تنظيم القاعدة .. لا مرحباً بكم فى أفغانستان (2)
القاعدة عدو عاقل أم صديق مجنون؟
تنظيم القاعدة .. لا مرحباً بكم فى أفغانستان
(2)
1- جاء تركى الفيصل إلى قندهار لإعتقال بن لادن ، فسأله الملا عمر : هل أنت ديوث ؟؟.
2- فى قندهار أيضا ، بن لادن يهدد الملا عمر : سأخاصمك أمام القضاء !!!! .
{{ كان من المفترض أن نسير حسب التسلسل التاريخى فى إستعراض العلاقة بين القاعدة والإمارة الإسلامية . لولا أحد كبار مسئولى النظام السعودى السابقين قد تناول مؤخرا هذا الموقف التاريخى (بين الملا محمد عمر وبين مدير المخابرات السعودية السابق) من وجهة نظره وبشكل غير دقيق . فكان لزاما أن نتجاوز عن السياق التاريخى مؤقتا، حتى لاتفوتنا المشاركة فى إستذكار أحداث تلك الفترة الحاسمة من تاريخ أفغانستان والقاعدة. }}.
شهر يوليو من ذلك العام( 1998م) كان ساخناً على غير العادة، و صحراء قندهار كأنها تحترق. فيخرج البخار من الرمال جاعلاً الرؤية متموجة، فيلمع السراب على حوافها.. راسماً ظلاً مائياً لا وجود له.
قرية “عرب خيل” فى الصحراء هامدة مهدودة داخل سورها الطيني الكبير.
أكثر بيوتها مازالت خالية مهدمة من آثار الحرب السوفيتية .. و الأسر القليلة بداخلها أصلحت ما يمكن إصلاحه واستقرت داخل البيوت الأسمنيتيه ذات الطراز السوفيتي الكئيب. فى النهار يصبح داخل البيت كأنه جوف تنور مشتعل .
لا أحد قادر على النوم.. أو الحركة.. والأطفال يبكون.. أو ينامون فى شبه إغماء، وبعضهم كان يصاب بالأنهيار من شدة الحرارة ( أقام الكاتب مع أسرته فى تلك القرية منذ أول إنشائها وغادرها في ديسمبر 1997م تارکاٌ فيها حفنة من الأحفاد ، أی الجيل الثالث من المطاريد ) .
كان بالقرية مئة إنسان.. رجل وإمراة وطفل.. هم كل جيش “أسامة بن لادن” الذى رسم له الإعلام الأمريكى صورة المارد الجبار صاحب الجيش الجرار.. مئة إنسان بالتمام والكمال هم كل تنظيم القاعدة المهول مع كامل أطفالهم ونسائهم، كانوا غافلين فى ذلك النهار.. ولكن هناك من لا يغفل عنهم .
كان الله الذى يرعى الجميع برحمته..وكانت أمريكا التى تحمل كل الشر لجميع البشر، خاصة عرب أفغانستان، ورمزهم ذائع الصيت أسامة بن لادن الذى إحتل مكان الإتحاد السوفيتى الرهيب، كقرين مصارع للغرب وحضارته.. وقيادته الأمريكية.
إذا تململ أبليس ضجت الشياطين فى خدمته.. وإذا غضبت أمريكا على مسلم كانت السعودية أول الأيدى الممتدة للبطش به.
فى ذلك الجو القائظ هبطت طائرة سعودية ضخمة من طراز بوينج، وعلى متنها مدير الإستخبارات السعودية (تركى الفيصل) وحرسه الخاص، ومعه السفير السعودى لدى أفغانستان ( محمد العمرى ) والمقيم فى إسلام آباد لأسباب أمنية مفهومة.
كان الأمير السعودى يهدف من زيارته إلى شئ واحد لاغير: (إعتقال) بن لادن ومن معه وإصطحابهم على نفس الطائرة إلى المملكة السعودية!!.
(حجم الطائرة كان يدل على معرفة السلطات السعودية بالعدد الحقيقى لتنظيم القاعدة ، أى تعداد سكان قريه عرب خيل).
(تركى) كان عصبياً ومتعجلاً، وظن أنه قادر فى دقائق على إنهاء المشكلة وإستلام “البضاعة”. فبدأ بالإستكبار السعودى المعتاد خاصة إذا تعاملوا مع خدمهم الأسيويين.
إنتهت مراسم الترحيب الإبتدائية وتراص الوفد السعودى فى مقابل مسئولى الإمارة يتوسطهم “أمير المؤمنين”. وامتدت سفرة بلاستيكية بين الجانبين وقد تراصت عليها أطباق العنب وأكواب الشاى، ثم دخل (تركى) مباشرة إلى صلب الموضوع وطالب “الملا محمد عمر” أن يسلمه بن لادن ومن معه طبقاً للوعد السابق بينهما!!.
وفى الوقع لم يكن هناك وعد من أى نوع، ولكن كان هناك إقتراحا من جانب الإمارة بإحالة موضوع بن لادن إلى لجنه من العلماء ينتمون إلى عدة دول إسلامية ثم تقوم اللجنة بتقرير ما ينبغى عمله إزاء تلك القضية طبقاً للشرع الإسلامى.
أعاد الملا عمر على أسماع الأمير السعودى ما تم الإتفاق عليه فعلاً.. ولكن السفير تدخل لصالح ولى نعمته مؤيداً أكذوبة الوعد بالتسليم .
فالتفت “الملا عمر” إلى تركى الفيصل قائلاً: ألم أطلب منك ألا تحضر معك هذا الخبيث إلى أفغانستان!!.
(وكان الملا ونتيجة دبلوماسية الوقاحة التى يتبعها معه السفير السعودى قد أمر بطرده وعدم السماح له بدخول أفغانستان مرة أخرى . وطلب من تركى الفيصل ألا يصطحبه إلى قندهار).
تجاهل تركى الفيصل وضعيه الملا عمر كحاكم للبلاد (تماماً كما تجاهلها مواطنه بن لادن) واستمر تركى فى الإلحاح والصراخ طالباً التعجيل بتسليم بن لادن مدعياً ألا وقت لديه لهذه المماحكات. { وفى الحقيقة أنه لم يكن يمتلك وقتاً كثيراً لأن الأمير عبد الله، ولى العهد كان فى المغرب منتظراً نتائج رحلة تركى الفيصل إلى قندهار وكان متأكداً أنه سيظفر بما يريد ويُحْضِر بن لادن مكبلاً ومعه عصابته من سكان عرب خيل ( وذلك حسب معلومات وصلت إلى بن لادن فيما بعد ).
وكان ولي العهد عبدالله متوجهاً بعدها إلى واشنطن آملاً أن يقدم رأس بن لادن هدية للرئيس كلينتون كعربون إخلاص يؤهله ليصبح ملكاً على السعودية بديلاً عن أخيه فهد الذى فقد الوعى ويستخدمه أشقاؤه كمجرد ستار لهم كملوك فعليين للملكة الزاحفة بشيخوختها نحو السقوط .
شعر تركى الفيصل أن الأمر لا يسير بالسرعة المطلوبة وأن الملا عمر يتصرف كأمير حقيقى للبلاد، ويصر على أنه لم يَعِدْ بشئ ، وليس فى نيته تسليم بن لادن بالشكل الذى يطالب به مديرالإستخبارات.
نفذ صبر تركى الفيصل ، وضرب سفره الطعام التى أمامه بقبضة يده صائحاً بغضب أنه لابد أن يتسلم بن لادن الآن ، متهماً “أمير المؤمنين” بالكذب والمراوغة !! .
تكهرب الجو وتناثر الطعام على ملابس الحاضرين، وأوشك الحراس الأفغان أن ينقضوا على المتعجرف السعودى وتلقينه درساً على الطريقة القندهارية . لكن الملا عمر أشار لهم بأن يتوقفوا..وإنسحب هو من الجلسة مسرعاً وذهب للوضوء حتى يطفئ نيران غضبه.. ثم عاد عندما إستعاد هدوئه. ليكرر موقفه ، ويطرح تساؤلات نابعة من الفطرة الصافية لمجاهد من قندهار. قال الملا متسائلاً :
– لماذا لم تعودوا رجالاً مثل أجدادكم الذين حملوا إلينا الإسلام ؟.
– لماذا تُسَلِم بن لادن لأمريكا؟؟ هل أنت وزير سعودى أم وزير أمريكى؟؟.
– لماذا تُسَلِم مسلماً لكافر؟؟..هل أنت ” بي غَيْرَتْ” ؟؟ -( و تعنى ديوث باللغة الأفغانية ).
لم يكن مجدياً الإستمرار طويلاً فى مثل ذلك الحوار العقيم وقد تمسك كل طرف بمواقفه، فانصرف الأمير السعودى غاضباً.وعاد بطائرته البوينج فارغة وقد أفلت منه الصيد الثمين. كما أفلتت من ولى العهد الأمين فرصة تقديم رأس بن لادن على طبق من ذهب, هدية لبغايا بنى إسرائيل فى البيت الأبيض.
{ كان الرئيس “بيل كلنتون”داعراً من الطراز الأول . وله العديد من الفضائح الأخلاقية إرتكبها حتي داخل مكتبه في البيت الأبيض مع نساء يهوديات . وقد إفتضح أمره في بعضها، وتسترت أجهزة حكمه علي أكثرها } .
بن لادن يهدد الملا عمر بالمحاكمة أمام القضاء !!.
بعد أيام من لقائه المتفجر مع تركى الفيصل ، كان الملا عمر على موعد مع صدمة أخرى مع ضيفه السعودى فى “عرب خيل” ، الذى كان في قرارة نفسه لا يشعر بأهلية “أمير المؤمنين” لأن يكون أميراً عليه، أو لأن يضع سياسات الدولة أو أن يدرك .. مجرد إدراك مصالح المسلمين .
السعودية التى تعتبر أهم الدول التى إعترفت بنظام حكم طالبان أصبحت/ بعد تلك الزيارة/ تتوعد ليس فقط بسحب الإعتراف ولكن بطرد جميع الأفغان من أراضيها ، وبعدم الإعتراف بجواز السفر الصادر من سلطات طالبان . وبمعنى آخر فالإمارة الإسلامية لن تستطيع مساعدة رعاياها فى إداء فريضة الحج. وهذه مشكلة دينية للإمارة الإسلامية وليست فقط مشكلة سياسية. وقد يتحول الأمر إلى أزمة داخلية مستعصية تجعل مصداقية الإمارة أمام القبائل فى مهب الريح. فقد لايقتنع الكثير من رجال القبائل أن حماية بن لادن تستحق التوقف عن أداء الحج الذى هو أحد الأركان الإسلام الخمسة.
قد تصل المسألة إلى أن تضع السعودية قبائل الأفغان أمام خيار من إثنين: أما إن ترغموا حكومة الملا عمر على تسليم بن لادن، أو أن تتوقفوا عن أداء فريضة الحج “عندنا” فى “كعبتنا” !!.
الملا عمر بنفسه مقتنع بضرورة إخراج القوات الأمريكية من جزيرة العرب، ولكنه متأكد أنه لن يستطيع أن يفعل ذلك بالنيابة عن الشعب السعودى وشعوب الجزيرة الذين تعايشوا مع هذا الإحتلال وتواءموا معه شرعاً وعقلاً.
ولا يستطيع الملا عمر على الجانب الآخر أن يقنع رجال القبائل الأفغانية بأن يضحوا بخُمْس دينهم فى مقابل حماية بن لادن الذى يطالب بشئ لم يطالب به علماء بلاده ولم يطالب به معظم علماء المسلمين .. ( أى تحرير جزيرة العرب من إحتلال المشركين).
الحل المتاح أمام الملا عمر، الذى لم يكن أمامه الكثير من الخيارات، وحتى لا يضطر فى لحظة ما إلى أن يضحى بأسامة بن لادن ويقذفه من القارب الأفغاني المتهالك، إلى جوف الأمواج الأمريكية السعودية الهادرة.. والحل كان إقناع بن لادن بإلتزام الهدؤ حتى تستقر أفغانستان بنظامها الجديد وبعدها يستطيع (الملا عمر) أن يساند بن لادن وقضيته بشكل أفضل مما يستطيعه الآن .
بعد الزيارة الإستفزازية العاصفة لمدير الإستخبارات السعودية، أيقن كبار مستشارى الملا عمر أن لا حل سوى إستخدام لغة الحزم مع بن لادن، فإما إن يصمت نهائياً بالقوة الإدارية وإما أن يخرج من البلاد إلى أى مكان يريد.
لم يحبذ الملا عمر إستخدام لغة التهديد والإجبار مع بن لادن، وكان وحيداً “تقريبا” فى ذلك الرأى.. فقرر الذهاب شخصياً إلى بن لادن فى قرية عرب خيل، وإن يرجوه بشكل أخوى أن يلتزم الهدؤ حتى يستطيع “الملا عمر” الخروج بسلام من العواصف العاتية التى تحيط بالإمارة ، وبعدها سيكون لكل حادث حديث . حيث أن الإمارة مقتنعه بقول بن لادن حول ضرورة إخراج القوات الأمريكية من جزيرة العرب، وحول ضرورة تحرير فلسطين والمسجد الأقصى من الإحتلال اليهودى.
عندما أرسل الملا عمر أحد رجاله إلى بن لادن يخبرة فيها أن أمير المؤمنين قادم لزيارته عصر ذلك اليوم ، كان بن لادن قد إستلم منذ قليل إشارة متفق عليها من مجموعته الضاربة على الساحل الإفريقى الشرقى، بأن كل شئ جاهز وأن هناك ضربة وشيكة، وبدون أى تفصيلات أخرى !!.
إذن كان ترميم العلاقات مع الإمارة تأتى فى صدارة الأولويات من أجل إمتصاص ضربة إنتقامية أمريكية لاشك فيها.
وصل الملا عمر مع عدد من كبار مستشاريه، ومن بينهم الشاب الذى تولى لاحقاً منصب وزير الخارجية، (مولوى وكيل أحمد متوكل) وبرفقتهم عدد محدود من الحراس.
فى ظل عريش خلف أحد بيوت القرية دار الحديث الذى حضرة أيضاً عدد محدود من كبار أركان القاعدة، وبدأ الملا يشرح أسباب ونتائج زيارة الأمير السعودى، والمصاعب والأخطار التى تواجهها الإمارة ، وفى الأخير رجاء شخصى حار بوقف النشاط الإعلامى لأسامة بن لادن حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً.
وكان الملا عمر لا يتوقع رداً آخر سوى القبول. إن لم يكن تقديراً لظروف الإمارة فعلى الأقل إحتراماً لمجيئه شخصياً وتقديم الطلب فى صورة رجاء وقد كان قادراً على فرضه إدارياً وبدون أن يغادر مقرة فى الإمارة.
بهدؤ بدأ بن لادن فى سرد تفاصيل دعوته وشرعيتها شارحاً أدلته على أنها من “الجهاد المتعين” التى لا يملك الإمام حق إيقافه. وأنه (بن لادن) لن يوقف جهاده فى هذا السبيل مهما كلفه الأمر. وطلب بأن تعرض هذه الخصومة بينه وبين أمير المؤمنين حول هذا الموضوع أمام لجنه قضائية من العلماء لتحكم فيه !!.. ثم ترقرقت عيناه بالدموع وتحشرج صوته وهو يقول: إذا كان قد صعب عليكم حمايتنا على أرضكم، فإننا نترك لديكم النساء والأطفال ونخرج نحن للجهاد من مكان آخر .
كانت الجملة الأخيرة لطمة ثانية قاسية فى وجه الملا عمر، لأنها إتهام صريح له ولمن معه بالجبن والنكوص عن الجهاد.
إنصرف الملا عمر ومن معه عائدين إلى المدينة وقد أصيبت العلاقة بين الطرفين بشرخ لم تشف منه أبداً. وسادت القطيعة التامة بينهما أشهراً طويلة. ولم تهدأ خلالها الوساطات الخيرة فى ترميم بعض الخيوط المقطوعة.. حتى نجحوا فى إصلاح شئ منها.. وظل الجزء الأكبر من العلاقة والود القديم والثقة مهدماً مثل أطلال قرية أفغانية دمرتها الطائرات.
لم تلبث أن دوت الإنفجارات فى نيروبى ودار السلام لتعلن بداية الحرب الساخنة بين (بن لادن) والولايات المتحدة الأمريكية. كان بن لادن قد مهد جيداً الأرضية الإعلامية لتلك الحرب ورسم حدودها بدقة : بأنه “شخصياً” يحارب الولايات المتحدة ونظامها الدولى. ووضع بيديه المسلمين والعالم أمام شاشات التلفزيون يترقبون أحداث ذلك المسلسل المدهش والمُشوِّق الذى طال إنتظاره، وطال بث الدعايات المثيرة حول أحداثه المتوقعة.
سياسياً.. لم يكن من حاجة لإعداد شئ طالما هو شخصياً جاهز . لذا لم يبال بإضعاف علاقته مع حركة طالبان، وتوجبه كل الإهانات والتحقير للملا عمر أمير المؤمنين، الذى وقف مدافعاً عنه متحملاً كافة المخاطر فى سبيل ذلك، حتى فقد كل شئ فى نهاية المطاف.
بن لادن لم يبذل الجهد اللازم لتوحيد أو تنظيم العرب الأفغان، جماعاتهم وأفرادهم المستقلين، لتكوين كتله عربية متجانسة، إن لم تكن موحدة، حتى تتحمل المطارق القادمة سريعاً فوق الرؤوس خاصة رؤوس العرب.
بسرعة إصطفت مواقف العرب إزاء ما حدث فى أفريقيا بين دفتى التطرف.. ما بين موافق جملة وتفصيلاً على ما حدث ، وما بين معترض كلياً على المعركة من أصلها وجذورها.
وبشكل عام كانت عمليات أفريقيا ثم ردود الفعل الأمريكية عليها فى صالح بن لادن وتنظيم القاعدة. سواء بين العرب خارج وداخل أفغانستان، أو بين الأفغان أنفسهم . بل أن ردود فعل العملية داخل حركة طالبان كانت إيجابية بشكل عام ولكن موقفهم لم يتغير جذرياً.
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )