فى ذكرى الأم الكبيرة
فى ذكرى فراقها الصعب .. فى الذكرى الثلاثين لوفاتها. إلى أمى الكبيرة وأم جميع المجاهدين الذين منحتهم دعائها وبركتها . والدة المجاهد العظيم “جلال الدين حقانى” رحمه الله ، وجَدَّة القائد الكبير “سراج الدين حقانى”.
فى ذكرى الأم الكبيرة
الخط الأبيض فوق الجدار الرمادى
واحدة من أمهات أفغانستان المسلمات المجاهدات . تَخَرَّج من تحت يديها مئات الرجال المجاهدين الذين رَعَتْ أبنائهم وزوجاتهم أثناء غيابهم فى ساحات الجهاد ، أو بعد شهادتهم فى سبيل الله .
جميع أبنائها من المجاهدين العظماء .. يكفى أن أحدهم هو جلال الدين حقانى وإخوانه إسماعيل وإبراهيم وخليل . ومن أحفادها عدد لا يحصى من عظماء المجاهدين . يكفى أن أحدهم هو (سراج الدين حقانى) الذى إستلم مشعل الجهاد من يد والده العظيم، والعالم الجليل “جلال الدين حقانى” ، ليمضى بمسيرة الجهاد فى أفغانستان إلى آفاق عالية صدمت أعتى إمبراطوريات الشر. حتى صنفه الأمريكيون وحلفاؤهم الإسرائيليون بأنه أخطر شخصية جهادية فى أفغانستان فى الوقت الراهن . تماما كما كان ينظر السوفييت إلى والده رحمه الله.
الخط الأبيض فوق الجدار الرمادى :
سنبدأ حديثنا عن الأم العظيمة ـ أو الأم الكبيرة ـ التى تربى سراج الدين وإخوانه تحت يديها وبإشرافها . ومعهم مئات من أطفال المجاهدين والمهاجرين .
شهر أغسطس 1979 :
فى حى المهاجرين فى مدينة ميرانشاة الحدودية ، قابلت لأول مرة (الأم الكبيرة ) ، والدة جلال الدين حقانى فور رجوعى من مركز قيادته فى منطقة (سرانا) قرب مدينة جرديز . وبرفقتى إبن شقيقتها ، مولوى”سَرْوَرْ جان” . وفى بيتهم الصغير الضيق قليل الإضاءة رحبت بنا(الأم الكبيرة) وسألتنا بلهفة عن أخبار ابنها جلال الدين. وسَأَلَتْ عمن حوله من رجال، وكلهم إما أقارب أو من نفس القبيلة والجيران .
ثم تطرق الحديث إلى أطفال حقانى الصغار وهما(نصير الدين ، وشقيقه سراج الدين) وتكلمت الجَدَّة عن نشاطهما الجَمْ الذى يتعبها كثيرا ، خاصة إلحاحِهما عليها للإلتحاق بوالدهما فى الجهاد. فأخبَرَتْهُما أنهما مازالا صغيران ، ولابد من الإنتظار حتى يكبرا . فسألاها إلى أى حد يكبران حتى يسمح لهما بالجهاد؟ .
فأخذت حجرا من الكِلْس الأبيض ورسمت لهما خطاً على الجدار الطينى للغرفة وقالت لهما: (أن تكبرا حتى هذا الخط) . ثم تركتهما وذهبت . وبعد قليل أدركاها وهما يركضان ويقولان بحماس وأنفاس متقطعة : جدَّتى لقد كبرنا الآن ، ونريد الذهاب إلى الجهاد . ثم سحباها من يدها إلى حيث الجدار الطينى وخط التحدى المرسوم بالجير الأبيض ، ثم سحبا مقعدا ووقفا فوقه فصارا بمحازاة الخط . وقالا للجدة بلهجة الإنتصار: ها قد كبرنا دعينا إذن نذهب إلى الجهاد . من حسن حظى أننى شاهدت وقتها ذلك الخط الأبيض فوق الجدار الرمادى . وخطر لى أننى ما زلت تحت ذلك الخط بكثير .
الأربعاء ـ الأول من أغسطس 1990 :
معسكرنا الرئيسى لعمليتنا القادمة كان فى منطقة دروازجى على مسافة ليست بعيدة عن خط الدفاع الجبلى للعدو، الذى خلفه بعدة كيلومترات قليلة مطار المدينة الذى هو هدفنا القادم.
كانت أجواء معسكرنا مرحة ونشيطة فى ذلك الصباح، إلى أن ظهر فجأة الكومندان كريم في سيارته الصغيرة، ثم هبط منها وأقترب نحوى مسرعاً، ثم أخذنى من ذراعى وإنتحي بى جانباً بعيداً عن الآخرين، ثم همس فى أذنى بأنه غادر المعسكر ليلاً نحو جاور عقب سماعه نبأ وفاة إسماعيل شقيق حقاني.
كان النبأ مزعجاً للغاية فى ظروف إشتداد العمليات حالياً، مع تأثير ذلك على حقانى نفسه الذى فقد الكثيرين عن أفراد عائلته في الحرب، ولكن هذه هى المرة الأولى التي يفقد فيها أحد إخوته الثلاثه وأكبرهم سناً، وأقربهم إلى قلوب المجاهدين بعد حقانى نفسه، فقد كانت شجاعته وكفاءته العسكرية مضرب الأمثال وموضع إعتماد حقاني والمجاهدين.
كنت أعرف أن إسماعيل قد أصيب أثناء المعارك بجرح عميق في كف يده اليمنى وأنه إنتقل إلي ميرانشاه للعلاج، ولم يكن هناك ما يتوجب القلق في حالته، فالإصابة لا تعتبر خطيرة. إنصرف كريم، وكان لابد أن نذهب إلى حقانى لتقديم التعزيه له، لكن مكانه غير معلوم لدينا حالياً.
الجمعة 3 أغسطس 1990 :
فى الصباح ذهبت لتعزية الشيخ حقاني، وكان بصحبتى أبو الحارث وطلحة، وأبو شداد. سألنا عنه فدلُّونا علي مكانه فى مسجد المهاجرين. ذهبنا إليه فوجدناه يغادر المسجد فصافحناه مُعَزِّين ، فرد عليا بابتسامة رائقة ، وعيون مترقرقة بالدمع .
كان فى حالة من الحزن النبيل لم أشاهد مثلها من قبل.
صَحِبناه إلى منزله وذهبنا إلى القسم الخاص بالضيوف حيث هناك شقيقاه إبراهيم وخليل جالسان بين وفود المعزين فقدمنا لهما التعازى. ولما كانت دموع الرجال هنا محظورة ونادرة فقد كان وجهاهما جامدان، ولكن القامات التي كانت عادة ممتدة بقوه وفخر بدت محطمة .
وكأنها خرجا تواً من تحت إنقاض جبل إنهار فوقهما فطحنهما طحناً.
كان إسماعيل هو الأخ الثانى فى ترتيب إخوته الأربعة، أبيض البشرة قوى البنية، لا يكاد يخرج من المعارك، عظيم الإختلاط بعوام المجاهدين.
تعرفت عليه منذ زيارتى الأولى عام 1979، لكننى لم أعمل معه أبداً، ولم نتقابل كثيراً. وكان يقابلنى دوماً بترحاب كبير كأننا أشقاء قد فرق الزمان بينهم. وكان يفاخر بى من حوله قائلاً لهم أننى معهم فى الجهاد منذ أيام طراقى!!.
أحزان الأم الكبيرة :
علمت أن إسماعيل قد توفى نتيجة لإصابته بتسسم فى الدم “غرغرينا” وأجمع الأطباء العرب أن المسئولية فى ذلك تقع على الطبيب الأفغانى الذى عالجه فى مستشفى ميرانشاه.
فقد قام الطبيب بإخاطة الجرح رغم القاعدة المشهورة لدى الأطباء بعدم فعل ذلك فى جروح الحرب لأنه يؤدى إلى الإصابة “بالغرغرينا” وهو ما حدث مع إسماعيل.
وكان الدكتور خالد الذى يعمل فى نفس المستشفى قد حذر سابقاً عدة مرات من أن ذلك الطبيب “حمار” ولايفقه شيئا فى الطب، وتسبب فى مقتل كثيرين، مما حدا بالدكتور خالد وآخرين إلى الشك فى أن ذلك الطبيب يتعمد قتل المجاهدين وأنه مازال شيوعياً ، خاصة وأنه قد هرب منذ فترة وجيزة من العاصمة كابل.
وكان الأفغان يطلقون على هؤلاء المهاجرين إسم (صقر بيست) إشارة الى أن سبب هجرتهم هو صواريخ “صقر 20” المصرية التى إستخدمها المجاهدون فطالت عمق العاصمة كابل فأدت إلي موجة جديدة من الهجرة ولكن فى أوساط المتعاطفين مع الحكومة الشيوعية ، خوفاً على حياتهم من الصواريخ وليس بسبب إسلامهم أو إنخراطهم في الجهاد.
وللأسف فإن هذا الطبيب القتَّال أو”الحمار” كما وصفه خالد قد تمكن من قتل الكثيرين بعد أن أثار الحمية القومية فى وسط الأفغان العاملين في المستشفى وحرضهم ضد الأطباء العرب “الوهابيين”، ثم أطلق أيدى المنحرفين منهم فى سرقة الدواء وبيعه في السوق السوداء، فإكتسب منهم تأييداً وحماية أبقته بعيداً عن أى مساءلة رغم الشكاوى الكثيرة التى تقدمت بها عائلات ضحاياه.
ولكن بعد مقتل إسماعيل على يديه تدخل حقانى وطرده من المستشفى. وقد كان رحيماً جداً في هذا القرار رغم أن آخرين، وكنت أحدهم ، نادوا بمحاكمته.
لقد أصيب إسماعيل “بالغرغرينا” فى ميرانشاه، وعندما تدهورت حالته تم نقله علي وجه السرعة إلى المستشفى العسكرى فى روالبندى. وقد نقلته طائرة هيلوكبتر باكستانية إلى هناك. ولكن الوقت كان قد فات فتوقفت أحدى كليتيه عن العمل ثم لحقتها الأخرى وما لبث أن توفى، فعادت الهيلوكبتر بجسده إلي ميرانشاه كى يدفن هناك.
الغريب أن والدة إسماعيل ” الأم الكبيرة” كانت تعالج منذ فترة في نفس المسشفى من إصابة متقدمة بمرض السرطان.
لقد كانت في الواقع تموت ببطء، ولكن ثاني أبنائها وأقواهم بنية كان الأسبق منها إلى الموت على بعد خطوات منها. وقد شاهَدَتْ بنفسها لحظاته الأخيرة فى المستشفى، ثم رافقت جثته في الطائرة إلى ميرانشاه كى تشرف على غسله وتكفينه، وتتلقى العزاء فيه ثم تموت هى بعد أيام.
لقد وجدت زوجتى نفسها مره أخرى وسط دوامه الموت المذهلة. ولكن هذه المرة مع هذا التجمع الأفغانى الذي فتح لنا قلبه وبابه وشاركنا أفراحه وأتراحه وكأننا جزء عضوى متكامل معه. كان إسماعيل أحد غرف القلب الذى يضخ الحياة والحيوية فى هذا الجسد المجاهد، من رجال وأطفال ونساء. كما كان إخوانه الثلاثة الآخرون، هم باقى الغرف الأربعة لهذا القلب القوى النابض بقوة الإيمان وتدفق البطولة الفطرية التى لا تظهر صارخه إلا فى الأوقات التى يندر فيها الرجال، ثم تتوارى تواضعاً فى أوقات ترتفع فيها جميع الرؤوس بحيث يصعب تمييز معادن الرجال، فيطفوا الخبث غالب الوقت.
والأم الكبيرة ، شاء قدرها أن يكون إبنها الحبيب إسماعيل هو آخر من تشهد مصرعه من سلسلة طويلة يصعب حصرها من رجال العائلة والأقارب. تلك الأم أسطورة قد يساعد فك رموزها فى معرفة سر المعجزة التي حدثت فى أفغانستان، وقد تُقَرِّب إلي الأذهان فهم معجزة قام بها شعب يعيش في فقر مدقع وتخلف حضارى، ثم يتصدى لأكبر قوة عسكرية فى العالم فيهزمها.
ثم يتصدى للعالم كله فيما بعد ليفرض فوق أرضه إرادته ودينه، فى عالم طاغى لا يسمح بدين أو إراده مخالفة لإرادة الشيطان الدولى الأكبر.
كانت (الأم الكبيرة)صمام الأمان لهذا التجمع المهاجر، والذى يشمل اُسَرْ أبنائها وبناتها ، وأيضاً اُسَرْ الأقارب، وجميعهم في بيوت متقاربة في حى المهاجرين فى ميرانشاه.
كانت (الأم الكبيرة) هى أيضاً مسئولة”الجبهة الداخلية”فى غياب معظم الرجال معظم الوقت. وهناك رجال يتناوبون علي حراسة وخدمة الأسر والبيوت . ولكن الإشراف على النظام داخل البيوت وضبط حياة الأطفال وذهابهم إلى المسجد لحفظ القرآن، وفض المشاحنات بينهم وكذلك مشاجرات النساء التى قد تنشب أحياناً لسبب أو لآخر، ثم رعاية الحياة الخاصة للأطفال الأيتام وأمهاتهم ممن فقدن الأزواج فى ساحات الجهاد، كل ذلك جزء من واجبات الأم الكبيرة التى تمارسها بحزم ورحمة ، وعصا فى يدها تلوح بها فى وجه المخالفين والمخالفات ، ومسبحة فى اليد الأخرى تتلو عليها الأدعية والأذكار.
ليس هذا فقط ، بل أن الحملات التى قد تنطلق من أمام بيوت الحي بقيادة واحد أو أكثر من أولادها ، تشرف هى على العديد من شئونها الإدارية، وتجمع الأطفال من تحت عجلات السيارات قبل الإنطلاق. وقد تَطْرُق أحدهم بضربة عصا على الرأس أو الظهر لتذكيره بقوانين السلامة والبعد عن مواطن الخطر أثناء تحرك الموكب الذى قد يشمل عشرات المركبات التى تحمل الرجال المسلحين فى موكب مهيب متوتر بين عناق وداع وتكبيرات وأمل غامض وقلق مكتوم . فالعديد منهم قد تكون رحلته تلك هى آخر جولاته في الجهاد وفراقه الأخير للزوجة والأولاد والأهل.
كانت الأم الكبيرة الأكثر نشاطاً وحيوية بين كل هؤلاء وكأنها الروح الخفية التى تحرك وتدفع، وبقامتها النحيلة المنحنية قليلاً إلى الأمام وملامحها الطيبة الحازمة تدفع كل شئ نحو الحركة السريعة المنضبطة، ترمق أبناءها وجميع الرجال بعطف الأم الحنون وحزم المربية التى لا تسمح للضعف أن يتسرب إلى النفوس ناهيك أن تنطق به الملامح.
وكثيراً ما ودعتنى ودعت لى أيضاً عندما شاركت فى بعض تلك الحملات، وكانت تنطق أسمى مجرداً “مصطفى” مشفوعاً بكلمات كثيرة لا أفهم منها شيئاً ولكننى كنت أفرح وكأن أمى أطلت عليَّ بوجهها لتودعنى وداعاً أخيراً.
بعد ذلك كنت أتعمد مراقبتها أطول فترة ممكنة، وكانت عينى تدمع مرات كثيرة، من هيبة الوداع والرجال الذاهبين إلى الموت، والأم الصلبة التى تدفع أبناءها نحو الواجب، والرجال المتضاحكون المكبرون وقد جاشت صدورهم بإنفعالات شتى متضاربة.
كانت سيارتى هى الأخيرة في الموكب، وكنت أتعمد ذلك أحياناً حتى أشاهد الأم وأرى ماذا ستفعل بعد ذهاب الموكب بفلذات أكبادها، والرجال الذين أحبتهم وأحبوها كصانعة أبطال وأم.
مع بداية تحرك الموكب كانت ترفع كفيها المعروقتان نحو السماء وقد تعلقت مسبحتها الطويلة بكفها الأيمن وتبدأ فى دعاء طويل لا ينقطع حتى تغيب السيارة الأخيرة علي ناظريها.
ثم دمعت عيناها وطفرت منهما دمعتان ثم إستدارت نحو باب بيتها تدفع الأطفال أمامها وتغلق الباب.
كان غريباً جداً أن أراها تبكى وكأننى نسيت أنها أم ، وكأننى نسيت أننى قد بكيت أكثر منها أثناءالمشهد المهيب لتجهيز الوفد وتحركه.
كنت أتحرك بعد ذهابها نحو سيارتنا المنتظرة فى مكان بعيد، حامداً الله أنها لم ترانى متخلفاً عن الركب الذى مضى، وإلا نالتنى من عصاها ضربة على الرأس أو الظهر. وكنت أظن أن علاقتي القديمة بالأسرة والمنطقة ما كانت لتعفينى من عقوبة التقصير فى مرافقه الرجال إلى الجهاد، فالأم الكبيرة لاتحابى أحداً فى الحق مهما كان.
الأم مع جثة إبنها الشهيد :
دخلت الأم على كرسيها المتحرك إلي غرفة داخل البيت حيث كان إبنها إسماعيل يغسل ويُكَفَّن . فأشرفت بنفسها علي ذلك رغم أنها فعليا فى حاله إحتضار. وبعد أن فرغت من مهمتها أشرفت على إخراج جثه إبنها ووضعها فى غرفة واسعة حتى يراه الأقارب وأفراد الأسرة في وداع أخير.
خرج إسماعيل متكفناً بالبياض وقد كشفوا وجهه الأبيض وقد إزداد تألقاً وإشراقاً، حتى بهر أعين مودعيه وهى سمة الشهداء، و كأنهم يطمئنون من خلفهم أنهم أسعد حالاً بالشهادة والرحيل، منهم بالبقاء مع الأطفال والأهل.لقد أحاطوا وجهه بالورود والأزهار كما هى العادة. ودخل أطفاله الخمسة وزوجته لوداعه قبل أن يتوافد الرجال والنساء.
وجلست الأم الكبيرة علي كرسيها المتحرك قريباً من باب الغرفة وهى متصلبة الجسد جامدة الملامح حتى جاءت زوجتى ووقفت إلي جانبها، فنادت عليها الأم الكبيرة بدون أن تنظر نحوها( وفا..وفا) فأقتربت منها زوجتى وإحتضنتها، فمالت الأم الكبيرة برأسها على كتف زوجتى وإنتحبت بشدة .
فجاء أبناؤها ورجوها أن تسكت حتى لا يفلت زمام النساء وينطلق النواح فإستجابت لهم. وكان حقانى وإخواه إبراهيم وخليل يكافحون بشده لمنع النساء من الندب والنواح، وإستعانا بزوجتى ،كقوة طوارئ، لتهدئة النساء اللآتى يبكين حزناً أو مجاملة ومراعاة للتقاليد.
كان منظر زوجتى يثير الأسى ويدفع إلى البكاء، فالدمع يهطل من مقلتيها كأمطار الشتاء. فجروحها لم تندمل وقبر أبنها خالد يقع على بعد أمتار منها، والأحزان الجديدة من حولها أهاجت أحزاناً لم تنطفئ نيرانها بعد.
لقد طحنها الإرهاق والحزن معا حتى صارت تتحرك مثل آلة محطمة تقطع أمتارها الأخيرة نحو الإستيداع بعد رحله شاقه مهلكة. ومع ذلك نجَحَت بشكل باهر في كبح جِماح النادبات وهو أمر يستحيل حتى على مؤسسة دولية. والغريب أن يحدث ذلك وهى لا تتكلم لغتهم بل تخاطبهم بمزيج من لغات متعددة إضافة إلى أصوات إبتكرتها لتؤدى معانى مجهولة حتى لديها. ولم تستطيع هى أن تفسر لى سرّ نجاحها فى مهمتها المستحيلة، والأرجح عندى أنها بِلُغَتِها المبهمة تلك ، ودموعها المنهمرة بغزارة خارج السيطرة البشرية ، مع صوتها المنهك المتهدج قد أثارت شفقتهم، وربما خوفهم أيضاً، فشعروا أنهم أمام مأساة مجسمة أنستهم المصيبة التى جاءوا للنواح عليها، فلاذوا بالصمت الرهيب.
بعد دفن إسماعيل إستمر المأتم فى البيت عدة أيام كانت كلها طوارئ بالنسبه لزوجتى التى أدت نسبياً جزءاً من مهام (الأم الكبرة) التى أقعدها السرطان على كرسى متحرك ويكاد أن يطيح بها خارج حلبة الحياة.
ولكنها لم تكن فى صلابة (الأم الكبيرة) فسقطت مغشياً عليها فاقدة الوعي عدة ساعات، حتى ظنوا أنها على وشك الموت. وكنت وقتها فى الجبهة في إعدادنا الطويل الشاق لمشروع المطار. فطلبوا لها طبيبة من المدينة ولكنهم لم يجدوا ، فأضطروا إلى الإستعانة بطبيب عربى صديق لي ، يعمل فى مستشفي ميرانشاه. فأسعفها بالحقن والأدوية حتى أفاقت ثم نقلوها إلي منزلنا بأمر الطبيب حتى تخلد إلى الراحة التامة. ولكن ذلك لم يتحقق إذ ظلت تلازم الأم الكبيرة يومياً لمواساتها ورعايتها.
وفى صباح يوم 29 أغسطس :
جاءت سيارة من بيت حقانى، مع أحد أبنائه الصغار ليستدعى(وفا) على عجل لأن (الأم الكبيرة) تحتضر وتريد رؤيتها.
فذهبت زوجتى مسرعة إلى هناك وذهبت إلى غرفة (الأم الكبيرة) وفتحت الباب فوجدت النساء والبنات الصغيرات متحلقات حول سرير وقد تمددت فوقه (الأم الكبيرة) وهى مغطاة بملاءة بيضاء، ورأسها نحو الباب بحيث لا ترى الداخل والخارج من الغرفة، وما أن فتحت زوجتى الباب حتى نادت (الأم الكبيرة) عليها قائلة : ( وفا.. وفا).
فذهبت زوجتى إليها وإحتضنتها وقبلتها فوق جبينها وأخذت نسخة من القرآن الكريم كى تنضم إلى النساء والبنات فى تلاوة سورة(يس).
فى كل مرة كانت الأم الكبيرة تشعر بقدوم زوجتى إليها قبل أن تراها، فتنادى عليها . وكان ذلك غريباً على النساء من حولها فى بدايه الأمر، ولكنهن إعتدن على ذلك فيما بعد. لقد كان بينهما حب كبير وتعلق شديد . لقد كان الموت ينتزع من(وفا) أمها الثانية، وينتزع من (الأم الكبيرة) أحب بناتها إليها.
كانت النساء فى الغرفة تدوى بسورة “يـس” كدوى النحل، إلى أن إستأذن حقانى في الدخول لرؤية أمه، فهيأن له المكان وتسترن بملاءاتهن، فوقف إلى جانب سريرها بقامته النحيلة الفارهه ووجهه الباسم المنهك وعينه التي يلمع فيها الدمع المتجمد، وتبادل معها حديثاً خافتاً ثم ضحك عندما كلمته، ثم كلمها قليلاً ودعى لها ثم إنصرف.
لقد إخبرنى حقانى فيما بعد عن هذا الحديث الأخير بينهما، ومازال من وقتها محفوراً فى قلبى بسكين الألم، مثيراً في روحى إعجاباً ودهشة. قال لى حقانى:{ لقد وجدت أمى تبكى، فقلت لها مواسياً : يا أمى أتخافين الموت وهو علينا حق؟ تجلدى وأذكرى الله كثيراً وإستغفريه.
فردت عليه وهى تبكى:( يابنى أنا لا أبكى خوفاً من الموت فهو حق علينا، ولكننى أبكى لأننى كنت أتمنى أن أطمئن على مصير أفغانستان قبل أن أموت).
فَضَحِكْت لقولها، وقلت لها: إطمئنى يا أمى فالله لن يضيع جهادنا ودماء الشهداء، وإهتمى بنفسك الآن وأذكرى الله واستغفريه}.
لقد أدهشتنى تلك الأم وزادتنى ثقه بالنصر في معركة أفغانستان، بل ثقة في مصير الإسلام فى أفغانستان ، وأن تلك الأرض وشعبها سيظلان قلعة إسلامية فى سقف العالم إلى قيام الساعة.
فالإسلام فى مأمن فى مثل تلك الأرض التى تنبت فيها نساء من أمثال هذه (الأم الكبيرة) التى تستطيع أن تقدم للإسلام رجالاً أمثال حقانى وإسماعيل وإبراهيم وخليل ، رجالاً يَعْدِلُون العالم كله إيماناً وشجاعة وإقداماً.
هذا المزيج الرائع من البشر والإيمان والأرض يجعل أفغانستان دوماً فى ذروة الإنسانية، والمحضن الأقوى للإسلام على ظهر الأرض وفوق سقف العالم.
30 أغسطس 1990 :
مع ظلام ليلة أمس أعادوا زوجتى الى البيت كى تستريح ، ولكنهم إستدعوها مرة أخرى فى الصباح الباكر لحضور جنازة(الأم الكبيرة) التى تُوفّيت أثناء الليل.
فى بيت العائلة الكبير إستمرت ( وفا) فى أداء دورها الذى إستمر لأيام طويلة من الحزن، كقوة “إطفاء”لإخماد محاولات النواح أو الندب. ولم تواجه هذه المرة صعوبات كبيرة، فقد إنهَدَّت النساء من كثرة البكاء وعَمَّ الرجال والنساء شعور متجدد باليتم بعد فقد (الأم الكبيرة).
حتى الأطفال توقفوا عن شقاواتهم المعتادة، وقد إتسعت حدقات أعينهم البريئة وهم غير مصدقين أنهم فقدوا (الأم الكبيرة)، التى لم تكن لتسهوا عن رعايتهم حتى لو سهت الأمهات وسهي الآباء أو تشاغلوا.
حتى مواكب الحرب التى تحركت بعد ذلك من الساحة الصحراوية المواجهه لبيوت المهاجرين، إفتقدت الروح والحماس وبدت كمواكب جنائزية أو هكذا كنت أراها. وأظن أنها كانت كذلك فى أعين الرجال الآخرين بعد أن فقدوا(الأم الكبيرة) التى كان تشرف على تلك المواكب وتودعها.
وسألت نفسى هل يمكن أن تكون تلك المخلوقة الضعيفة بجسدها النحيل وأكفها المعروقة، وليس لها من سلاح سوى مسبحة طويلة فى يدها اليمنى، وعصى قصيرة فى يدها اليسرى أن تعطى الشجاعة والأمل لكل هؤلاء الرجال الأقوياء المدججين بأدوات الحرب والصراع. من أين تستمد هذه المرأة الضعيفة قوتها؟ وكيف تفيض بها على هذا الجمع الكبيرمن الرجال الأقوياء الخشنين المتلاعبين بأسلحة الموت كما تلهوا الأطفال بالدمى الخشبية؟. ولكنهم مع ذلك متعلقين بذلك المخلق الضعيف كى يمنحهم الدعاء والبركة والأمل فى النصرعلى الأعداء.
ولماذا أشعر أنا أيضاً باليتم مرة أخرى وبعد أن تعديت الخامسة والأربعين . وأرى ساحة المجد هذه ، التى إنطلقت منها عشرات الحملات المسلحة قد تحولت إلى ما يشبه المقبرة الواسعة التي تنتظر الجثث، وأن المواكب التى كانت تهز مشاعرى سابقاً أصبحت فى نظرى باردة لا معنى لها وعملاً روتينياً لا تبهجه الحياة كما لا يفجعة الموت فأصبح كلاهما سواءً بسواء.
بلغ الحزن بحقانى مبْلَغاً كبيرا بوفاة شقيقة إسماعيل . وقال لى قبل فتح خوست ، الذى كان يدخر إسماعيل لأجله ، أنه رأى فى منامه شقيقة إسماعيل مبتسما سعيدا بينما هو يبكى ويقول له : ( لماذا تركتنى الآن .. لقد كنت محتاجا إليك ).
لقد تجددت فى نفسى بوفاة إسماعيل ووالدته فى غضون أيام قليلة، أحزان لم يمض عليها سوى عامان، فمنذ عام واحد فقدتُ ثلاثة من أحب وأهم شخصيات حياتى، وهُمْ صديقى عبدالرحمن، ثم تلاه أبنى خالد، ثم لحقه الصديق والأخ عبد المنان القائد الكوتشى ، المؤنس فى الملمات الجسام.
ولكن رحمة الله تداركتنى كما تداركت حقانى وإخوته وآلاف المجاهدين ، فتتالت الإنتصارات المهمة فى هذا العام،حتى توجها فتح مدينة خوست بعد ذلك بأقل حوالي سته أشهر . ثم فتح كابل وسقوط النظام الشيوعى بعد عام و نصف.
رحم الله “الأم الكبيرة”، و حفظ ذكراها، رمزا لجذوة الإيمان والجهاد فى أفغانستان .. والتى لاتنطفئ أبدا .
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )
26-08-2020