سلسلة مقالات 33 استراتيجية للحرب -12- (استراتيجية فض أو رفض الاشتباك)
سلسلة مقالات 33 استراتيجية للحرب -12- (استراتيجية فض أو رفض الاشتباك)
بسم الله الرحمن الرحيم
12- استراتيجية فض أو رفض الاشتباك
أثناء الصراع قد تواجه قواتنا ظروف اشتباك غير مواتية .. وفي إطار ربح الحرب يتعين علينا أن نتجنب بعض المعارك التي إن خضناها تسببت في أذى مادي ومعنوي لقوتنا يستغرق وقتاً طويلاً لجبره ( جاور – كوباني – حلب – حماة ) .. هنا لا بد من مقايضة المكان بالزمن .. الدفاع والهجوم ليسا وجها الحرب فقط فالانحياز وجه آخر .. “الانسحاب .. الانحياز .. التراجع” اسماء تدل على عمل عسكري منظم لا علاقة له بالفرار .. الفرار حالة من الفوضى تؤدي إلى كارثة في الأرواح والمعدات ( 1967 ) .. الانحياز مناورة عسكرية منظمة بدقة عالية وتخطيط راق .. يتخذ قرار الانحياز عندما يختل ميزان القوى بشكل ملحوظ .. ويستمر التراجع حتى الوقت الذي ترى فيه القيادة أن الانحياز حقق توازن القوى من جديد .. سواء تم ذلك بوصول قوات دعم .. أو الوصول إلى أرض شديدة الوعورة .. أو تبعثر قوات العدو واصابتها بالاجهاد خلال المطاردة .. أو طول خطوط امداد العدو وضعف حمايتها .. حين تكثر أخطاء العدو فهذا وقت انتهاء الانحياز والعودة لتسديد الضربات المرنة والسريعة ..
الانحياز يبدأ بأعمال خداع تساهم في تغطية قطع التماس مع العدو .. وتتم العودة إلى الخلف بانتظام بهدف: الاختفاء مؤقتاً لتجنب خوض معركة حاسمة مع العدو ( حرب العصابات ) .. أو بغرض احتلال موقع أفضل لمتابعة القتال ( انحياز قندهار – المكلا ) .. أو العودة لقاعدة الانطلاق ( انحياز زورمت – مناورة فض الاشتباك في مؤتة ) .. أو من أجل كسب الوقت وتعديل الوضع وتدعيم التعبئة أو استدعاء الاحتياط ( الانسحاب التكتيكي ) .. أو العودة بعد تنفيذ مهام قتالية ( كمين – إغارة – استطلاع – تسلل للخطف أو التخريب ) … الخ ..
و يتم الانحياز في وقت يمنح القوات المنسحبة غطاء من الرؤية الضعيفة ( الليل أو الضباب ) ليحرم العدو من أي تفوق .. وتحدد فيه محاور الانحياز بدقة متناهية مع توفير حماية لهذه المحاور .. الحماية جزء من مناورة التراجع وأسلوبا من أساليب القتال التأخيري ..
مبادئ الانسحاب:
– المرونة : يجب أن تكون الخطة قابلة للتطوير لتواجه أي مستجدات أثناء عملية الانسحاب ..
– البساطة : ينبغي أن تكون الخطط واقعية ومنطقية وسهلة لكي يمكن فهمها وتنفيذها ..
– السرية : وتشمل سرية التوقيت وخط السير وخطة الانسحاب…
– العمل التعرضي : ينبغي أن لا ينسى الفرد أن الانسحاب ينبغي أن يستهدف تحطيم العدو مثال ذلك المواضع التي ينبغي مسكها والقتال فيها . الكمائن ومصائد المغفلين، حقول الألغام، مناطق شن الهجوم المقابل . . .الخ . ينبغي تذكير الجنود باستمرار حول الطبيعة (التعرضية) لأي انسحاب جيد التخطيط والتنفيذ .
– المعنويات : إن خير محرك للمعنويات في مثل هذه الظروف هو أن تبقي رجالك على اطلاع تام بما تنوي خطتك تحقيقه لا تخفي الحقائق غير السارة فان بإمكان الجنود ذوي الضبط العالي إبداء المساعدة في استعادة الموقف ولكن ينبغي أن تكون قاسيا في قمع الإشاعات والمبالغة .
– السيطرة : ابدأ بخطة بسيطة، وضعها بدقة وبصورة مباشرة ثم قم بالإشراف على تنفيذ الأجزاء المهمة فيها وبصورة مباشرة مثل الاستطلاع المبكر والمفضل للطرق والمثابات ونقاط التفقد . . .الخ .. تعويض العتاد في مختلف المراحل، تأمين وجبات طعام حارة كلما كان ذلك ممكنا . المحافظة الدقيقة على الوقت الارتباط الفعال مع الوحدات الساندة والتي في الأجنحة .
– الأمن : ينبغي التأكيد على الأمن باستمرار كما ينبغي معالجة أية ثغرة في الأمن بسرعة وبحزم من اجل المحافظة على سلامة الخطة وعلى أرواح أولئك المشتركين فيها .
يرى المؤلف[1] “روبرت جرين” أن الهجرة النبوية مثلت نوعا من فض الاشتباك الدعوي ورفض الاشتباك العسكري .. ففي مشهد الصراع الفكري الداخلي مع قريش والعداء الأعمى لأي تغيير لم تعد مكة خصبة بالقدر المناسب لنجاح الدعوة .. كما أن العداء بلغ قمته حين قرر كفار قريش اغتيال النبي صلَّ الله عليه وسلم .. ولذلك جاء القرار الاستراتيجي بالهجرة للمدينة حيث وفرت أرض خصبة مثلت القاعدة الصلبة لانطلاق الاسلام للعالم أجمع .. كذلك خروج نبي الله موسى عليه السلام ببني إسرائيل من مصر مثلت أيضا شكلاً من فض الاشتباك مع قوة قاهرة وانتقل إلى الأرض التي أعاد فيها بناء نفسية بني إسرائيل خلال سنوات التيه ..
ثم خلص “جرين” إلى أن استراتيجية فض أو رفض الاشتباك تمنح القدرة على التفكير السليم لأنك تبقى بعيداً عن عنف المعتدي متحرراً من رد الفعل الثأري والذي يعيق رؤية المشهد الكامل ويحصر الحركة في الفعل ورد الفعل بعيداً عن تحقيق الهدف الرئيس .. فجاءت الهجرة لتحصن المسلمين من الانغماس في اشتباك يستنزفهم ويقضي عليهم .. وعوضاً عن ذلك منحتهم الوقت الكافي لتخلص نفوسهم من عبء مرحلة وتدخل لمرحلة البناء والنمو ثم العودة ليس للثأر ولكن لتحقيق الهدف العام وهو نشر الاسلام بإخلاص وتجرد وشفافية ..
إن استراتيجية فض أو رفض الاشتباك تمنحنا المسافة الفعلية لنرى الأمور على حقيقتها بدلاً من الانغماس الذي يحد من رؤيتنا فنفقد القدرة على احسان التفكير والتدبير .. الشجرة لا يراها الواقف تحتها ولكنه إذا تحرك عنها يراها كاملة ..
من منتصف القرن الماضي وإلى يومنا الحاضر مثل السجن نوعاً ما من فض الاشتباك الإجباري بين التيارات الإسلامية وأنظمة الحكم في كافة الدول الإسلامية .. بدأ بالإخوان المسلمين ومروراً بغيرهم .. وقد منحهم السجن كثيراً من الوقت لتقييم التجربة وإعادة إخراج رؤيتهم للصراع .. وبطبيعة الحال فمناخ السجن المفتقر للحرية والمعبأ بالقهر والإذلال[2] والتعذيب وبأفكار معلبة .. فرض عليهم اتجاهات محددة من الاستسلام أو المسايرة ماراً بالمراجعات السلبية والانعزالية إلى التكفير العام .. مناخ السجن مشحون بهواء مسموم لا يجعل فض الاشتباك حقيقياً وإنما يجعله اشتباكاً مأسوراً ومقهوراً .. هذا المناخ لا يساعد على الخروج برؤية سليمة للتغيير وإنما فلسفة تمنحهم نوعاً من الحياة وفق برامج عمل مشوهة وفاسدة .. ولأنها أنتجت في ظلال الأسر والقهر فسوف تكون رؤية مأسورة بقوانين وفلسفات لا تسمح لها بالتغيير مهما تماهت مع طبيعة نظرية النظام الحاكم لتبادل السلطة .. وهذا مشاهد من العقد الأخير للقرن الماضي ومطلع القرن الحالي .. وحتى عندما أوصلت الثورات الأخيرة بعضهم للسلطة وبعضهم لمناخ المنافسة عليها جاءت مسيرتهم متوافقة مع النفسية المقهورة المهزومة ..
وهنا نلحظ الفارق الكبير بين فض أو رفض الاشتباك الذاتي في مناخ حركي حر باللجوء إلى مناطق منيعة على العدو تمنحنا الوقت الكافي لاستعادة المبادرة .. والعودة مرة أخرى لتحقيق الهدف العام .. المناخ الحر يجعلك تلحظ الفارق بينك وبين الآخرين أن تفهم نفسك وأنصارك وعدوك .. ترى المشهد الكامل وعلى حقيقته وهذا ليس سهلا أثناء الاشتباك أو في ظلام السجن .. ولذلك تأتي البرامج في المناخ الحر استكمالا لما سبق وعلى نفس الدرب .. ولكن .. بوعي ونضج أكثر فتصحح ما وقعت به من أخطاء وتسد الثغرات .. كما تسعى لتحصيل ما يمكن من اسباب للتمكين غفلت عنها سابقاً .. وتحسن التوكل على ربها وترجو منه التوفيق والرعاية فالنصر منه سبحانه وتعالى {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {126}آل عمران ..
قد يكون هناك فريق من التيار الإسلامي بحاجة لسنوات التيه ليخرج من أصلابهم من هو أشد منهم عوداً .. ولكن هناك أجيال آخرى نمت على ربا الحرية في أفغانستان والصومال واليمن والمغرب امتلأت صدوهم بعبير الحرية ورياح التغيير .. وإن شاء الله لن يذهب جيل أحفادهم حتى يقطفوا ثمرة ما غرسه أجدادهم ..
– – – – –
[1] بتصرف وليس نصاً ..
[2] ما وقع للنساء في سجون الطواغيت حطم إرادة كثير من المخلصين وحملهم فوق طاقتهم .. وأثر على قرار الصراع عندهم .. ولهذا حاولوا تجنب كل ما قد يجرهم لتجربة السجن ثانية .. وفي ضوء هذه الجملة يحكم عليهم البعض بقسوة ويعذرهم أخرون ..
بقلم : عابر سبيل
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )
www.mafa.world