سلسلة مقالات 33 استراتيجية للحرب -11- (استراتيجية الردع)
بسم الله الرحمن الرحيم
11- استراتيجية الردع
الردع هو: “امتلاك حقيقي أو نفسي لقدرات تكبح جماح العدو وتمنع نشوب الحرب المباشرة على أرض الدولتين .. لكنها لا تمنع من اكمال الصراع في قطاعات أرضية أخرى” .. الردع النفسي لا يعتمد على قدرتنا على خداع العدو فقط وإنما على سمعة وتاريخ ملئ بالمواقف القوية والصادقة وسوابق في تنفيذ التهديدات .. من المهم بيان أن مجرد امتلاك قدرات للردع لا يمنع اعتداء العدو .. الذي يمنع العدو من العدوان هو يقينه من أنك ستقوم فعلا باستخدام ما تملك من قدرات للردع .. وهذا يعني ببساطة أنه سبق وقمت باستخدامها ولا يوجد ما يمنع من استخدامها مرة أخرى .. هنا فقط تتحقق القاعدة التالية [ امتلاك سلاح للردع يغني عن استخدامه ] .. من الردع أيضا القدرة على تحقيق خسائر كارثية في أهداف العدو الحساسة أي ما يكون نوع الهجوم ( العمليات الفدائية نموذجاً ) .. من هنا نجد أن تحويل العمليات الاستشهادية من سلاح استراتيجي إلى سلاح تكتيكي بالجبهات هو خطأ فادح فما يمكن تحقيقه بقذيفة لا تهدر عليه الأرواح ..
من التعريف السابق نرى أن الردع هو امتلاك لوسائل القوة والتلويح أو التهديد باستخدامها في إطار حوار الإرادات ليصبح الردع عملية نفسية تستهدف إرادة قيادة العدو .. وسبق وبينا في دروس التكتيك أن النصر في المعركة يتحقق بالقضاء على إرادة الخصم القتالية وليس باحتلال آراضيه فقط ..
ويمكن للاختصار حصر الردع في شكلين:
الأول التهديد باستخدام القوة الخشنة: “بالعقاب .. أو بالحصار .. أو بالحرمان” ..
الثاني: التلويح باغراءات القوة الناعمة: ” المنح.. الحماية .. التقنية” ..
ولكي يؤدي الردع مهمته فلا بد من تغطية عدد من المبادئ والإلتزام بها كما جاء في التعريف:
– إمتلاك قدرات: قد تكون قدرات “عقدية .. عسكرية .. اقتصادية .. سياسية .. جغرافية” وكل شكل مما سبق صالح في تحقيق ردع يحقق الهدف المرجو منه.. شريطة الوفاء بتنفيذ التهديد في حالة عدم استجابة العدو .. وهذا ينقلنا للمبدأ التالي..
– المصداقية: وقد عبرنا عنها في المقدمة بأنك فعلا صادق في تنفيذ التهديد وذلك وببساطة لأنه سبق وقمت باستخدامها ولا يوجد ما يمنع من استخدامها مرة أخرى .. قد تخسر المصداقية لمجرد وجود تناقض بين كلماتك وأفعالك فهذه كلها رسائل يدرسها العدو بعمق ويبني قراره في ضوء فهمه لنفسيتك أيضاً ..
– العقلانية: الواجب توافرها في طرفي النزاع خاصة إذا كان على نفس القدر من امتلاك عناصر القوة والقدرة على استخدامها فمن خلال الحوار – وهو بعد غاية في الأهمية في مسألة الردع أو الردع المتبادل – يتوصل الطرفين لاتفاق مناسب لكليهما .. وكذلك الحال إذا كان أحد طرفي النزاع أقل قوة .. الحوار العقلاني يمثل وجه القوة الناعمة التي تؤدي لتحقيق الردع المطلوب ..
– المعلومات: لا بد من توفر معلومات دقيقة عن قيادة الخصم على المستوى النفسي .. وما هو الإسلوب الذي يناسب نفسيته ( التهديد أم الإغراء ) .. وبطبيعة الحال المقصود بالقيادة هي مجموعة الصقور والحمائم المساهم في صنع القرار .. فبدراستهم نصل لمدى تأثير كل عضو على الباقين وما يمكن أن يحققه ذلك لنا..
– الإعلام: السري والعلني .. فما يتحقق “بالوشوشة” لا ترفع فيه الاصوات .. وللإعلام جانب هام في بيان قدراتنا وما يمكن أن نفعله .. فالإعلام يقدمنا للعالم كله ويعرض هويتنا ودعوتنا وقدراتنا ولكن لا للإعلام الذي يفضح ما ينبغي أن يبقى مستوراً .. فالإعلام عليه أن يستعرض ما يؤكد مصدقيتنا ويستر ما نخبأه من مفاجأت ..
السيرة النبوية مليئة بنماذج كثيرة لاستراتيجية الردع وقد باشروا المبادئ السابقة ونجحوا في فرض إرادتهم على خصومهم ..
قد تنجح بعض العمليات العسكرية الذكية والتي يقف خلفها دهاة الحرب في أن تكون حاسمة في ردع العدو .. فقد نضطر للقيام بمناورات محسوبة ذات درجة مخاطرة عالية .. هذه المناورات كإجراء عسكري قد تحدث أثراً يمثل نوعاً من الردع بحيث يمنع العدو من القيام بما خطط له .. مثال ذلك: بأن يقوم العدو بدفع قوات عسكرية من مناطق مختلفة للتجمع في منطقة عمليات للقيام بهجوم عام لضرب مركز ثقل قواتنا .. وفي حالة إتمام العدو لعملية التجمع سيملك تفوقاً كاسحاً قد يقضي على قواتنا بالكلية .. في مثل هذه الحالة تقوم القيادة العسكرية لقواتنا بدفع وحدات صغرى ذات حركية عالية وتدريب راق للقيام بمناورة سريعة للوصول إلى مقرات إنطلاق هذه القوات ومهاجمتها بشراسة وبزخم وأكثر من مرة أو مهاجمة أجناب أو مؤخرة الوحدات المتحركة لمنطقة التجمع أثناء تقدمها .. هذه المناورة تربك حسابات العدو ويصيبه الكثير من الشك ويرغب في تأمين قواعده؛ فلو كان خصمه ضعيفاً لما قام بمناورات قوية في العمق ولما هدد قواعده بهذه الشراسة .. هذه المناورات تجعل العدو يستدعي الوحدات التي انطلقت للتجمع للدفاع عن مقراتها ويعيد تفكيره في عملية الهجوم العام ..
بهذا الشكل ردعت هذه المناورات العدو عن تنفيذ مخططاته .. ورغم كونها قوة تقليدية إلا أنها عملياً تحولت إلى سلاح ردع أحبط هجوم العدو .. ( مناورة جاكسون 1862 الحرب الأهلية الأمريكية )
المناورة السابقة اعتمدت على:
– فهم نفسية الخصم والتأثير فيها: فمن المهم جداً كيف يراك العدو؟ ..حينما تكون قيادة العدو حساسة وحذرة إلى درجة الوسوسة وتخشى من الأخطاء وما يترتب عليها من لوم ومسائلة .. فالتحركات الأرضية الواعية السريعة على نقاط ضعف الخصم أو على وحداته المتحركة .. مع قوة الهجمات وغزارة النيران .. تؤثر في تصور الناس لتخلق صورة مرعبة عنك تتضخم آلياً وتشكل وهماً مخيفاً في عقل قيادة العدو يربكها ويحبط مخططاتها .. ولقد نُصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر ..
– التحركات الأرضية المحسوبة: كالانطلاق لضرب قواعد القوات المتحركة .. أو العمل على مجنبات أو مؤخرة القوات المتحركة نفسها .. أو التحرك في اتجاه مقر العدو الرئيس .. أو عاصمته .. يجعل العدو يعيد حساباته سواء حول القوة التي تهاجمه أو مركز الثقل الذي رغب في القضاء عليه .. وببساطة فإن ظهورك بجرأة في الوقت الذي يظن العدو أنك ضعيف فيه قد صعب عليهم فهم تصرفاتك .. هذه الحالة تثمر قلقاً وكثير من الخوف عند خصمك .. تمنحك السمعة التي ترعبهم وتزيد من حلفائك .. كما تمنحك الوقت الكافي للتحضير لمعركة تفرضها أنت عليهم ..
– فهم ميدان المعركة استراتيجياً مع توفر قوات ذات جاهزية حركية ومدربة جيداً: تجعلك تضعهم في المكان والزمان المناسبين دائما لتنفيذ مناورات في العمق .. فحينما يهاجم العدو الريف الداعم لك .. فالخطوة المناسبة هي أن تقوم بضرب الريف الداعم والموالي له وبنفس القوة .. فالعين بالعين .. ويجب أن تعاني مدنه كما تعاني مدننا .. وأن ما يفعله في ريفنا لن يمر دون ثمن موجع ومؤلم .. وعليه أن يتوقع في مقابل كل هجوم نتعرض له هجوم يلحق به أضرار مضاعفة .. وهذا لا يمكن تحقيقه بدون قوات معدة جيداً ورؤية خريطة الصراع كاملة وليس أجزاء منها .. ( تكتكات العصابات – بروس اسكتلندا ) ..
– فرق بين الرسائل السياسية القوية وشكوى الضعيف .. عندما تكون عرضة للهجوم وتسارع لتطلب من العدو التوقف أو أنك تهدده أنك سوف تفعل كذا أو كذا إن لم يتوقف .. فهذه رؤية محدودة تنم عن الضعف كما تفضح نواياك .. كذلك إن أرسلت له كلمات دبلوماسية مهذبة تنقل له فيها مخاوفك فهذه شكوى لا تسمن ولا تغني .. المطلوب أن تكون على قدر المسؤلية جاداً في جعل أقوالك أفعال فليكن ردك يحمل التلميح الذي يجعله يتصور الباقي .. إلى نقفور كلب الروم الجواب ما تراه لا ما تسمعه .. هكذا تكون الرسائل ..
وبقيت كلمة مفادها “إذا فقد الردع مصداقيته فإن عناصره تتحول آلياً إلى نقاط تحفيز ترفع من معنويات الخصم” ..
النقد الذاتي والإصلاح والتغيير للردع:
عندما تسير المناورات السياسية والعسكرية باطراد ملحوظ في اتجاه مسدود .. وتصبح الرؤية ضبابية والتخبط سمة عامة للعمل .. والفشل مصاحب للمجموعة القيادية ولا يغادر ركابهم .. والهزائم والانكسارات والانشقاقات تتوالى .. والقرارات يائسة وعواقبها مهلكة وكارثية .. وخيمت ظلال الاحباط على النفوس ولا شعاع ضوء في نهاية النفق .. فلا بد هنا من وقفة للمراجعة والإصلاح ..
وأول خطوات الإصلاح تتم بسنة الاستبدال أي تنحية الفاسدين والفاشلين .. وهذا الأمر ليس مقصوراً على الحكومات والطواغيت فقط .. فكثير من الجماعات والتنظيمات وفصائل التيار الإسلامي تعاني من المظالم والفساد وتحتاج إلى إصلاح حقيقي على يد أبنائها .. أي من الداخل لتعالج الآفات التي ابتليت بها بفعل المؤثرات الخارجية .. لكن .. عندما يواجه الإصلاح عناد ومقاومة من الفاشلين ويصبح برنامجهم الرئيس مناهضة محاولات الإصلاح وإفشالها .. فلا بد من ردعهم بوقفة للتغيير ..
ولا بد أن يكون التغيير أيضاً من الداخل .. هذا نموذج مصغر لثورة داخلية لا بد منها: أهم صفات القائمين على التغيير كونهم اصحاب تقوى ودين .. وعلى وعي واطلاع بالواقع .. وأعرف بمواطن الخلل وأوعى بالعلاج وجرعاته وتوقيتاته .. عليهم أن يشكلوا شبكة داخلية من الحلفاء المخلصين الراغبين في التغيير والمسيطرين على بعض المفاصل .. وعليهم أن يحظوا برعاية وتأييد أهل الفضل الأقوياء ولا يحرموا أنفسهم من نصحهم وتجربتهم .. وعليهم أن يكونوا قريبين من الجنود كاشفين لهم مواطن الخلل وسبل العلاج .. وعليهم أن يدركوا متى وكيف وأين يتم الانتقال بين السيف والدرع لردع الظالمين ..
فالقيادة قد تكون هي السيف الذي يضرب في وقت وقد تكون الدرع الذي يحمي في وقت آخر .. وكذلك الجنود تارة يكونون السيف وتارة يكونون الدرع ..
ولو أن تنظيماتنا الإسلامية عامة والجهادية منها خاصة مارست النقد الذاتي وباشرت الإصلاح ونقت صفوفها من شوائب وآفات الداعمين والمتآمرين لكان في ذلك ردع لكل مجموعة قيادية غرقت في أوهام اليقظة أو دجنتها أيدي العابثين ..
بقلم :
عابر سبيل
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )
www.mafa.world