو شارب خفيف أسود} .
تولى الكسندر كين بويد ـ مدير المخابرات البريطانية فى القاهرة ، كتابة هذه الأوصاف ، نقلا عن أرشيف إدارة الأمن العام فى وزارة الداخلية المصرية ـ وأرسل صورة لأحمد عبد الحي كيرة ، طبعت مع أمر بالقبض عليه حيا أو ميتا .
المخابرات البريطانية تبحث عن “عبده”
فى 6 ديسمبر 1924 أرسل اللورد أللبنى برقية إلى وزير الخارجية فى لندن يقول فيها ” إن المخابرات البريطانية فى القاهرة عرفت أن”عبده” الذى ورد إسمه فى الخطابات المضبوطة والمكتوبة بالحبر السرى ، هو المكلف من الجهاز السرى أن يسافر إلى لندن لقيادة عملية إغتيال الوزراء البريطانيين الثلاثة ، وإلقاء قنابل على الوزاراء فى لندن. و”عبده” هو أحمد عبد الحي كيرة. وهو من أخطر المشتركين فى الجهاز السرى لثورة 1919 . وأنه هرب من مصر فى يناير1922 عندما طلبت السلطات البريطانية القبض عليه بعد أن إكتشفت دوره فى الجهاز السرى . وأن أحمد عبد الحي كيرة موجود فى إسطنبول .
يوم 8 ديسمبر 1924 أرسل لورد أللنبى برقية إلى وزير الخارجية البريطانية بأوصاف أحمد عبد الحي كيرة ، وقال أن صورته موجودة مع ملفه فى أرشيف إدارة المخابرات البريطانية فى لندن .
شهيد تحت أسوار إسطنبول :
الأديب المعروف الأستاذ يحي حقى، كان يومئذ موظفا فى القنصلية المصرية فى إسطنبول. شهد هذه المطاردة ، وعاش فيها ، وكتب يقول :
{ أصبح عبد الحى بُعبُعاً عند الإنجليز. فطلبوه بعد أن جدلوا له حبل المشنقة. بحثوا عنه فى كل مكان فلم يجدوه رغم تجدد إغاراته. إن التنبه للخطر أصبح عنده غريزة سادسة سيكون لها أثرها فيما بعد. وقدرته وحيلته البارعة على طمس الأثر لا حد لها. ولكنه أحس أن يدهم توشك أن تقبض على رقبته ، فهرب.
ومنذ ذلك اليوم أصبح هو والفرار شيئا واحداً ، تسلل إلى الحدود الغربية ، ثم إلى ليبيا ، ثم سافر إلى إسطنبول حيث لقيتُه بها سنة 1930، والله أعلم بما لقيته من مشقة وأهوال . وكان لابد لى ولا مناص أن أسعى لأعرفه ، وكيف لا أفعل واسمه يرن فى أذنى رنين أسماء أبطال الأساطير. ولكن شاء سؤ حظى أننى كنت حينئذ موظفاً بالقنصلية ، وعبد الحى يتفادى المكان وأهله تفادى الوباء ، لأن الإحتلال الانجليزى كان لا يزال رابضاً على مصر ، فكنت لا ألقاه إلا صدفة ، فأقطع عليه الطريق . إنه يعرفنى ويرانى ولكنه يتجاهلنى ، فلا أترك يده بعد المصافحة ، بل أبقيها فى يدى وأقول له أن لي صداقة حميمة ببعض أقاربه وبلدياته ، وأذكرهم له بالإسم ، وألح عليه إلحاحاً شديداً أن يمشى معى ولو خطوتين ، أن يضرب لى موعداً لنأكل معاً ، كل هذا وهو يستنقذ بإصرار يده من كلبشات يدى ، يشكرنى بإبتسامة كلها حياء ورأسه إلى الأرض، ثم يعتذر قائلا : قريبا إن شاء الله .
ظل هذا حالى معه أربع سنوات ، لم أسمع منه كلما قابلته وألححت عليه إلا قوله : قريبا إن شاء الله . لعل شدة إلحاحى عليه زادت من تخوفه منى ، إنه لا يأمن للقنصلية ولا لأحد رجالها . وقد جاوزت حدود الأدب واللياقة فى إلحاحى السمج عليه .
رأيت فى عبد الحى كيرة فى إسطنبول المثل الإنسانى الفذ للرجل الشريد . ما أكثر أمثاله فى أعقاب الحروب . كانت ملابسه تدل على مقاومة عنيدة للفاقة ، وغلبت صفرته التحتانية على سمرته ، يمشى على عجل وبحذر كأنه يحاول أن يفلت من جاسوس يتبعه ، عيناه كالنار تطوف نظرتهما فى دائرة الأفق كلها رغم إطراق رأسه . إن سره لا يخرج من شفتيه ولا من عينيه ، لسانه ممسوك مدرب على ألا يَزِل ….
… من أجل هذا خلا كلامه القليل من نغمة تُعَبِر عن عاطفة، لأن النغمة أيضا لها معناها . فلست تدرى من نبرة كلامه هل هو سعيد أوغير سعيد ، متعب أو غير متعب ، هل جيبه دافئ أم نظيف ، معدته خاوية أو عامرة ، هل حذاؤه يسالمه أو يعقره ، هل هو متعجل أو غير متعجل ، هل هو قادم من لقاء أتمه أو ذاهب إلى موعد ينتظره .
إن هذه الحبسة الفظيعة التى رأيت فيها عبد الحي كيرة كانت تزلزل قلبى ، من شدة وقعها على إنسان مثلى …
(…حاولت أن أعرف أين يسكن لأرسل له خطاباً ـ ولا أقول لأزوره ـ فلم أنجح. وقيل لى أنه يسكن بمفرده فى ثلاث شقق كل منها فى حى بعيد عن الآخر ، وأنه يتخذ فى كل شقة إسماً مختلفاً ، ولا ينام فى فراش واحد ليلتين متتابعتين .
كيف كان يحلو له فى هذا الحذر الدائم ـ أكل أو شرب أو تهنأ له سِنَة نوم ؟ كيف يستطيع إنسان أن يعيش دون أن يأمن لأحد ؟ كل ما يلقاه عدو محتمل، يندس بين الناس بعيداً عن كل الناس ، قلبه حرَّم على نفسه الإستجابه لعاطفة .
رأيت فى عبد الحى كيرة صورة مجسمة لهذا العذاب الذى فاق عذاب جهنم الحمرا).
(.. حِرْتُ فى تفسير مسلكه. ولعل عبد الحي كيرة لا يزال على يقين بأن المخابرات البريطانية لم تكف عن طلبه ، حتى لو فرَّ منها فى أقصى الأرض . إنها لا تنسى ثأرها البائت ، وكلمة “يحفظ ” لا تكتب على ملف عدو لدود إلا إذا أنزلت جثته للقبر. وقد سمعت أن الإنجليز حاولوا خطفه بعد أن طلبوا من الأتراك تسليمه فأبوا . ومع ذلك كان حذر عبد الحي من الأتراك لا يقل عن حذره من عملاء الإنجليز ، خشية أن يعدلوا عن رأيهم ذات يوم لمصلحة لهم يلعبون فيها بورقته .
وكنت أهزأ من نفسى لرضاها بهذ التفسير ، وإستسخف فى قلبى مغالاة عبد الحى كيرة فى حذره وتخوفه ، وملت إلى الإعتقاد أنه أصيب بسبب تشرده عن الوطن بعقدة الخوف من أشباح لا وجود لها . وإذا أصيب إنسان بهذا المرض النفسى أحس دائما بوقع أقدام موهومة تسير وراءه ، فلا ينقطع له خوف ولا فرار .
“ولكننى وقعت فى حيرة أشد ممتزجه بحزن ممض ، ولمت نفسى على سابق إستخفافى يوم بلغنى أنهم عثروا على عبد الحي كيرة مقتولاً بطعنة خنجر . جثته ملقاة فى حفرة بجوار سور إسطنبول العتيق، بجانبها عود ثقاب منطفئ ، كان هو الأثر الوحيد ، وهو ـ مثل العود ـ منطفئ أيضا . وقيل لنا أن التحقيق ـ الذى جرى بسرعة قد إختلط بالكلفته ـ لم يسفر عن معرفة الفاعل ، ولا كيف حدثت الجريمة .
كان عبد الحى كيرة معذوراً وعلى حق فى تخوفه وفراره . كانت الحقيقة أبعد من خيالى . ترى من هو العدو الذى نجح أخيرا فى الظفر به ؟، كيف قدر للحَذِرْ أن يُؤتى من مأمنه ؟ .. لا أحد يعلم .. هذا سر طواه قبره . عبد الحى كيرة ـ كما عرفته ـ كان لغزا فى حياته ، وهو فى موته أشد إلغازاً .
” يحي حقي “
“ثوار يناير” وشهيد إسطنبول “أحمدعبد الحى كيرة”
تعرضت تجارب مصر الثورية لعدوان الإحتلال وأنظمة الفساد والبغى . إنقلاب 1952 إغتصب صفة الثورة وعين نفسه ناطقا أوحداً وممثلا للثورة . وتدعى ثورة 1952 أنها أوجدت مصر من العدم وبعثت شعبها من القبور . لأجل ذلك طمست كل ما له صلة بثورات شعب مصر ، على قِلَّتِها ، خاصة الثورتان الأكبر والأهم : الثورة العرابية ،وثورة 1919.
كانت “محاولة يناير”2011 هى الأسوأ فى تجاهل التجارب الثورية السابقة، خشية المقارنة بين الثورات الحقيقية وبين “تزوير يناير”، سواء فى الهطل الثورى أو الزعامات الخشبية ، والكيانات الخاوية . شعب مصر أظهر بطولات لاشك فيها خلال “أحداث يناير”، ولكن ضمن (لا.. ثورة) لا قيادة لها ولا برنامج ، ويد أعدائها كانت الأقرب إلى مفاتيح تشغيل المجاميع فى الشوارع. وإلا فإن الشعب كعادته كان قادرا على الوصول إلى آخر مدى تستطيع قيادته أن تأخذه إليه . وفى يناير رقصت القيادات فى التحرير فى ليلة سقوط الصنم حتى الصباح . ورقص الشعب معها حتى خارت قواه، وعاد إلى بيوته سعيدا بفوات فرصة ربما لن تتكرر أبدا.
تجربة يناير لم تُنْصِف مَنْ كان قبلها، وحتى أنها لم تتذكرهم، وليس فقط لم تستفيد من تجاربهم. ومن المشكوك فيه أن يكون”عتاولة”2011 يدرون شيئا عن أبطال سبقوهم وثاروا بصدق ، وفشلوا لأسباب تفوق طاقتهم وقدراتهم . ولكن المؤكد أن كلا الثورتين السابقتين شهدتا معجزات البطولة من فئات الشعب ، خاصة الفقراء الذين لا يدرى بهم أحد، ولا يريد حتى التعرف عليهم. ولكنهم حملوا السلاح فى الثورتين وسقط منهم آلاف الشهداء واستقبلوا رصاص الغزاة بصدورهم أو نظموا أنفسهم فى مجموعات مسلحة صغيرة صنعت أساطير وآيات من المقاومة العنيدة.
ومن أهم أسباب ذلك الإندفاع البطولى هو أن قادة الثورتين كانوا فى مقدمة الصفوف وتحملوا العبء الأكبر من مخاطر القيادة الميدانية.
الأنظمة فيما بعد ثورة 1919 وإلى الآن تجتهد فى طمس ونسيان أحداث وبطولات تلك الثورات. وكذلك يفعل الثوار المصطنعين ضمن ثورات مصطنعة لم تحمل فكرا ولا ثورة ، سوى أطماع فى السلطة بأى شكل أو وسيلة .
فماذا عن مثقفو مصر؟ . لماذا تجاهلوا تاريخ ذلك الشعب وبطولاته أمام جيوش الإحتلال وسقوط آلاف المُضَحِّين فى القرى والمدن؟.
– تقدمت قصة البطل (أحمد عبد الحي كيرة) الذى إغتيل فى إسطنبول ، بطعنة خنجر تحت أسوارها القديمة بعد فراره لسنوات من مطاردة المخابرات البريطانية. ومدينة إسطنبول تضم حاليا الآلاف من الثوار المصريين ومطاريد نظام العسكر ، فهل تذكر أحد منهم إسم (أحمد عبد الحي كيرة) ؟ .
إن إستكشاف تاريخ ذلك الفدائى العظيم ستكون إضافة غنية لتراث شعب مصر وثوارها . وتواجد “ثوار يناير” فى تركيا يساعدهم على كشف الكثير من الغموض فى سيرة ذلك الثائر. فماذا حدث له بالضبط؟ . وماذا تقول الملفات التركية حول مصرعه؟. وهى تحقيقات قال عنها الأديب يحي حقى أنها تميزت (بالكلفتة)، فعلى ماذا يدل ذلك ؟ ولصالح من؟. وأين قبر ذلك البطل؟ وهل يزوره أحد؟ أم أن زيارة الشهيد بدعة وكل بدعة ضلالة؟. وأين هُم بقايا عائلته فى مصر؟ . إسمه يوضح أن أسرته ربما كان لها إمتدادا تركيا ، كما هو شائع فى آلاف الأسر المصرية ، فمن هم أقاربه فى تركيا ؟ .. وهل كان على صلة بهم ؟ وما هو دور رجال القصر الملكى فى مصر والقنصيلية المصرية فى إسطنبول ؟. وكيف إستطاع أحمد عبد الحي البقاء تلك السنوات فى تركيا وهو الغريب عنها؟ وهل كان هناك غيره من فدائيي1919 ؟ .
– عشرات الإعلاميين المصريين يقيمون فى تركيا ، فهل يتمكن بعضهم، أو أحدهم على الأقل، من متابعة قضية (أحمد عبد الحي) وقصة إستشهاده فى إسطنبول .
– نرجو من المصريين ثوار يناير فى إسطنبول إن يعيدوا إكتشاف تاريخ ذلك البطل ، وأن يَحِلّوا لغز مقتله ، الذى يشير إلى تواطؤ مشترك بين جهات عُليا للغاية .
أنتم فى وضع يتيح لكم كشف أبعاد التآمر المزمن على ثورات مصر وثوارها، بكشف خفايا إغتيال عبد الحي كيرة . فشاركوا فى إحياء تاريخه الجهادى ولا تشاركوا فى إعادة إغتياله بتجاهلكم إياه .
– وبقايا ثوار يناير فى بريطانيا قد يكفل لهم القانون هناك الحصول على ملف أحمد عبد الحي الموجود فى أرشيف المخابرات البريطانية ، حيث مخزون لانهائى لأسرار مصر فى تلك المرحلة ، وتفاصيل لا يعلمها أحد عن الفدائى الشهيد . فلماذا لا يفعلون ؟؟.
عبد الحى .. وخاشقجى : بين التجاهل والإهتمام.
قد يقارن أحدهم بين إهتمام الثوريين المصريين المبالغ فيه بقضية إغتيال الصحفى السعودى جمال خاشقجى فى اسطنبول، وبين النسيان والتجاهل المبالغ فيه ، لقضية إغتيال أحمد عبد الحي، الفدائى المصرى الجائع المشرد المطارد من أجهزة مخابرات بريطانيا عظمى . فالمقارنة نفسها جائرة وليست ممكنة بين الشخصيتين ولا بين القضيتين.
التشابه الوحيد هو فى مكان الإغتيال فكلاهما قتل فى أسطنبول.أما الإختلافات فأقلها شأنا ــ رغم قيمته الرمزية ــ فهو الإختلاف فى نوع السلاح المستعمل. فأحدهما قتل كمحارب “بخنجر” تحت سور أحد القلاع التركية القديمة ، والآخر قتله “ولى العهد” داخل قنصلية بلاده بمنشار لتقطيع اللحم .. وهذا كل شئ.
أما الفارق فى الإهتمام بالقضيتين فهو لا يرجع فقط إلى الفاصل الزمنى الكبير، بقدر ما يرجع إلى الإختلاف الخرافى بين حجم المال المتدفق حول أحد الضحيتين، والعوز الذى يطحن الضحية الأخرى. ذلك الإختلاف المالى فَطَرَ القلوب ، وأدمى عيون البواكي ، الذين ناحوا خلف النادبة الأمريكية “الواشنطن بوست”. فإذا جفت عيون ثوارنا فليتأملوا قليلا فى سيرة البطل الجائع المطارد / قتيل اسطنبول/ الذى قاتل جيوش الإحتلال البريطانى لمصر : أحمد عبد الحي كيرة.
– ويصدق هنا أيضا قول سعد زغلول متأسفا على عدم مبالة الناس بقضية العامل، الفدائى ، “محمد علي فهمي” وهو على وشك مجابهة حكم الإعدام . حيث قال “سعد” بحسرة :
{أظن أن هذا لكون ذلك البائس من العامة الذين لا يهم الجمهور موتهم أو حياتهم . إن كان الأمر كذلك فكيف يخرج من هذا الجمهور من يُعَرِّض حياته للخطر خدمة لهذا الجمهور؟} .
طعنتان من تركيا للأحمدين : ( أحمدعرابى ــ أحمد عبد الحي).
تلقى أحمد عرابى طعنة تركية قاتلة من”الباب العالى”الذى أصدر مرسوما يعلن عصيان عرابى وتمرده. فتزلزلت دينيا شرعية الثورة العرابية، وكان ذلك من الأسباب الرئيسية فى إفشالها. وتلقى(أحمد عبد الحي)الفدائى الأشهر فى ثورة 1919 طعنة خنجر فى إسطنبول، و”ضبطوه” مرميا فى حفرة تحت سورها القديم . وحظي مصرع الفدائى المصري بإهمال متعمد من السلطات التركية ، فأجْرَت تحقيقا تميز(بالكلفته) كما وصفة الأديب “يحي حقي”.
الرابط بين الطعنتين: طعنة أحمد عرابى وطعنة أحمد عبد الحي، هو أن المستفيد منهما واحد وهو الإحتلال البريطانى لمصر .
ولكنها مصادفة تاريخية تتكررأحيانا .. وبالصدفة فى كل مرّة.
تحميل PDF (مصر .. العِبَر والعَبَرات فى ثلاث ثورات) كامل .. اضغط هنا
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد ) – نشر في تاريخ 13/03/2021 م