جلال الدين حقانى .. العالم الفقية .. والمجاهد المجدد 28
بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
مجلة السنة الخامسة عشرة – العدد ( 179 ) | جمادى الأولى 1442ھ – ديسمبر 2020 م .
01-01-2020
حقاني: العالم الفقيه والمجاهد المجدّد (28)
– رمت الطائرات قذائف نابالم أنتجت سحبًا من الدخان الأسود اللزج على طول كيلومترات، ثم قنابل ثقيلة أمام موقعنا، ثم قصف على مناطق المدفعية والمناطق الإدارية.
– قبل أن يهبط حقاني وضيوفه شاهد الجميع عرضًا ناريًا هائلاً في السماء. صوت انفجار كبير وكرة ضخمة من النيران، ثم انفجار آخر وتفتت الكرة إلى ثلاثة أجزاء تهوي مشتعلة.
– اليوم هو “اليوم العنقودي”، من كثرة عناقيد النارالتي هبطت علينا من السماء.
– ما أن بدأ السائق في الحركة حتى ظهرت في السماء ست طائرات فضية متجهة نحونا.
– فالذي يرى تلك الغارات عن بُعد يستطيع أن يجزم أنه لم يتبق أحياء فوق الجبل.
– كنت في حالة من الدهشة والذهول ولا أكاد أن أصدق أنني فعلاً فوق ظهر جبل تورغار الرهيب، وأنه أصبح جبلاً صديقًا وليس كابوسًا قاتلاً.
– لا أزعم أنني أحببت هذا الجبل يوماً ما، ولكنني احترمه بكل تأكيد، ولا تبارح مخيلتي صورة عبد الرحمن وهو مدرج بدمه قريبًا من قمته.
– كنت معجبًا دومًا بالحاسة الهندسية لحقاني، وأنه لن يضيع وقتًا في مد طريق إلى رأس تورغار، ليصبح “الطريق الدائري” حقيقة واقعة.
تحميل مجلة الصمود عدد 179 : اضغط هنا
الثلاثاء 20 فبراير90:
صباح مشرق جميل، ولكنه عند المجاهدين نذير ليوم صعب مع الطيران، وهذا ما كان.
لقد أرسلت الدولة كل سلاحها الجوي، ولا أستبعد أن الروس هم أيضًا شاركوا. كان الطيران مصابًا بداء الكلب، هائجًا يضرب في كل مكان، لاتشعر له بهدف محدد، ولم يكد يتوقف طوال اليوم.
الساعة 8.33:
أول غارة اليوم على مركز خليل ـ حيث حقاني متواجد ـ ألقوا هناك ثلاثة قنابل من عيار ألف رطل، ثم قنبلتان على توده شني، وإثنتين تحت تورغار الكبير.
الساعة 8.43 :
فاصل من الجنون، طائرات كثيرة تقصف في أماكن متباعدة وفي كل مكان، وعلى أي هدف. تصاعد دخان كثير في معظم المناطق: خلف تورغار الكبير، وفي منطقة دروازجي ،شرق تورغار، ومنطقه ليجاه.
الساعة 8.50:
كأن قطار بخاري يسير خلف موقعنا، لقد رمت الطائرات قذائف نابالم كثيرة خلفنا فأنتجت سحبًا من الدخان الأسود اللزج على طول كيلومترات، ثم قنابل ثقيلة أمام موقعنا ثم قصف على مناطق المدفعية والمناطق الإدارية في بوري خيل.
إلى جانب النابالم والعنقودي ظهرت القنابل الفسفوري بدخانها الأبيض الجميل الذي يتصاعد في أعمد رشيقة على غير العادة. شجرة الحور العتيقة القريبة من بوري خيل أمسكت بها نيران الفسفور وبدأت تحترق، فشعرت بالحزن. قريبًا منها راجمة صواريخ وموقع مدفعي للمجاهدين ولكنها مزودة بمغارات جيدة وحفر للخنادق.
الساعة 8.55: في جنوب تورغار الكبير غابة كثيفة من الدخان. المنطقة هناك مليئة بالشجيرات، ومع النابالم لابد أن تكون المنطقة قطعة من لهب.
الساعة 10.20: غارة جوية ضد دبابة خليل تحت الجرف، وغارات مباشرة ضد تورغار الكبير والصغيرة.
الساعة 10.30 إلي 10.50: غارات متصلة لاتتوقف على أماكن متفرقة .
الساعة 11.20 الي 11.35 :
القنابل العنقودية لا تتوقف فرقعاتها في الأرض ولا في السماء. وخيوط الدخان ترسم مسارها، الهابط من الجو نحو الأرض. بعد انفجارها الأول في الفضاء والذي تعقبه انفجارات كثيرة في الفضاء أيضًا ثم عناقيد من اللهب الأحمر الهابط إلى الأرض حيث يتفجر وينشطر في فرقعات لاحصر لها من القنابل الصغيرة على سطح الأرض.
انفجارات لا تنقطع في الجو، ثم شلال من النيران الحمراء يجر خلفه دخان أبيض هابط نحو الأرض، ثم انفجارات بلا عدد فوق سطح الأرض. تلك هي القنابل العنقودية التي لايكاد يتوقف سيلها النازل من السماء.
الساعة 12 :
ظهرت الأنتينوف لأول مره وبدأت ترمي قذائفها الثقيلة في خط طويل منتظم، كما هي عادتها. الجو صحو تمامًا، حتى أننا نشعر بالحرارة. لا أدري أكان ذلك من الانفعال، أم من نيران الحرائق حولنا في كل اتجاه، أم أن الشمس حارة فعلاً في ذلك اليوم من فبراير ؟ من أخبار عبد العزيز: أمسك المجاهدون دبابة سليمة بالأمس في منطق تورغار الصغير وهم ينظفون لها طريقًا من الألغام حتى ينقلوها إلى مواقعهم.
ـ حصلنا أخيرًا على ساعتين راحة، ثم استأنف الطيران عمله كالمعتاد. عند الظهر وصل الشيخ حقاني ومعه عدد من قادة العمليات مثل مولوي حنيف شاه ومولوي أليف جول وغيرهم، وبقوا مجتمعين حتى حل الظلام وانصرفوا بدون أن أتمكن من الحديث مع حقاني.
اكتشفت أنهم أحضروا حقيبتي وبها الكاميرات. كان الوقت متأخرًا جدًا بعد أن ضاعت فرص تصوير الجنون الجوي الذي حدت اليوم.
ومع هذا فإن الطيران استمر يعمل طوال الليل ولكن بكثافة أقل مما حدث في النهار. حاولت الحكومه عند العشاء التمهيد لإنزال إحدى طائراتها العسكرية في المطار، فقام بغارات شديده ضد “جبال” تورغار لتغطية هبوط الطائرات، ولكن تورغار الكبير استخدم أحد مضاداته الجوية الثقيله “23 مليمتر” ضد الطائرة وهي في الجو، ولكنه لم يحقق إصابات.
ولم تنجح تلك الطريقه فيما بعد لإيقاف محاولات الهبوط في المطار. أرسلت اليهم اقتراحًا فيما بعد بأن يستخدموا ذلك المدفع ضد مدرج المطار عندما تهبط الطائرة لأنها تكون في حالة سكون ويمكن إصابتها. لكن الاقتراح وصل متأخرًا لأن دبابات العدو عطلت أحد المدفعين وأصابت الآخر بشظايا فقرروا تفكيكه وإنزاله من فوق الجبل حتى لا تدمره القذائف المعادية. في نفس الليلة، وقبل أن يهبط حقاني وضيوفه شاهد الجميع عرضًا ناريًا هائلاً في السماء.
فوق الوادي من جهه الغرب صوت انفجار كبير وكرة ضخمة من النيران في السماء ثم انفجار آخر وتفتت الكرة إلى ثلاثة أجزاء أو أكثر تهوي مشتعلة. لم أفهم مغزى ما أراه لكونها المرة الأولى الذي أرى فيها مثل ذلك المشهد. لكن عبد العزيز العجيب أتى لنا بالخبر، فقد اتصل به المجاهدون في الجبال الشمالية المواجهه لنا، بأن المجاهدين في “جاني خيل” كانوا في كمين فوق الجبال ومعهم صاروخ ستنجر، فأصابوا به طائرة نقل حكومية.
وجاء الرد من كابل عصبيًا وعديم الجدوى كالعادة. فقد ضربوا منطقه باري بصاروخ سكود، ووصلنا التقرير التقليدي : لم يصب أحد.
ومن الطريف أننا شاهدنا صاروخ سكود وهو ينطلق من كابل وخلفه خيط أحمر طويل استمر لثوان ثم اختفى لفترة إلى أن سقط في باري. وكان الوقت كافي كي يبلغ عبد العزيز جميع المواقع بأن “سكود” قادم، ويأمرهم بالإنذار التقليدي: “ستر وإخفاء”.
ـ تأكد اليوم أن المجاهدين في عمليتهم ضد تورغار الصغير لم يتكبدوا أية خسائر في الأرواح ولا حتى جرحى.
تحميل مجلة الصمود عدد 179 : اضغط هنا
الأربعاء 21 فبراير 90:
غارات اليوم لاتقل عنفًا عن غارات الأمس لكنها أكثر تركيزًا ومنهجية. وحتى الحادية عشر ظهرًا كانوا قد غطوا كل المناطق الهامة بغارات مركزة. ولكن لم يبلغ أحد بوقوع خسائر حتى الساعة الواحده ظهرًا. لاشك مع كل هذا العنف الجوي أن الحكومه توجه ضربة إجهاضية لهجوم متوقع على المدينة.
ولها أن تتوقع ذلك بعد استيلاء المجاهدين على “عائلة تورغار” وبالتالي هناك ثغرة واسعة في الخط الدفاعي خاصة من طرف تورغار والجبال المواجهة للمطار. فالمواقع فيها ثانوية وليست متينه بالشكل الكافي وكانت كلها متكئة على تورغار. والحكومة في حاجة إلى عدة أسابيع لتقوية خط دفاعي جديد، ليس فيه تورغار، وهي نقطة ضعف أكيدة.
الطائرات غير متأكدة تمامًا من موقعنا، أو أنها أخذت أحداثيات خاطئة من المراقبه الأرضية. قذائف عنقودية كثيرة حولنا أمام وخلف ويمين ويسار. تورغار أصابه نصيب وافر منها الطائرات المشاركة كثيرة بشكل غير عادي. يبدو كأنه طيران “دولي” وليس أفغاني فقط.
إذا أردت أن أطلق اسما على هذا اليوم فسوف أسميه “اليوم العنقودي”، من كثرة عناقيد النارالتي هبطت علينا من السماء، لكن الله حفظ الجميع بمعجزة لا لبس فيها، فنصف القنابل التي ألقيت في فتره الصباح فقط كافية لقتل جميع المجاهدين عدة مرات .
اليوم التقطت من الصور للقصف الجوي ماعوضني عن عدم التصوير بالأمس.
وصل خبر من مجاهدي”جاني خيل” بأنهم فتشوا حطام الطائرة التي أسقطت بالأمس فوجدوا بها عشرين جثة لضباط، وحصلوا على بعض أوراق هوية مازالت سليمة، كما كانت الطائرة تحمل ذخائر.
حصلنا على قائمه بالغنائم من عمليه “ورا تورغار”وهي كالتالي:
18 أسير، 19 كلاشنكوف، 1 دبابة سليمة، 2 شاحنة عسكرية، 1 هاون غرناي، 2 زيكوياك ، رشاش ثقيل 14.5 مليمتر،1 شلكا 23 مليمتر، 12 جرينوف خفيف، 1جرينوف ثقيل، 2 مولد كهرباء، مخابرة كبيرة، ذخائر كثيرة جداً لمختلف أصناف الأسلحة في المخازن الرئيسية، وكانت هناك مسجلات وتلفزيونات .
ــ توقف القصف لمدة ساعتين لهذا اليوم أيضًا. فانتهزت الفرصة ونزلت مع حاجي إبراهيم لمقابلة حقاني في مركز القيادة “مركز خليل”، وكان اتفاقنا معه أن أذهب مع حاجي إبراهيم لزيارة تورغار. عند المركز قابلنا صديقنا القديم، المجاهد سابقا والمصور التلفزيوني حاليًا “زكي”، وكان قد زار تورغار وعاد لتوه من هناك. لقد سبقنا إلى هناك كما سبقنا أيضاً صالح إلهامي.. وهو شاب أردني مجاهد ويعمل صحفيًا في مجلة الجهاد في بشاور، وعلمنا أنه زار الجبل بعد فتحه بقليل ولكنه في رحلته خرج قليلاً عن ثغرة الألغام فانفجر به لغم أطار قدمه وأصابه في وجهه ، وقد نقل إلى بشاور للعلاج.
أخذتنا إحدى السيارات المتوجهة إلى مركز” د.نصرت الله” في بوري خيل، كان علينا قطع الرحلة على طريقه “الأوتوستوب” لعدم إمكان توفر سيارة خاصة.
وصلنا مركز” د.نصرت الله” وكانت المنطقة قد قصفت بوحشية خلال اليومين الماضيين. جزء من الرجال فوق تورغار هم من مجاهدي ذلك المركز، فوجدنا سيارة تحمل إليهم إمدادات عبارة عن كيس من الحمص وثلاثه صفائح بترول. ركبت مع إبراهيم في صندوق السيارة ومعنا راكب آخر، وفي المقدمة السائق ومعه رجلان. كان الجميع في عجلة غير عادية قبل أن تدهمنا الطائرات. وما أن بدأ السائق في الحركه حتى ظهرت في السماء ست طائرات فضية دفعة واحدة، وجميعها متجة نحونا، فيما ظهر لنا.
صاح إبراهيم يعاونه الراكب الآخر بالسائق أن يتوقف على جانب الطريق لأن الطائرات النفاثة قادمة نحونا، لم يسمع السائق ولكن مع الصياح المتواصل والدق العنيف فوق كابينة القيادة توقف السائق وأخرج يده وهو يصرخ بغضب: ماذا تريدون ؟.
وقبل أن يسمع الرد رأي الطائرات فأدخل رأسه وضغط بكل قوته على دواسة البنزين بينما اختلفت آراء السادة الركاب: جزء يصرخ طالبًا التوقف، وجزء آخر يصرخ طالب بالعجلة في الرحيل بأقصي ما يمكن من قوة.
لكن السائق كان قد قرر ـ بوعي أو بدون وعي ـ فقد استمات بقدمه على دواسه البنزين، وتيبست أذراعه على عجلة القيادة مقتحما أهوال الطرق، أولها جدول الماء الرقراق، التي تحول إلى نافورة ضخمة تلف سيارتنا وخرج منها كتل الحصي المستديرة الكبيرة وصخور مختلفة الأحجام فكان يقتحمها بلا تمييز. ثم سمعنا فرقعة العنقودي فوق رؤوسنا، فأيقنا بالهلاك فانبطحنا ـ المجموعة الخلفيةـ في صندوق السيارة.
وكنا نضحك من شدة اليأس فما معنى أن ينبطح الإنسان في صندوق سيارة مكشوفة بينما أطنان من القنابل العنقودية الصغيرة تهبط نحوه من السماء؟ نطقنا بالشهادتين وقلصنا عضلات أجساما بشده تحسباً لتناثر الأعضاء من جراء الإنفجار، وأغمضنا العيون نصف إغماضة مع الضغط الشديد على الأسنان ـ التي لم ترتعش لحسن الحظ ـ ثم دوت انفجارات العنقودي حولنا، ويا لدهشتنا أن وجدناها تنفجر على الهضاب المرتفعة يمينًا وشمالاً، أما وادينا الضيق المتلوي فلم تسقط فيه واحدة منها!!
وكأن الأمر لم يعجب واحدًا من الطيارين الأشرار فانقض علينا بطائراته، التي خلعت قلوبنا وسيارتنا، وهي تمرق من فوقنا، وتلقي قنبلة ضخمة على هضبة مواجهة لنا. لم نكن قد متنا بعد، ولكن كنا في نصف إغماءة عندما سمعنا انفجارات من كل الأنواع تحيط بنا وبالمراكز حولنا.
ولما تبين لنا أنها ذهبت ـ أي الطائرات ـ بدأت أصواتنا تخرج، فهذا يضحك بهستيريا وذلك يصيح إعجابًا بمهارة السائق ـ الذي هو بطل رغم أنفه ـ حتى وصلنا إلى مركز المدفعية المقابل وكان به قاذف صاروخي كبير وراجمة صواريخ. سألناهم عن الأحوال، فكانت:
” خير خيريّت” فلا إصابات، فحمدنا الله وواصلنا المسير ونحن نضحك على تصرفاتنا العاجزة والحمقاء وقت الغارة، أي وقت مصافحة الموت عن قرب. انحرفنا مع الطريق جهة الشرق ومررنا من أمام قلعه بوري خيل المدمرة ـ والتي دمرها المجاهدون بعد فتحها عام 1980 تقريبًا.
في الطريق أقام المجاهدون مركزاً لصناعة الخبز لتزويد مجاهدي تورغار وما حوله. وكان المركز على المدق الضيق من طرف جبل زرمانكي المجاور لتورغار وأمامه ساحة واسعة بها شجيرات برية وقد بثت الألغام في تلك الساحة، خاصة تحت الشجيرات التي يمكن الاحتماء تحتها من حرارة الشمس، وهي ألغام وضعتها القوات الحكومية للحد من حرية حركة المجاهدين في المنطقة المواجهة لتورغار، والتي يصعب مراقبة معظمها من فوق الجبل بسبب الشجيرات الكثيرة وبسبب زوايا الرؤية التي لا تتيح المرقبة الجيدة من فوق الجبل.
على يمين المدق في منحدر صغير هناك قبر الشهيد السعودي أبو الدرداء. نرلنا من السيارة التي إنتهت مهمتها عند ذلك الموضع. وواصلت سيري مع حاجي إبراهيم وبرفقتنا شابين صغيري السن في طريقهما إلى مركز للمجاهدين في طرف تورغار من جهة الغرب.
كان المغرب قد اقترب ومن الأفضل لنا الإسراع بالوصول إلى مراكز المجاهدين حتى لا نضل الطريق في الليل فتضربنا الألغام، أو نقع فريسة الغارات الجوية المفاجئة. وصلنا مركز المجاهدين وكان على نفس استقامة مركز أبو الحارث الذي يبعد عنه حوالي مئتي متر من جهة الشمال القريبة من مدخل الوادي الكبير. كان الجو باردًا والمغارة مزدحمة فجلسنا في طرفها وكان علينا أن نقضي الليل هنا فلا أحد يصعد الجبل ليلاً. أحد المجاهدين عندما علم أنني عربي، غضب بشدة وقال: لماذا لا يذهب إلى مركز العرب؟ لا تقدموا له شيء بروبية واحدة.
لم يترجم لي حاجي إبراهيم ما يقوله الرجل، ولم أخبره أنني فهمت ما يعنيه، وسكت كلانا على مضض. ولكن باقي المجاهدين كانوا أكثر كرمًا فقدموا لنا الطعام والمأوى حتى الصباح.
لم تكن تلك هي المرة الأولي التي أجد فيها ناقمين على العرب من بين المجاهدين، فقد لمست تلك الظاهرة منذ عام 1986. وكان المسئول عنها هو العرب أنفسهم خاصة الشباب السلفي الوهابي من السعودية ومصر وغيرها. وكان ذلك الطابع الأغلب للشباب في الجبهات فحدثت بينهم وبين الأفغان “صدامات عقائدية” الذين لم يكونواغير شعب من “القبوريين الأحناف المشركين” في نظر هؤلاء الشباب، فهم لايرون صورة للإسلام السمح و “العقيدة الصحيحة” إلا في أنفسهم وفي الطريقة السلفية الوهابية.
نمنا في الثامنة والنصف واستيقظنا في الخامسة والنصف لصلاة الفجر. ومع الشروق بدأت الطائرات تدك بعنف. وكنا في المغارة لا ندري أين تضرب، ولكن هناك غارات فوق الجبل، وهذا لا يمكن الخطأ فيه لأننا في نفس الجبل لكن عند التحامه بالأرض من جهة الغرب.
وتواجهنا بداية جبل زمانكي الذي كان حتى العام الماضي يشكل جناحاً غربياً لمساندة تورغار حتي إقتحمه المجاهدون بالقوة. قال زملاؤنا في الغار بأن خمسة جنود وصلوا عند الفجر، ومعهم RPG ومسلحين وقد قتلوا ضابطهم وفروا إلى المجاهدين.
وقالوا بأن المجاهدين طلبوا أن ننتظر حتى تأتي البغال لتحميلها بالمواد إلى تورغار ونذهب معها. خشينا التأخير خاصة وأن موضوع البغال غير مؤكد حيث أنها لم تحضر بعد من مكان بعيد كي تمارس عملها الجديد لأول مرة. لذا فضلنا أن نتحرك مع مجموعة من الشباب الذاهبين إلى ظَهر الجبل. تحرك بنا ركب من عشرة شباب أقوياء في حركة سريعة نحو الجبل كنت مع إبراهيم قرب المقدمة وبعد دقائق صرنا في وسط الركب ثم خمس دقائق أخرى صرنا في آخر المجموعة، ثم خمس دقائق ثالثه وجدنا أنفسنا منفردين وقد اختفى الركب النشيط.
لقد اكتشف إبراهيم أنه مصاب بنزلة برد واكتشفت أن جسدي كله يؤلمني، و قدمي في حذائها الجديد الذي ضغط علي أحد أعصاب القدم اليمني صار كأنه مسمار مغروز في رأسي فكنت أعرج في المسير.
كنا حريصين على السير في المدق الظاهر لنا، وقادنا إلى ساحة واسعة كثيفة الشجر نوعًا ما وتقع أسفل القمة العليا في الجبل التي هي أقوى النقاط سابقاً عند العدو والتي إلى شرقها الدبابة الشهيرة، والتي استشهد صديقي عبد الرحمن تحتها بعدة أمتار.
إلى هنا ضاعت معالم الطريق، استطعنا أن نشاهد عدة حفر هائلة أحدثتها صواريخ سكود، وحفر كثيرة من قنابل الطائرات، وآثار حرائق في الأشجار التي تغطي سفوح الجبل والوادي البري المواجه له والذي يشبه مناطق السافانا الفقيرة في أفريقيا.ولا تنقصه إلا بعض الأسود
والنمور والبقر الوحشي. ولكن الألغام منعت كل صور الحياة في المنطقة، ويمكن ملاحظة هياكل عظمية لحيوانات إنفجرت بها ألغام هنا وهناك. إنها ساحة مخيفة للموت الرابض تحت التراب، قليلون جداً هم من يعرفون مسالكها المأمونة التي هي نادرة جداً على أية حال.
ولو كنت أعلم الغيب لعلمت أنه بعد عام تقريبًا سأقوم مع أبو الحارث وعدد من شباب معسكره بشق طريق في وسط تلك الأحراش لنربط به منطقه بوري خيل بمنطقه “دروازجي” ليصبح مرور السيارات ممكناً لأول مرة في تاريخ تلك المنطقه، وقد انعكس تأثير ذلك على مجرى المعارك النهائية لفتح خوست كما لم نكن نتصور حدوثه نحن ولا غيرنا ممن أعجبه إنجاز تلك المجازفة المُلَغَّمَة.
كنت وحاجي إبراهيم في ورطة خطيرة، وحلها الوحيد هو أن نعود أدراجنا. وحتى ذلك ليس بالحل الأمثل والطائرات تقصف كل مكان بما فيه المركز الذي جثنا منه منذ قليل، وهي إذاً لاحظت تحركنا علة المدق فسوف تقصفنا وتقصفه كما تفعل دوماً مع طرق المجاهدين. كنا نرى عدد من المجاهدين يتحركون على سفح الجبل صعوداً نحو القمة. اقترحت عليه أن ينادي عليهم كي يرشدونا إلى المدخل الصحيح للمدق الصاعد إلى الجبل، أو أن ننتظر حتى يمر بنا فوج آخر، الله أعلم متى يمر، وكيف نجلس والمنطقه على رأس مهام طائرات العدو وصواريخه؟
شاهدنا مواقع لهاونات ومدافع عديمة الارتداد وصواريخ كاتيوشا وحتى أن بعض القذائف جاهزة للاستخدام ثم تركت كما هي. يظهر أننا قريبون من موقع تم استخدمه مؤخراً لضرب العدو فوق الجبل. تقدمنا نحوه وتفحصناه ونحن نحاول إحصاء نوع وعدد الأسلحة التي كانت موجودة والأهداف التي كانت تتعامل معها.
جازفنا بالتقدم أكثر مع أخذ ما يمكن من الاحتياطات حتى عثرنا على ما يمكن تخيل أنه المدق المطلوب. واصلنا السير البطيء وبحذر شديد وما أن صعدنا قليلاً في الجبل حتى كان الطريق كله صخوراً صلدة لا تصلح إلا لنصب الألغام السلكية للإعثار. أراحنا ذلك نسبياً فالرؤية جيدة، والحاج إبراهيم نظره حاد، وإن كنت أنا لست كذلك ولكن ثقتي به كافية بما يجعلني أتبع أقدامه بإطمئنان وبعد التدقيق الممكن.
في أكثر من منطقة كان الصعود شبه رأسي بحيث يتحتم استخدام الأيدي مع الأرجل في التسلق، تقطعت أنفاسنا عدة مرات فجلسنا للاستراحة، كما اعترضتنا عدة غارات كانت تقصف الجبل سواء السفح أو القمة، فجلسنا أو تمددنا للإستراحة.
سقطت قنابل قريباً منا فأردنا الانبطاح فما كان علينا سوى أن نميل فقط عدة درجات فنلتصق تماماً بالأرض التي هي جدار صخري في الجبل القائم بتحدي. وصلنا بصعوبة إلى أعلى النتوء الأسود البارز على سطح الجبل ..أخيراً.. هذا هو تورغارالذي كنا نحلم به منذ سنوات طويلة!! كم سهرنا لأجله الليالي الطوال، ووضعنا الخطط ، وبنينا الأحلام. واستشهد عبد الرحمن وهو يسعى لتحقيق واحد من أكثر أحلامنا طموحاً.
ولكنه فُتِحَ أخيراً بدوننا، لقد افتتحه حقاني ورجاله منفردين، مع بعض العرب كأفراد عاديين في الهجوم، ولم يكن لهم دورهم الخاص أو مهامهم المحددة المنوطة بهم. كنت أشعر بالأسف لذلك، وأشعر بالتقصير أنني لم أشارك شخصيًا ولو على ذلك المستوي المحدود. لم أشارك أنا ولا أي من أصدقاء عبد الرحمن المقربين. لا شك أن كثيرًا من الإحساس بالمسئولية ينقصنا.
صعدنا إلي مسئول الموقع وهو جاكران “رائد” فهيم، وهو عسكري سابق فيه سمات الصلابة والإستقامة، ويبدو أنه من النوع الذي ينفذ بحزم الأوامر التي يتلقاها من قيادته العليا. في حديث قصير معه حول الأوضاع في الجبل ونتائج قصف الطائرات عليهم قال إنهم في وضع قوي وأن كل تلك الغارات لم تصب واحداً من رجاله بجرح، وفي ظني أنه لايمكن لمن لم يعايش الحرب الأفغانية أن يصدق هذا الكلام، فالذي يرى تلك الغارات من بُعد يستطيع أن يجزم بإطمئنان أنه لم يتبق أحياء فوق ذلك الجبل.
من الطريف أنني وحاجي أبراهيم وإخواننا في العمليات ضد المطار تعرضنا بعد ذلك لمثل ذلك الموقف في جبل قريب وكان إخواننا من عرب وأفغان يجزمون أن الطيران قد قضى علينا، وكان يصيبهم من الدهشه لبقائنا أحياء ما يصيبنا الآن أمام “جاكران فهيم” وهو يقول أنه لاخسائر لديه في الأفراد، حتى ولا جريح واحد.
التقطت بعض الصور لقائد الموقع وهو يمسك بيده جهاز اللاسلكي الصغير. وأخذت صوراً كثيرة لخوست ومناطق المجاهدين كما تظهر من فوق تورغار، وكنت في حالة من الدهشة والذهول ولا أكاد أن أصدق أنني فعلاً فوق ظهر تورغار الرهيب، أو أنه أصبح جبلاً صديقاً وليس كابوساً قاتلاً.
جلسنا مع فهيم حتى توقفت الغارات الجوية على الجبل، فلم أكن أرغب أن أكون وزميلي حاجي ابراهيم أول شهداء القصف الجوي على جبل تورغار. وأعطانا الرجل بكل ترحاب إذناً بالتجول فوق الجبل كما نشاء مع الاحتراس عند عبور مناطق إجبارية ولكنها مكشوفة للعدو في الوادي وقد سلط عليها عدد من فوهات الدبابات ونصحنا إما بالزحف أو بالعدو السريع أو كليهما.
قابلنا مجموعات المجاهدين المتناثرة هنا وهناك. وكان قريباً منا مجموعة من جماعة أبو الحارث قد تمركزت فوق النتؤ الأعلي بالقمة، كما تمركز آخرون منهم في تورغار الصغير.
من الآن فلاحقاً وحتى الفتح كان لتلك الجماعة ارتباط حميم مع ذلك الجبل وأدوا دوراً لا ينكر في المحافظة عليه وفي استخدام بعض الأسلحة من فوقه بما سبب خسائر ملموسة للعدو.
ومازال أبو الحارث حتى الآن لا يعشق مكاناً على ظهر المعمورة مثلما يخفق قلبه لهذا الجبل، ولم أر مثل تلك الحالة في حياتي أن يعشق رجلاً جبلاً ويحبه كأنهما توأمان.
ورغم أنني لحظة كتابة هذا الجزء أستطيع أن أرى تورغار من منزلي في خوست تحت هضبة متون المجيدة، إلا أنني لا أزعم أنني أحببت هذا الجبل يوماً ما، ولكنني احترمه بكل تأكيد، ولا تبارح مخيلتي صورة عبد الرحمن وهو مدرج بدمه قريباً من قمته.
ومع الدور الهام الذي قام به أبو الحارث ومجموعته فوق الجبل إلا أنه كان أقل كثيراً مما كنت أتصور . دخلت مع إبراهيم الحصن الأكبر الذي أنشأه العدو على الحافة العليا جهة الغرب، وهو عبارة عن دشمة بدائية لكنها قوية جداً، مسقوفة بجذوع أشجار ضخمة وفوقها صخور وتراب تجعلها تصد أي قذائف ثقيلة لدى المجاهدين. كان يمكن لتلك التحصينات أن تظل عقبة دائمة لولا دبابة خليل الرائعة وخليل نفسه، الذي كنا نقول عنه أنا وأبو الحارث: “لايفل الحديد إلا خليل”، وإن كان علي صعيد التعاون في عمل الجبهة كنا نعتقد أن خليل يتعمد ألا يجيب لنا طلباً، ولم نقصده مرة في مركزه “مركز خليل” لطلب شيء عندما يكون أخيه الأكبر”الشيخ حقاني”غير موجود ، إلا جابهنا بالرفض قائلاً : “نشته”. حتى أطلقنا تلك الكلمة على المركز نفسه، وذلك كان بيني وبين أبو الحارث فقط.
ورغم قوة تلك التحصينات إلا أنها غير مريحة بالمرة، وأي إنسان عادي لا يطيق الجلوس بها أكثر من دقائق . ويبدو أنه من شدة حصار المجاهدين فإن العدو اتخذ نفس التحصينات كدورات مياه لقضاء حاجة الجنود، فكانت جانبي التحصين من الداخل وهو مفتوح من طرفين عبارة عن صورة من حواري ميرانشاه حيث تراصت، بلا فواصل تقريباً أكداس الغائط المنتن، أما البول فقد جعل الأرض رطبة ذات رائحة كريهة نفاذه .وأما الذباب اللزج فقد غطى كل شيء.
لم نطق البقاء طويلاً وغادرنا المكان بسرعة. وبشكل عام فإن كل مواقع الشيوعيين سواء العسكرية أو المدنية كان ذات رائحة منتنة ومنظر قبيح يقبض الصدر، وغير صالحة للمعيشة أو الاستخدام، وكان ذلك أشد في المواقع الجبلية من خنادق وتحصينات حيث لا يمكن لأي حشرة أن تطيق البقاء فيها لدقائق. ولم يستخدم المجاهدون أيا من تحصينات العدو أو خنادقه واستحدثوا لأنفسهم ملاجئ جديدة في زوايا مختلفة.
سرنا في الخنادق الإرتباطية المواجهة للمجاهدين في الجنوب، وكنا نراقبها باهتمام في السنوات الماضية، حتى وصلنا إلى موقع الدبابة العتيدة التي استشهد عبد الرحمن أسفل منها بعدة أمتار، كان المجاهدون قد استطاعوا إتلافها قبل عملية الهجوم، ولكنهم يعملون الآن على إصلاحها.
في الخندق الإرتباطي أثناء عودتنا حبستنا عدة مرات غارات قوية بالطيران ولكن كل القنابل سقطت أمامنا أو خلفنا. ومع العمق الكبير للجبل المتعامد كان التأثير منعدماً لتلك القنابل، لكننا إضطررنا للجلوس داخل الخندق الإرتباطي الضيق ، فلاحظت على جداره في مقابلتي قطع صغيرة جداً من ثياب متفحمة وكان الجدار كله أسود فاحم، والثياب ملونة وليست عسكرية فسألت عن هويتها، فقالوا إنها بقايا مجاهد سقطت عليه في الخندق قذيفة مباشرة من قنابل الدبابات، فلم يتبقى منه شيء غير هذا الذي تراه.
من الأكيد أن ما نجلس فوقه وأمامه الآن في ذلك الخندق الضيق هي بقايا مجاهد تبخر بفعل قذيفه مباشرة. أما الذي لا أستوعبه أنها قذيفة دبابة كما يقولون فذلك غير ممكن بالنسبة لزواية رماية الدبابة والأرجح أنها قذيفة هاون، فهو الوحيد الذي يمكنه إسقاط قذيفتة بمثل تلك الزاوية الحادة، ولاشك أنه هاون ثقيل”غرناني”، الموجود بكثره عند العدو.
كان حاجي إبراهيم متعجلاً في العودة، والطائرات لا تكاد تتوقف عن القصف.التقطت أكثر من مئه صورة فوق الجبل، وفي طريق العودة ودعتنا الطائرات بمثل ما استقبلتنا من حفاوة وتكريم.
في العودة عثرنا على بعض عظام بشرية منها جمجمة اخترقتها رصاصة من الخلف، تصورت أنها عملية إعدام تمت فوق الجبل لأحد الجنود عندما حاول الفرار، ثم رموا جثته من فوق الجرف، وتولت السباع تمزيق الجثة وتوزيعها هنا وهناك. ما أتعس أن يساق إنسان تحت تهديد السلاح كي يقاتل عكس قناعاته ضد شعبه ودينه.
أحد الأماكن التي جلسنا فيها للاستراحة على المدق أثناء الصعود أصيب بقذيفة مباشرة من الطائرة. لاشك أن التوقيت شيء مهم في الحرب، لقد وصلت القذيفة إلى المكان الصحيح لكن في وقت متأخر قليلاً عن موعد تواجدنا فيه. في الطريق كان هناك فريق من المجاهدين والجنود منهمكين بهمة في إصلاح الطريق وتمهيدها لتسهيل حركة سيارات المجاهدين.
كنت معجباً دوماً بالحاسة الهندسية لحقاني، ولاشك عندي أنه لن يضيع وقتا في مد طريق إلى رأس تورغار، وأن يصبح “الطريق الدائري” حقيقة واقعة، وهو طريق تخيلت أنه يصعد من غرب تورغار ويهبط في جانبه الشرقي، رابطاً بذلك دروازجي مع بوري خيل، ورابطاً كلاهما مع تورغار فيكون الثلاثة حلقة دفاعية لايمكن للجيش الحكومي اختراقها، بل يكونون قاعدة اندفاعية لعمل هجومي كبير يحمل المجاهدين إلى هضبه متون.
تحميل مجلة الصمود عدد 179 : اضغط هنا
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )