سِفْرْ الخروج من مصر
{من يَخسَر يَرْحَل} .. هو قانون الحرب الدائرة الآن فى مصر بين النظام والشعب .
ليس الشعب وحده هو الذى يريد .. بل النظام هو الآخر يريد . فإذا كان (الشعب يريد إسقاط النظام) ، فالنظام هو الآخر (يريد رحيل الشعب) عن مصر .
– بعد مناورة “الربيع العربى” أصبح الحكم الإسرائيلى لمصر مباشراً . والشعب صار أكثر هامشية بعد ثورتين : ثورة 25 يناير التى عدَّلَت خريطة تقاسم السلطة بين “الأجهزة السيادية”. وثورة 30 يونيو التى أخرجت الشعب من الحياة السياسية نهائياً وإلى الأبد .
توصلت إسرائيل إلى العمل من خلال الجيش “الوطنى” وعصابات “الأجهزة السيادية “. ورأت حتمية إخراج شعب مصر من بلاده . عقابا له على إخراج اليهود من مصر منذ آلاف السنين، وشرطاً أساسياً لإنشاء واستمرارية الإمبرطورية اليهودية الجديدة فى بلاد العرب، أو ما أسموه “الشرق الأوسط الجديد”.
– النيل حولته إسرائيل إلى بحيرة داخل الحبشة . ما أن تمتلئ حتى يبدأ اليهود بتسويقه دوليا. أما شعب مصر فيجب عليه الرحيل . بوسائل التطفيش وإرهاب الدولة، وتضييق سبل العيش وإستنزاف القروش القليلة لديه ، مع نشر الأوبئة والجهل، والإعلام الهابط، وإنهاء التصنيع ، والإكتفاء بصناعة السطحية التفاهة، وإغتيال الزراعة والقضاء على التعليم ، وإنهاء الجيش وإهانته، كما لم يسبق أن أهين أى جيش فى التاريخ ، بأن تحَوَّل الجنود إلى باعة جائلين، وتُحَوِّل الضباط إلى “مقاتلين”على خطوط صناعة المكرونة الجنبرى.
– (معركة) إخراج المصريين من مصر ، تديرها إسرائيل بحِرَفِيَّة عالية ، حيث الخصم (الشعب) منعدم الحيلة ، مُنْتَهَك الكرامة، مُنْهَك القوى ، لا قيادة له. ليس مهماً أين سيذهب عشرات الملايين من البشر مطرودين من بلادهم ، فلن يبكى عليهم أحد لسببين أساسيين : الأول هو أن لا وزن لهم فى الإقتصاد العالمى. والثانى هو عدم قدرتهم على جعل عدوهم يتألم ويبكى . إنه شعب عاجز لا ينفع ولا يضر، فما ضرورة بقائه فى هذا العالم؟.
– خلال سبع سنوات عجاف من “حكم العسكر” لم تَكْفِ أساليب إسرئيل فى “تطفيش” الشعب إلى خارج مصر . فقررت إفتعال معركة معه، تختار هى ذريعتها وتوقيتها. فبعد حرب 1948 لطرد الفلسطينيين وإقامة إسرائيل على أرض فلسطين، تأتى حرب 2020 لطرد المصريين من مصر لإقامة إمبراطورية إسرائيل الكبرى فى بلاد العرب، طولا وعرضا.
لم يعد يكفى نشر الأوبئة، ثم تجفيف الجيوب ، فإنتقلت الحرب إلى إغلاق منافذ الأرزاق بواسطة حراب الجيش ، ليبقى الشعب بائساً جائعاً .. خائفاً يترقب.
– كان من المفروض أن يخرج الشعب إلى الميادين، لمواجهة الجيش “الوطنى” المسنود بباقى أجهزة السيادة الإسرائيلية فى مصر، المدعومة هى الأخرى بفرق من “مُسْتَعْرِبى” الموساد وعصابات “دحلان”، كقوات إحتياط متخصصة بالمجازر والذبح الهمجى للمدنيين ، وتطبيقات “فرق الموت” التى تتراكم منذ سبعينات القرن الماضى فى أمريكا الوسطى والجنوبية .. وصولا إلى أفغانستان حاليا التى شهدت تحديثاً لتلك القوات ، وتزويدها بطائرات “درون”ـ بدون طيارـ التى يُنْظَر إليها كأحدث أسلحة الإغتيال والتجسس ، وأثبتت جدارتها بما يغرى إسرائيل بإستخدامها فى مجازر للمدنين فى مصر، لدفعهم إلى الهروب من ديارهم { تكراراً لتجربة 1948 فى فلسطين} ولكن إلى أين؟ ليبيا ؟السودان؟ البحر المتوسط؟. تتساوى جميعا فى تحقيق هدف الخروج الأبدى للمصريين من مصر.
– فُجُور “النظام” تَمَثَّل فى تهديم البيوت ، ضمن الحرب على شعب فاقد القيادة والإرادة والأمل. فلم تنتظر إسرائيل إلى أن يجف مجرى النيل فى مصر ـ بعد عامين أو ثلاثة ـ فلو نشبت المعركة عنئذ لكانت دوافع الشعب للقتال عنيفة للغاية ، وإمكانية الرئيس الإسرائيلى فى القاهرة على المناورة معدومة ، ولكان عساكر الفلاحين فى الشرطة والجيش غير مضمونى الولاء.
بينما لو بدأت المعركة قبل ذلك ، لمطالب معيشية من فقر وقهر وتهديم لبيوت فقراء مصر(80% من الشعب ) على رؤوس ساكينيها .فإن مجال مناورة النظام سيكون متسعا ، ويسمح بالتراجع التكتيكى ، والرشاوى المؤقتة التى سيتعلق بها شعب عاجز ومرعوب.
– يبدو أن كل ذلك الضغط غير كاف لدفع الشعب القاعد إلى النهوض والثورة . وأن الحلقة الأخيرة فى الضغوط ستكون”التجويع” بالمعنى الحرفى للكلمة . لدفع الشعب إلى الشوارع فى ثورة جوعى، تتلازم مع فوضى شاملة من قتل وتخريب وسرقة.
حرب التجويع بدأت، بمنع الشعب من كسب أقواته ، ومصادرة موارد رزقه فى البر والبحر. لتجويعه وإستدراجه إلى ساحات الذبح الجماعى ، بواسطة قوات الرئيس الإسرائيلى لمصر، الذى سيُظهِر نفسه مدافعا عن الأمن والنظام والإستقرار والبناء والديموقراطية …. إلخ .
ضد الإرهاب والفوضى والإخوان المسلمين والمندسين وأعداء مصر .. إلخ .
ونتيجة المعركة مضمونة سلفاً.
ولكن .. هل إنتهت خيارات المصريين؟؟.. بالطبع لا .
خيار آخر : الموت .. أو الوطن .
الخيار الآخر ـ غير الإستسلام ـ هو الثورة حتى الموت أو النصر . فالإستسلام هو موت غير شريف بلا أى فرصة للفوز. والقتال هنا هو للفوز بوطن إسمه مصر.
الثورة هى رهان على الحياة مهما كانت فرص الفوز بها ضئيلة . فالموت بشرف هو فوز لا يمكن التقليل من أهميته على المدى الطويل . لأن قضايا الشعوب لا تنتهى ، بل تتوارثها الأجيال وكل جيل يخطو خطوته ويترك بصمته على المسيرة . وليس من الشرف لهذا الجيل، أن يترك بصمة ذل وخنوع لمن يلونه من أجيال .
ليس للثورة نموذح موحد، بل لكل شعب ولكل زمان، نموذج خاص . قد لا يكون واضحاً بشكل كاف عند الشروع فى الثورة ـ لهذا فإن الكبوات والإنتكاسات متلازمة مع مسيرة الثورة والطريق نحو النصر، واستكشاف الأساليب المناسبة للوصول إليه.
الثورة سلمية .. أم عنيفة ؟
هناك ثورات إلتزمت بخيار القتال من البداية إلى النهاية ، ولذلك أسباب موضوعية وليست مزاجية . فالعدو الذى لا يتحاور بغير السلاح ، وحواراته منحصرة فى فرض الإستسلام والخضوع ، فليس من خيار آخر سوى محاورته بنفس الإسلوب ، أى بالسلاح إذا كانت باقى الظروف المحيطة تسمح بذلك . مثل إستعداد الشعب وإمكانية إستخدام الأراضى المتاحة بشكل ناجح . ثم ننتقل إلى تأثير الجوار المحيط بنا ، ثم النظام العالمى وإحتمالية الفوز بأصدقاء أو بأعداء محتملين نشطين.
– الثورة السلمية أقل فى كلفتها الإجمالية. وهى تستدعى إجتماع معظم الشعب تحت قيادة موحدة وكفؤة . والثورة الإسلامية فى إيران، نموذج حديث ومتكامل لمثل تلك الثورة . ومع ذلك فلابد من إستخدام القوة المسلحة فى مرحلة من المراحل. لفرض إستسلام بعض بؤر النظام المسلحة.
– لكل منطقة تاريخها القتالى، وشخصية مميزة فى الحرب . ومعرفة ذلك تفيد فى إكتشاف أساليب خاصة للقتال فيها . مصر مثلا من أكثر شعوب العالم (سلمية) وقبولا بالإذلال كنظام حكم . ومع ذلك شهدت حروباً كثيرة ، ولكل منطقة فيها قاموسها العسكرى الخاص، فمثلا:
مدينة دمياط ، التى تعانى الآن من وقاحة الإحتلال “الوطنى الصهيونى” ، لها ملحمة خالدة فى التصدى للحملة الصليبية التى قادها لويس التاسع “1249م”، الذى هُزِم فى مدينة المنصورة واُسِر وانكسرت الحملة وإنسحبت بإذلال تاريخى. وقد إستخدم المصريون بمهارة مياه النيل وطين الأرض الزراعية، والعمليات الفدائية ، والصدامات المباشرة الصاعقة ، فى تدمير الجيش الصليبى الفرنسى.على أيدى المماليك والعرب(العربان) والمصريين أصحاب الجلاليب الزرقاء.
مدينة رشيد عند فرع النيل الآخر،تصدت بنجاح لحملة بريطانية (حملة فريزر،عام1807) فى عهد محمد على باشا. فكانت هزيمة مدوية للإنجليز فى الأزقة الضيقة الفقيرة ومن فوق أسطح بيوتها المتواضعة،على أيدى أصحاب الجلاليب الزرقاء، فتحطمت الحملة بإمكانات قليلة للغاية.
الإسكندرية واجهت إرهاصات الغزو البريطانى فى عام 1882 بحرب شعبية ضد “المستوطنين” الأوروبيين . وثار شارع “السبع بنات” (الذى إنتفض مؤخرا على تغوّل حكم العسكر)، محطماً كبرياء المستوطنين الأوروبيين. فقصف الأسطول البريطانى مدينة الإسكندرية. ثم إحتلت جيوش الإمبراطورية البريطانية البلاد المصرية بصعوبة بالغة أمام مقاومة عرابى وجيش مصر (أيام كان لمصر جيش مُجَنَد من الفلاحين المصريين فقط)، ومعه فلاحي مصر ذوى الجلاليب الزرقاء، فى كفر الدوار، والتل الكبير. وتأييد من علماء كبار أجِلَّاء من الأزهر (أيام كان فى الأزهر علماء كبار أجِلَّاء).
القاهرة شهدت ثورتين على الإحتلال الفرنسى فى بداية القرن التاسع عشر، أنطلقتا من أفقر أحياء العاصمة، على أيدى أولاد البلد والفتوات وأصحاب الجلاليب الزرقاء يدعمهم شيوخ الأزهر (أيام كان فى الأزهر شيوخاً). فاقتنع نابليون وجنرالاته بأن بقاءهم فى مصر مستحيل. وفى”ثورة” يناير 2011 على مبارك (كنز إسرائيل الإستراتيجى) برهنت القاهرة على أنها قلب مصر النابض والجامع . لولا هزيمة الثورة .. على أيدى قادة الثوار.
دلتا مصر فى ثورة 1919 المجيدة، تحررت المدينتان “زفتى” و”ميت غمر” من الإستعمار البريطانى، وأعلنتا النظام الجمهورى، بقيادات شعبية وطنية.
صعيد مصر له أمجاد عسكرية لا تحصى. وكان نجماً ساطعا فى أحداث ثورة 1919 المجيدة، وله فيها ملاحم كبرى ضد الجيش البريطانى فى البر وفوق مياه النيل . ناهيك عن تاريخ حافل من التصدى للطغاه المتجبرين فى مصر. وله تقاليد قتالية، ومناطق تقليدية للقتال معروفة ومتوارثة. ومن أطلقت عليهم سلطات المتجبرين “المطاريد”ـ فى الصعيد ـ هم بقايا أبطال مقاومة الصعيد للحملات الفرنسية والبريطانية ، وقبلها التصدى للمماليك وهمجيتهم المسلحة فى قمع ثورات العرب فى مصر(العربان) بحرقهم وصلبهم. مرة فى عهد قلاوون 689هـ ، وقبله فى عهد (عز الدين أيبك ) (عام 651 هـ ). وكادت ثورات “العربان” أن تنجح لولا سذاجة القيادة. ويمكن قول بذلك عن ثورة عرابى أيضا . ومنعاً للإحراج لا تسأل عن”ثورة” يناير وقادتها.
– أيا كان نمط الثورة الذى سيفرض نفسه فى مصر ، فإن وحدة الشعب ، ووحدة القيادة، أمران لاغنى عنهما للإنتصار فى معركة المصير ــ آخر ملاحم المصريين ــ الدائرة الآن على أرض المحروسة.. حرسها اللة وحماها .
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )