بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
مجلة الصمود الإسلامية / السنة الرابعة عشرة – العدد ( 166 ) | ربيع الثاني 1441 هـ / ديسمبر 2019 م .
06/12/2019
جلال الدين حقانى
العالم الفقية .. والمجاهد المجدد
( 16 )
ولننظر الآن إلى بعض أسرار حملة جاور 1986 ــ والتي أرسلتها فى يونية 1986 إلى صحيفة الاتحاد الإماراتية، بعد انتهاء المعركة، وتوافر معلومات إضافية وصلت إلى الشيخ جلال الدين حقاني عبر شبكة استخباراته الخاصة من المتعاونين معه في مدن خوست و جارديز و كابول العاصمة.
رسالة أفغانستان
مصطفى حامد 10 /6/86
ـ أسرار من حملة جاور (1986) ـ
– إعدام المسئولين الأفغان المسئولين عن عملية الكوماندوز الفاشلة. * مدفعية خوست قصفت القوات الأفغانية والسوفيتية بدلاً من قصف المجاهدين. * القوات الأفغانية تسقط طائرتين سوفيتين فوق مدينة خوست. * خاض السوفييت21 يوما من المعارك العنيفة في مقابل 18 ساعة قضوها في جاور. أصبحت 8 ساعات فقط نتيجة مقاومة طالبان .
– بطولة طالبان في جاور: كمين من عشرة شباب يؤخر آلاف الجنود الشيوعيين والسوفييت لمدة عشر ساعات. فاستشهد منهم ثلاثة وجرح سبعة جروحا خطيرة.
– قائد طائرة وزير الدفاع الأفغاني حاول اللجوء بطائرته إلى باكستان. * قصة الكمين الأخير الذي دافع عن جاور وأخر القوات المهاجمة يوماً كاملاً.
من أجل الوصول إلى قاعدة جاور دفع السوفييت بقوات أفغانية مقدارها ثلاثون ألف جندي من مختلف الأسلحة البرية يساندها خبراء سوفييت في قطاع المدفعية والمعدات الإلكترونية بالإضافة إلى ستة آلاف من جنود الكوماندوز السوفييت الذين يشاركون في تدعيم المواقع الجبلية التي استولى عليها الجيش الأفغاني. وللسيطرة على موقع (جاور) عن طريق جبل مرتفع يقع إلى الشمال الغربي منها ويدعى (رغبلي). لقد تمكن المجاهدون من تطهير هذا الجبل عدة مرات ولكن الكوماندوز السوفييت مدعومين بسلاح الجو والمدفعية أعادو احتلاله وتمسكوا به.
وأدى ذلك في نهاية المعركة إلى استيلائهم على (جاور) نفسها. أما المجهود الجوي فقد بدأ يأخذ طابعاً عنيفاً منذ الثلاثين من مارس الماضي، حيث تراوحت الطائرات المغيرة على (جاور) منذ ذلك التاريخ وحتى سقوطها في19/4/86، ما بين ثمانين إلى مئة وثلاثين طلعة طيران يومياً. وقد استخدم الروس طائراتهم الحديثة التي يقودها طياروهم، فاستخدموا طائرات (توبولوف26) القاذفة الاستراتيجية التي تنطلق من قواعد على الحدود السوفييتية مع أفغانستان لكي تقذف قاعدة (جاور) التي تبلغ مساحتها واحد كيلومتر مربع فقط !!..
الطائرة المعجزة :
أما الدور البارز والمؤثر فقد كان لطائرات السوخوي الحديثة، خاصة (سوخوي-25) ، (سوخوي 27) وهي طائرات ما زال العالم يجهل الكثير عنها حتى أن صورها غير معلومة على وجه الدقة. وقد صور المجاهدون هذه الطائرات أثناء عمليات (جاور) الأخيرة وكشفوا الكثير عن أسرار هذه الطائرات من ناحية القدرات التكتيكية التي أثارت الدهشة. وقد أفاد المجاهدون الذين واجهوا هذه الطائرات بواسطة رشاشاتهم الثقيلة. والتي تعتبر عديمة الجدوى أمام هذه الطائرات ، أن الأنواع الحديثة من طائرات السوخوي يمكنها إبطاء سرعتها أثناء عملية القصف حتى تصبح مثل سرعة طائرات الهيلوكبتر وهذا يعطي الطيار فرصة التصويب الدقيق واختيار الهدف.
كما أن زاوية استدارتها قليلة جداً، بحيث يخيل إليهم أنها تنعكس على نفس الخط الذي أقدمت عليه ويمكنها القصف في طريق الذهاب والعودة.
وبعض العاملين على الرشاشات يؤكد أن بعض هذه الأنواع مصفح من الأسفل بحيث لا تخترقه طلقات الرشاشات الثقيلة حتى عيار ( 14,5 مليمتر). وكانت تلك الطائرات تهاجم مواقع المدفعية وتدمرها بدون خوف. ولكنها كانت تفر إذا استخدم المجاهدون ضدها قذائف (آر بي جي) المضاد للدبابات.
نصر أم هزيمة؟
وقد أفادت التقارير الواردة من داخل مدينة خوست أن عدد الطائرات التي أُصيبت في هذه المعركة وسقطت في وادي خوست أو عند محاولتها الهبوط في مطار المدينة وهي تشتعل قد بلغ6 طائرات هيلوكبتر و8 طائرات نفاثة، هذا بالإضافة إلى الطائرات التي أُصيبت وأُسقِطَتْ فوق جاور أو قريباً منها وبلغت3 طائرات هيلوكبتر وثلاث طائرات نفاثة.
كما أُصيبت أيضاً طائرتي نقل( أنتينوف) وهما جاثمتان على أرض المطار نتيحة لقصف مدفعي على المطار من جانب المجاهدين. وأشارت التقارير أيضاً أن القصف الصاروخي الذي صبه المجاهدون على القوات المهاجمة والمساندة لها في الوادي قد أوقع بها خسائر فادحة ما زالت لم تحصَ بشكلٍ دقيقٍ حتى الآن. وحسب تلك المصادر فإن القوات الحكومية التي دخلت (جاور) لم تستطع المكوث فيها لأكثر من ثمانية عشر ساعة فقط بعد معركة امتدّت واحد وعشرين يومًا.
ويرجع ذلك إلى قوة القصف الصاروخي للمجاهدين على القاعدة نفسها عندما دخلتها القوات الحكومية. والسبب الآخر والأهم هو خشية هذه القوات من هجوم مضاد يشنه المجاهدون فيقطعون خطوط مواصلات هذه القوة ويقضون عليها. ففضلت هذه القوات العودة على عجلٍ حتى أنها لم تُحكم تلغيم القاعدة. وتركت الألغام والمتفجرات وانسحبت على عجل. هذا وقد كشفت بعض أسرار عملية الكوماندوز الفاشلة والتي راح ضحيتها أكثر من خمسمائة جندي كوماندوز حكومي بين قتيل وأسير وحاول السوفييت بهذه العملية الاستيلاء على جاور بضربة مفاجئة من الخلف والجوانب.
ولكن كمائن المجاهدين كانت جاهزة في الأماكن المتوقع هبوط هذه القوات بها بناءً على معلومات تسربت إليهم عن العملية. وقد أفادت التقارير التي جمعها المجاهدون من داخل مدينة خوست نفسها بأن الضبّاط المسئولين عن هذه العملية بما فيهم طيارين، قد تسرّبوا إلى المناطق المرشحة للإنزال حول قاعدة جاور وعاينوها بأنفسهم بالاستعانة ببعض الجواسيس وذلك قبل تنفيذ العملية.
ولكن التصدي المبكر للمجاهدين أجهض العملية وحولها إلى كارثة كانت الأكبر من نوعها لسلاح الكوماندوز الذي ظل متمتعا بسمعة عسكرية جيدة بالنسبة لباقي قطاعات الجيش الأفغاني من ناحية الكفاءة والفعالية. وقد تعرضت قوة الكوماندوز إلى كارثة تاريخية في حرب أفغانستان ومن بين عشر طائرات هيلوكبتر شاركت في نقل هذه القوات دمر المجاهدون ست طائرات، ثلاثة منها في مواضع الهبوط وثلاثة أخرى تحطمت قبل وصولها إلى خوست. أما أفراد القوة فلم ينج منهم أحد من القتل أو الأسر. وعلى أثر هذه الكارثة ألقي القبض على الضباط الذين استطلعوا الموقع قبلاً وتم توجيه الاتهام إليهم بالتخابر مع المجاهدين وتم تكبييلهم بالقيود الحديدية وعصب أعينهم وأرسلوا إلى كابول للمحاكمة. وأعدم بعضهم رميًا بالرصاص أمام الجنود في خوست. وهناك عدة اتهامات أخرى بالخيانة وجهت لعدد من الضباط الأفغان وتم إعدام بعضهم في حوادث متفرقة.
الطوبجي الأعمى
إحدى هذا الحوادث كان في سلاح المدفعية. فقد تم تشكيل قوة أفغانية سوفيتية للتقدم نحو جاور من جناحها الشرقي وأثناء التقدم طلبوا من المدفعية تسليط نيرانها على أحد المواقع التي يكمن فيها المجاهدون ولكن المدفعية سلطت نيرانها على القوة المتقدمة وأوقعت بها خسائر فادحة.
وادعى ضباط المدفعية أنهم قصفوا المواضع التي حددتها القوة المتقدمة نحو جاور. ولكن هذا لم يعفيهم من الاتهام بالخيانة وإرسالهم إلى كابول بنفس الطريقة السابقة.
مفاجئة ليلية
في تلك الأيام المرهقة لمعارك جاور كانت الطائرات السوفيتية تقصف قاعدة جاور وما حولها ليلاً ونهاراً وكان إلقاء المشاعل ليلاً وقصف الطائرات قد تحول إلى مشهد روتيني. وفي إحدى الليالي فتحت المدفعية المضادة للطائرات في مدينة خوست نيرانها على الطائرات الموجودة في سماء المنطقة. وأصابت طائرتين سقطتا على أطراف الوادي. وبعد التحقيق تبين أن العيار الذى أصيبت به الطائرات ليس له نظير لدى المجاهدين.
وتبع ذلك إلقاء القبض على ضباط من سلاح المدفعية المضادة للطائرات وإعدامهم في محاكمات عسكرية تمت في خوست أيضاً.
طيار الجنرال
من أبرز الحوادث التي تمت في صفوف ضباط الجيش والتي أوضحت روح التمرد في الجيش على الأوضاع القائمة هو ما حدث مع وزير الدفاع الأفغاني الجنرال (نظرمحمد) الذي جاء إلى خوست في طائرة هيلوكبتر خاصة لكي يشرف على سير العمليات ضد (جاور).
ولكن الطيار الخاص لوزير الدفاع تمكن من الإقلاع من مطار خوست متوجهاً صوب الحدود الباكستانية في محاولة للفرار. ولكن دوريات سلاح الجو التي كانت في سماء المعركة لاحقت الهيلوكبتر الهاربة واشترك في المطاردة عدد من الطائرات النفاثة وطائرات الهيلوكبتر. فاضطر الطيار الفار من الهبوط في مكان قريب من الحدود الباكستانية وحاول الفرار سيراً على الأقدام. ولكن طائرات الهيلوكبتر حاصرته وألقي القبض عليه، وتمت محاكمته في خوست أمام محكمة ميدانية وأعدم رمياً بالرصاص أمام الجنود.
بطولة طالبان في جاور:
عشرة من طلاب المدارس الدينية من المجاهدين في قاعدة (جاور) رفضوا الانسحاب من القاعدة بعد أن طوقتها القوات الحكومية وبدأت في التقدم بحذر نحوها. كانت المجموعة في شكل كمين بالأسلحة الخفيفة وقاذف (آربي جي) واحد مع عشرة قذائف. وتمكن هؤلاء العشرة من فوق كمينهم الجبلي من تأخير القوات الكثيفة التي تقدمت نحو القاعدة مدة يوم كامل.
وتم توجيه جميع الأسلحة من مدفعية وطيران على أفراد هذا الكمين حتى أصيب سبعة منهم بجروح خطيرة واستشهد منهم ثلاثة. وفي الليل تمكن المجروحون من الانسحاب بكامل أسلحتهم عبر الجبال حتى وصلوا إلى الحدود الباكستانية، وعند موقف سيارات الأجرة سقط المجاهدون السبعة فاقدي الحركة. وتجمع الناس وحملوهم إلى مستشفى مدينة ميرانشاه الحدودية، وما زال الصامدون السبع تحت العلاج وفي (صحة معنوية) عالية ** طلاب المدارس الدينية ( أو طالبان ) بهذا الكمين البسيط في أحد مضائق الطريق إلى جاور وقريبا منها، تمكنوا إذا من تخفيض مدة بقاء القوات الشيوعية بالقاعدة الى أقل من عشرة ساعات.على اعتبار أن جاور انسحب منها المجاهدون لمدة 18 ساعة فقط ، استهلك منها هذا الكمين عشر ساعات على الأقل.
المخاطر قائمة :
قاعدة جاور التي أقامها مجاهدي باكتيا بقيادة حقاني تتحكم في طرق إمداد المجاهدين في سبعة عشر ولاية أفغانية, وقد فقد حقاني, الذي جرح في قاعدة جاور أثناء هذه المعركة, ثلاثة وتسعون شهيداً من رجاله بالإضافة إلى مئتين وثمانية من الجرحى. أما باقي الجماعات التي تدافعت للمساعدة في الدفاع عن القاعدة وحماية تلك المنطقة الاستراتيجية فقد استشهد منهم ما يقارب الأربعون رجلاً. ورغم هدوء المعارك حالياً فإن جميع الاحتمالات ما زالت قائمة. (أ.هـ)
قوات غير عادية :
10 مايو 86 ـ ميرانشاه ـ
في حديثی معه قدر حقاني عدد القوات التي شاركت في الحملة بحوالي 50 ألف جندي. وهي حسب ما أفاد به الأسرى ورسائل المتعاونين في خوست وكابول، كالتالي:
– الفرق العسكرية رقم 7، 8، 12، إلى جانب الفرقة 25 المتمركزة بشكل دائم في خوست، إضافة إلى اللواء الحدودي التاسع.
– قطعات من الفرق رقم 14، 20، 9، مع جزء من قوة حماية كابول.
– لواء الكوماندوز رقم 37، ولواء الكوماندوز 38.
– لواء من القوات الروسية الخاصة.
– كتيبة ميكانيكية من القوات الروسية.
– 250 طائرة ما بين قاذفة ومقاتلة وهيلوكبتر وطائرات نقل عسكرية.
– شاركت القاذفات الاستراتيجية التي تحركت من داخل الأراضي الروسية مباشرة لقصف قاعدة جاورـ كما فعلت ذلك مرات عدة في معارك مختلفة في بانشير وغيرها وهي طائرات (توبلوف 16-22-26). قال حقاني: إن السوفييت استخدموا في تلك المعركة أربعة أنواع من الطائرات سوخوي، وخمسة أنواع من طائرات ميج المقاتلة. أما محمد يوسف في كتابه فخ الدب فقال عن القوات الشيوعية التي شاركت في المعركة بأنها إلى جانب قوات خوست الأساسية (فرقة 25 واللواء الحدودي)، فقد حشد السوفييت ما يلي:
الفرقة 7، الفرقة 8 من كابول – الفرقة 12 من جارديز – الفرقة 14 من غزني – ونقلت ثلاث كتائب ( 1500رجل) ليكونوا رأس حربة للتقدم في الجبال (كانوا من القوات الخاصة لكنه نسي أن يذكر ذلك) وعلق يوسف قائلاً: كان سيصاحب العملية المظلة الجوية المعتادة وإسناد المدفعية والصواريخ مع عشرات من طائرات الهيلوكبتر المقاتلة والناقلة للجنود.
إن استطاعة الجيش الأفغاني أن يشن مثل هذه العملية دليل قاطع على استعادته لقدرته العسكرية. فقيامهم بمثل هذه العملية قبل ثلاث سنوات فقط كان أمراً غير وارد، وقال يوسف أيضاً( إن أعظم انتصار حققوه أثناء هذه المعارك )يقصد المجاهدين. كان هو القضاء الكامل على كتيبتين من اللواء 37 قوات خاصة. هذا وقد قدر يوسف القوات الشيوعية بحوالي 30 ألف شخص . ( انتهى )
– استغرق تطهير جاور من الألغام عدة أيام.. واستطاع العدوّ أن يدمر مغارتين. أما تفجير باقي المغارات فلم يؤدِ إلا إلى توسعتها ، فقد انهار جزء من السقف والأجناب فتوسعت المغارات بدلاً من أن تهدم. أما المسجد الجديد المحفور في نفس الهضبة فلم يمسه أحد بسوء.
وقد أعجبني منهم هذا التصرف، لكونه ينم عن ذكاء سياسي. فالجنود الأفغان لن يعجبهم تدمير المسجد وقد يدفعهم الغضب إلى الفرار خاصة والحدود قريبة جداً، وكذلك قبائل المنطقة سوف يتأجج عداؤها أكثر إذا سمعت بذلك. في أثناء فترة العمليات أفاد الأسرى من الضباط أن الشائع لديهم هو أن القوات السوفييتية والحكومية سوف تهاجم منطقة (زدران) بعد الانتهاء من جاور بهدف فتح الاتصال البري بين خوست وجرديز عبر أقصر وأفضل طريق بري بينهما وهو الطريق المار بمنطقة قبيلة زدران.
وبدلاً عن ذلك فإن القوات الشيوعية بعد انسحابها من جاور بدأت تعود إلى كابول والسبب هو شدة الخسائر التي منيت بها بشكلٍ لم تكن تتوقعه. وقال لي حقاني وقتها أنه غير متأكد من النوايا الحقيقية للعدو، ويخشى أن يكون ذهابهم إلى كابول هو للخداع حتى يتراخى المجاهدون ويتمكن العدو من شن هجوم مفاجيء على زدران.
الدفاع الثابت.. والدفاع المتحرك
وقتها اقترحت على حقاني أن يضع خطة للدفاع عن الطريق( بين خوست وجرديز) ثم يختار مواقع متحكمة على الطريق من بين الجبال المشرفة عليه، نتعاون معه في تجهيزها هندسياً بحيث نعد مواقع قوية ومحمية للأسلحة التي سوف تستخدم. مع حفر مواضع مبيت للأطقم البشرية وحفر مخازن كافية وفي مواضع مناسبة. وافق حقاني على الفكرة واستحسنها وقال بأن ذلك يستدعي معدات تعمل بضغط الهواء حتى يمكن استخدام المتفجرات أثناء حفر الأماكن المطلوبة. فقلت له إنني سأحاول شراءها بمساعدة الدكتور عبدالله عزام. وبالفعل كتبت له رسالة شارحاً له الموقف وضرورة أن نعمل بسرعة في تجهيز دفاعات الطريق قبل أن تدهمنا الأحداث. ولكنه تجاهل الأمر فقد كانت علاقتي به قد وصلت إلى أدنى مستوى لها بعد كتاباتي في “الاتحاد” بطريقة أغضبت سياف كثيراً.. وبالتالي الإخوان المسلمين والدوائر السعودية في بشاور وهي عناصر لصيقة ومؤثرة على أفكار الشيخ عزام ومشاريعه.
بالطبع لم تسمح الإمكانات المالية لإخواننا في الإمارات أن تغطي مثل هذا المشروع. وأستطيع الآن القول بأن ذلك المشروع لو نُفِذ لربما تغير تاريخ الحرب في أفغانستان. الذي تغير فعلاً في تلك المناطق ومعاركها الدامية. لذلك كنت كثيراً ما أفكر فى مجهودات أبوعبدالله (أسامة بن لادن) لو أنها توجهت في مكانها الصحيح، ومنها ذلك الطريق لكانت أجدى بمراحل كثيرة من تسخيرها لإقامة فنادق جبلية للزعيم الوهمي سياف. وحتى أن تلك الإنشاءات نفسها أدت لنشوب معركة العرب في جاجي عام (1987) لا لشيء إلا للدفاع عن تلك المنشآت التي أصبحت مستهدفة من العدو. .. الخنادق ومواضع الرماية والمخازن المقترحة لم تكن تعني مشروعاً للدفاع الثابت عن الطريق. ولكن تعني تحصين النقاط المتحكمة حتى يتمكن المجاهدون العمل منها لمدة طويلة في مواجهة نيران العدو( وتثبيت قوات العدو المتقدمة) ولكن الكمائن المتحركة لها دور أساسي في (إبادة قوات العدو التى عرقلتها كمائننا المحصنة)، وذلك طبقا للخطة العامة للدفاع .
ولكن حتى تلك الكمائن لابد من تجهيزها بمراكز خلفية قوية ومجهزة بالعتاد والطعام في مخازن على مسافات مناسبه من الخطوط الأولى للقتال. ولعلنا تعلمنا من معركة جاور أهمية الكمائن المتحركة.. فهناك الكمين الشهير ضد طائرات الهيلوكبتر التي كانت تنقل جنود الكوماندوز، ثم أخيراً كان هناك كمين طلاب العلم العشرة الذين حشروا القوة في الوديان الضيقة المؤدية لجاور لمدة يوم كامل. وكانت فترة كافية لشن هجوم معاكس ضد تلك القوات في وضعها البائس هذا وربما كانت تحطمت القوة وفشلت في الوصول إلى جاور. ولكن ذلك لم يحدث.. وبكل أسف. وطريق (جرديز/خوست) المار بأراضي قبيلة زدران هو طريق مثالي للكمائن على طول تسعين كيلومترتقريباً.. وقد تأملته عدة مرات جيئة وذهاباً وكنت واثقاً أن هذا الطريق يستعصي على أي جيش أن يعبره بغير (مؤامرة) أو صفقة مع تلك القبائل أو مجموعات المجاهدين العاملة قريباً منه. وهذا ما حدث فعلاً. كما كنت واثقاً أيضاً بأن مئة من الرجال ذوى التصميم تساندهم بعض التجهيزات الهندسية الجيدة يمكنهم تحطيم أعتى الجيوش ومنعها من استخدام هذا الطريق.
– تناولنا في مكان سابق الأهداف السياسية التي تسعى إليها موسكو من تلك الحملات العنيفة والمكلفة، رغم أنها قررت الانسحاب من أفغانستان وأبلغ السوفييت الولايات المتحدة بذلك العزم وكانت مرحلة جديدة من العلاقات بين الدولتين قد بدأت بوصول جورباتشوف إلى رئاسة الكرملين.
مرحلة يتأخر فيها السوفييت عدة خطوات إلى الخلف لصالح منافسهم الأمريكي. يتبقى السؤال. كم خطوة إلى الخلف؟.. وهنا نقطة الصراع بينهما.. صراع معلن أو خفي .. اقتصادي أو عسكري.. سياسي أو نفسي. ولكنه في كل الأحوال ومهما كانت صورته فهو صراع على أراضي الغير وفي سبيل السيطرة على هؤلاء الأغيار وكانت أفغانستان في مقدمة ذلك الصراع وفوق قمته. كانت الدماء تسيل أنهاراً فوق جبال أفغانستان من أجل التوصل إلى تحديد دقيق لنسبة توزيع النفوذ بين السوفييت وأمريكا في تلك البلاد.. بل في العالم أجمع ضمن مرحلة جديدة من توازن القوى. .. ولما كان سفك دماء المسلمين مطلوباً في حد ذاته، من كلاهما، فقد عمل كل منهما بطريقته الخاصة على زيادة كثافة هذا النزيف وتوسيع الجرح الدافق بالدم.
المفاوضات : سرية .. وعلنية .
بدأ الروس بعد معركة (جاور) إسراع الخطى نحو الخروج من أفغانستان ونشطت مباحثات جنيف. وإن كانت هناك مفاوضات أخرى سرية لم تتم إليها الإشارة إلا بعد ذلك بسنوات، وبدون كشف تفاصيل كثيرة، وهي نشاطات (يهودية) ووساطات بين الأطراف المعنية قام بها ( الملياردير) اليهودي (هامر) الأمريكي الجنسية والمقرب كثيراً للنظام الشيوعي في موسكو منذ عهد ستالين. وكما شاهدنا في أزمات دولية كثيرة فإن القاعدة العامة هي أن هناك نوعين من التفاوض حول الأزمات، أحدهما رسمي وعلني وربما في إطار المنظمات الدولية وهو عديم القيمة تقريباً. وفي الظلام تدور مفاوضات أخرى هي المفاوضات الحقيقية ومنها تخرج القرارات بالسلم أو بالحرب.وهذا النظام المزدوج في العمل السياسي شاهدنا بعض أمثلته في المنطقة العربية. على شكل اتصالات علنية بطيئة وشكلية بين العرب وإسرائيل من خلال الأمم المتحدة وواسطتها. بينما هناك اتصالات حقيقية في الظلام تخرج لنا منها فجأة وبدون سابق إنذار اتفاقات تأخذ طريقها إلى النتفيذ بسرعة البرق..
كانت مفاوضات جنيف على الأبواب في (5/5/86) ، أي الشهر التالي لمعركة (جاور) التي انتهت في (22/4/86) كان من المفروض أن تؤدي تلك الحملة إلي تحسن كبير في الموقف التفاوضي للسوفييت. ولا أظنهم قد حصلوا على ما يريدون. لقد أظهروا في تلك الحملة أن لديهم قدراً هائلاً من قوة النيران والأسلحة الفتاكة ولكنهم في الوقت نفسه أظهروا فعالية أقل وعدم قدرة على كسب المعارك. فهم قد دفعوا ثمناً باهظاً جداً لاحتلال هدف صغير جداً وفوق ذلك لم يستطيعوا الحفاظ عليه حتى تحين لحظة التفاوض التي كانت قريبة جداً. إذن لتفاوضوا وقتها من موضع قوة بينما فوهات دباباتهم تطل على أرض باكستان.
دولة للجواسيس:
بعد الحملة مباشرة بدأ الروس في ترتيب (البيت من الداخل) في أفغانستان وتنظيم أوراقهم الأفغانية. فعزلوا الرئيس الأفغاني (بابراك كارمل) الذي لم يكن مقبولاً خارج البلاد, ناهيك عن داخلها، لكونه دخل العاصمة كابول على ظهر الدبابات السوفيتية. ثم وضعوا مكانه ( نجيب الله) مدير جهاز الأمن (خاد)، وفي ذلك إشارة كافية على العهد القادم في أفغانستان كما يريده السوفييت.
كما يعتبر أيضا تهدئة لخواطر قبائل (البشتون) الذين يمثلون أغلبية السكان والحكام التقليديون للبلاد. ثم عمل السوفييت على توحيد الحزبين الشيوعيين خلق وبارشام في حزب واحد أسموه (حزب الوطن). وحاولوا توسيع قاعدة الحكم وضم شخصيات مستقلة ومحايدة، وإن كانت هامشية.رؤيتي للموقف السياسي آنذاك كتبته في تقرير نشرته صحيفة الاتحاد تحت عنوان (دولة للجواسيس)..
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )