بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
مجلة الصمود الإسلامية / السنة الرابعة عشرة – العدد ( 157 ) | رجب 1440 هـ / مارس 2019 م .
22/03/2019
جلال الدين حقانى
العالم الفقية .. والمجاهد المجدد
( 7 )
– أول إذاعة متنقلة تستقر فى جاور ، التى تحولت إلى أهم القواعد الخلفية للمجاهدين .
– كنا مجموعة إستطلاع مُهْمِلَة ، وكاد العدو أن يطلق علينا النار ولكن الجنود رفضوا .
– طائرات الهيليكوبتر تطاردنا بن الصخور و الأعشاب لعدة ساعات ، وحقانى يثور على أطقم الدوشيكا الذين فروا من أمام الطائرات .
– حقانى يستخدم بنفسه قاذف RPG7 ضد الطائرات ، فأصبح إستخدام أسلوب”الأرجُل المُلْهَمَة” محظورا علينا .
– التحدى والمجابهة العنيفة هى بصمة حقانى العسكرية .
تحميل مجلة الصمود عدد 157 : اضغط هنا
جاور .. بداية الأسطورة
فى يوم قائظ من صيف عام 1982 كنا نعبر منطقة للقبائل الحدودية ، حيث تحركت بنا سيارة (سوزوكي) صغيرة عبر الحدود من معبر (صدقي) . كان رشيد إلى جانبي والضابط عمر يقود السيارة وخلفنا خمسة من المجاهدين والجميع وجهتهم (جاور) … (جاور) ذلك الإسم الذي سمعته لأول مرة وبالطبع لم يدر بخلدي أنه ستكون له في السنوات القادمة تلك الأهمية الهائلة . أما الضابط عمر، فهو شاب من قبيلة زدران إلتحق بالمجاهدين وأصبح من رجال حقاني المقربين . بدأ حياته العملية معه مسئولا عن (جاور) .
كان رشيد يرى أن جاور مهمة ولكنه ما كان يثق كثيرا في كفاءة عمر . وفي السنوات اللاحقة أصبح الضابط الشاب عمر مسئولا عن (الإستطلاع) وجمع المعلومات لدى حقاني . كما أشرف لفترة على بعض الأعمال الإعلامية كان أولها محطة الإذاعة المتنقلة . و كنا في الطرق كي نشاهدها في جاور .ويبدو أن مهمة جاور الأساسية في ذلك الوقت أن تكون مستقرا لتلك الإذاعة وتوفر لها الحماية من الطيران أو تخريب جواسيس العدو .أما مهام جاور كقاعدة خلفية فلم تكن واضحة كثيرا في ذلك الوقت ، ولكنها نبتت وإزدهرات بالتدريج كواحدة من أهم القواعد الخلفية للمجاهدين،ربما على نطاق أفغانستان كلها . ودارت فوقها واحدة من أعنف معارك السوفييت فى تلك الحرب وربما أعنفها على الإطلاق ، وذلك بعد حوالي أربع سنوات من زيارتي الأولى لها أي عام 1986م . كانت جاور في خطوتها الأولى عبارة عن خيمة واحدة فوق ربوة مشجرة ، وعربة للإذاعة مختفية بين الصخور والشجيرات،وعدد من العمال منهمكين في تهيئة حفرة في الهضبة الترابية لإخفاء عربة الإذاعة التي لم يكن قد مضى على عملها سوى أيام وتقصفها الطائرات على غير هدى، حتى ساعدتها المضادات الجوية في تحديد الموقع بدقة ، فبدأت الطائرات تحدد هدفها بسهولة نسبيا. كانت تلك المضادات في ذلك الوقت عبارة عن مدفع واحد زيكوياك عيار 14.5 مم، أما الإذاعة فكانت تبث برامج معدة سلفا ومسجلة في مدينة ميرانشاه، وذلك بعد العصر ولمدة نصف ساعة . أخبرني حقاني وقتها أن حكومة باكستان قد سلمت المجاهدين أربعة أو خمسة محطات إذاعية متنقلة ، كانت محطة جاور واحدة منها . تذكرت محاولتنا الفاشلة في الحصول على محطة إذاعة من الشارقة منذ ثلاث سنوات . كنا في ذلك الوقت نتوقع تأثيرا دراميتكيا للإذاعة ، وأنها ستقود إلى ثورة عامة عندما يعلم الشعب بانتصارات المجاهدين . الآن هناك خمسة إذاعات على الأقل ولم نحصل على تلك النتيجة التي نتصورها .
فهل كان تصورنا الأول على خطأ ؟.
أظنه كان به كمية من المبالغة ولكنه لم يكن على خطأ كامل . فالمجاهدون في عامهم الأول،
قبل المساندة الدولية, كان لهم تأثير أسطوري على النفوس . ولكنني إكتشفت متأخرا ـ كالعادة ـ أن بريق المجاهدين يخبوعندما تزداد المساندة الخارجية لهم خاصة من أطراف يكرهها
الشعب تقليديا . فباكستان ليست من الدول المحبوبة لدى الأفغان بل أنهاعدو تقليدي منذ الإحتلال البريطاني للهند . كذلك أمريكا والغرب كانوا مكروهين مثل الروس أو أكثر.
وهكذا وجدت الدعاية الشيوعية المضادة تفهما ولو محدودا من الشعب الأفغاني ولولا المساندة
العربية ـ خاصة المتطوعين العرب ـ لفقد المجاهدون في أفغانستان مصداقيتهم .
التواجد العربي في أفغانستان كان أكثر أهمية من أي سلاح عسكري أو أموال لأنه تواجد يتصل بصميم وجوهر الصدام، ألا وهو الجانب العقائدي والنفسي. لهذا كانت الحملة الصليبية رهيبة ضد هؤلاء المتطوعين العرب.
وكما هو معلوم دور أميركا في قيادة هذه الحملة ودور الأنظمة العربية في خوض غمار الحرب ضد من أسموهم (بالأفغان العرب) بدلا من (المجاهدين العرب) أو (الأبطال العرب).
ما هي إلا أيام قليلة حتى تحركنا في مجموعة من عشرين مجاهدا بقيادة رشيد في مهمة إستطلاع إستغرقت يوما واحدا من المسير الشاق . شمل الإستطلاع منطقتين ، الأولى منطقة (دراجي) في الشمال الغربي من جاور والأخرى منطقة (ليجاه) في الشمال الشرقي منها. بعد يومين من الرحلة فر ثلاثة جنود من حصن (ليجاه) وأفادوا بأنهم قد رأونا أثناء عملية الإستطلاع ، ووصفوا أفراد المجموعة بأن أحدهم كان يرتدي طاقية بيضاء(رشيد) وآخر كان يلتقط الصور الفوتوغرافية (كاتب هذه السطور) .وأفادوا أيضا بأن ضابط الموقع طالبهم بإطلاق نيران الرشاش الثقيل على هذه المجموعة .
ولكنهم ـ أي الجنود الثلاثة ـ جادلوه في ذلك لأن المجموعة (أي نحن) إنما هي مجموعة مسالمة(!!) من عابري السبيل (!!) .
شعرب بالخجل وقتها من حالتنا كمجموعة إستطلاع مهملة . ولكنني رأيت دوريات کثيرة أسوأ حالا من حالتنا تلك . على أية حال كان الإستطلاع على حصن (دراجي) جيدا ربما لأنه تم أثناء النهار . وتم عن مسافة قريبة . أما عند (ليجاه) فقد كنا في جبل مرتفع عن مستوي الحصن الحكومي (البوسطة) .
ولم نكن قريبين بما فيه الكفاية لذا إنتابتنا حالة من الإهمال والتسيب . ومع هذا فإن ظهورنا قرب ليجاه كان حدثا غريبا على حاميتها التي كان تعيش في هدوء منذ مدة طويلة. وكان ذلك حقا نذير شؤم عليهم. أثار ذلك شجون الجنود ، أو أثار خوفهم فهربوا وأدلوا بمعلومات كانت كافية كي يأخذ مولوي جلال الدين حقاني قرارا بغزو ليجاه . بعد عدة أيام تحركت مع مجموعة برئاسة رشيد مع مدفع هاون وسط (82 مم) لمناوشة الحصن ، والبقاء هناك كطليعة لقوات الغزو التي سوف يحشدها حقاني . كنا في منتصف فصل الصيف وتم فتح حصن ليجاه مع نهاية الخريف،وتقهقر العدو تاركا جبال ليجاه تماما وبذلك سيطر المجاهدون على الممر الذي كانت تغلقه تلك البوسطة الحكومية في نهاية السلسلة الجبلية . ولكن القوات الحكومية إتخذت موقعا في الوادي على بعد عدة كيلومترات من مدخل الممر. وعلى المدى الطويل إتخذ حقاني ذلك الأسلوب التدريجي البطيء حتى توصل إلي فتح خوست عام 1991م .
كانت إستراتيجة مناسبة تماما ـ كما أثبتت التجربة ـ للواقع العسكري والسياسي والإجتماعي للمنطقة .
كانت عمليات المجاهدين تدفع القوات الحكومية بالتدريج نحو الوادي تاركين الجبال تحت سيطرة المجاهدين ، وبعدها بدأت المعارك في الوادي نفسه . وهي بالطبع أكثر صعوبة بالنسبة للمجاهدين ، الذي إتبعوا نفس الأسلوب البطيء في القضم التدريجي وإنقاص الأرض من أطرافها . إن معركة دابجي التي أشرنا إليها أنهت سيطرة الحكومة على منفذ حدودي مع باكستان في نقطة تبعد حوالي أربعين كيلومترا عن مركز خوست وأتاح ذلك إمكانية أفضل للإمداد بالنسبة للمجاهدين . أما في ليجاه فإن سيطرة المجاهدين على جبالها فقد أتاح لهم إمكانية أفضل للتسرب إلى داخل الوادي والوصول إلى المراكز الإدارية والقيادية هناك.
وذلك السبب وراء الحملات العسكرية العنيفة التي قام بها السوفييت لإستعادة زمام الأمور وفرض توازن جديد في مصلحة القوات الشيوعية . وكانت أقوى تلك الحملات في أعوام
1983 ، 1985 ، 1986م. والأخيرة كانت من أشد ما شهدته أفغانستان من معارك حتى ذلك الوقت . كانت رحلتنا الإستطلاعية أول تدشين لنشاطات جاور . كما كانت عملية ليجاه أول حملة عسكرية تقوم بها جاور فيها بدور قاعدة الإنطلاق والتموين والإدارة . وإنتهى ذلك الدور بإسقاط مدينة خوست الذي أدى مباشرة إلى إنهيار كابل ونظامها الشيوعي بعد عام واحد من فتح خوست . كان لمجموعتنا غارة يومية على حصن( ليجاه) وتتابع وصول الإمدادات ، فأصبح لدينا مدفعي دوشكا يعملان على التلال بهدف الحماية من غارات الطيران. وتزايد تدريجيا عدد المجاهدين واقترب مدفع الدوشكا أكثر حتى صار في مقدوره إصابة جنود الحكومة في الحصن وقد ضايقهم ذلك كثيرا. ولم تفد مدفعية الحكومة ولا غارات الطائرات النفاثة في تحسين وضع حامية الحصن. وتتابع ضغط المجاهدين وغارات الهاون المؤثرة. وزادت الإصابات في صفوف الجنود بينما لم نصب نحن بأية خسائر حتى ذلك الوقت . وتطور الأمر في أحد الأيام فوصلت عدة مصفحات إلى الحصن نقلت الجنود إلى الخلف . وخيل إلينا أن المعركة قد إنتهت. كنا خمسة أشخاص تقدمنا ، نحو الحصن في حرص شديد لسببين :
الأول: عدم تأكدنا بأن كل الجنود قد رحلوا والثاني: خوفنا من حقول الألغام التي نشرها العدو في المنطقة كلها ـ وليس فقط حول الحصن ـ . وأثار ذلك الذعر في صفوفنا . وما أن وصلنا إلى مسافة مائة متر من الحصن حتى أزت رصاصة فوق رؤوسنا . تصورنا أن أحد المجاهدين قد أطلقها لأننا لم نشاهد أية حركة في الحصن . ولكن تتابع الرصاص نبهنا إلى أن مصدره جاء من الحصن فاتخذنا سواتر قريبة وبدأنا في تبادل النيران . كان معنا الضابط كمال وهو ضابط شاب رأيته لأول مرة في ليجاه كان هادئا للغاية ، وعنيدا لدرجة كبيرة . كان يحمل على كتفه مدفعا عديم الإرتداد بينما يحمل مساعده عدة قذائف فبدأ على الفور في الرماية على الحصن ، فانقطعت الرماية منه تماما . كان واضحا أن الإستيلاء على الحصن مسألة غاية في البساطة فلا أحد هناك غير ثلاثة جنود كما قدرنا ذلك من الرمايات ـ ولكن المشكلة كانت الألغام . لقد توقف زحف المجاهدين عدة أيام وهم يحاولون فتح ثغرة للنفاذ إلى الحصن . وكانت فترة كافية جهزت الحكومة فيها قواتها وجابهتنا فيها بهجوم مضاد شديد كان أسوأ ما فيه طائرات الهيلوكبتر .
مرة أخرى أواجه محنة الهيلوكبتر بعد معركة دارا في العام الماضي .لم تكن محنة ليجاه بنفس الشدة ولكنها دامت لفترة أطول. فقد تمكنت الطائرات وأظنها لا تقل عن ست طائرات من إسكات مدفعي الدوشكا. لم تصب المدافع ولكن الأطقم لم تستطع الثبات أمام الصواريخ التي صبتها الطائرات فوق رؤوسهم . أصبح معسكرنا بلا دفاع جوي . وصمتت النيران من جانبنا تماما, وتفرغنا عدة ساعات للجري في الشعاب والوديان وبين الشجيرات بينما الطائرات الستة تلاحقنا بالنيران من نقطة إلي أخرى . كنا أشبه بسرب من الجرذان تطارده ستة من القطط المتوحشة . وقرب العصر إنتهت المعركة غير المتكافئة . وقد تقطعت أنفاسنا ، وهبطت معنوياتنا بسبب عجزنا المهين أمام الطائرات. لم يمنع ذلك ظهور حالة من المرح و”التبريكات” بين المجاهدين،كانت مفاجأة سارة لنا ألا نجد أية خسائر في معسكرنا سواءفي الأفراد أوالمعدات.
لهذا قضينا ليلة مرحة حول أكواب الشاي الأخضرالذي لم أستمتع به تماما لكونه خال من السُكّر. وصلت التعزيزات إلى حصن ليجاه ودبت فيه الحياة مرة أخرى واستدعى الأمر إستمرار المعركة عدة أشهر أخرى حتى تم الإستيلاء التام عليه. ويمكن إرجاع السبب الأساسي إلى الألغام وكانت تلك الموقعة أول معايشة عملية بالنسبة لي لخطورة الألغام. وقد كانت أفغانستان حالة لم تتكررسابقا في تاريخ الحروب بالنسبة لبشاعة إستخدام الألغام إلى حد فاق أي حاجةعسكرية حقيقية.
أما الهيلوكبتر وكان ذلك هو لقائي الثانى معها، فقد زاد إحترامي لها كسلاح فعال ، وزادت
قناعتي أيضا بإمكان التغلب عليها وأنها مشكلة تتعلق بمتانة الأعصاب قبل أي شيء آخر. وإقتنعت بأن تأثيرها محدود جدا على مسيرة العمليات، خاصة إذا كانت تضاريس الأرض تماثل تلك التي كنا نقاتل عليها في باكتيا. أرض صخرية وعرة كثيرة الأشجار. في مثل تلك الأرض لايحتاج المجاهد لأكثر من قدمين تجيدان إتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب . وجدت ذلك الحل الأمثل ورأيته أفضل حتى من إستخدام الصواريخ المحمولة علی الكتف. وما زلت على قناعة بأن الإقدام المدربة أفضل ألف مرة من(ستنجر) الأمريكي. أما الرشاشات الثقيلة فهي كارثة حقيقية على مستخدميهاخاصة في مواجهة الهيلوكبتر. وهكذا كانت نصائحنا لإخواننا المجاهدين في طاجيكستان عندما لمسنا ذعرهم من الطيران وبحثهم الملهوف عن بقايا صواريخ (ستنجر) التي كانت أمريكا تسابق الزمن في سبيل جمعها من أفغانستان . وبالفعل إستطاع المجاهدون الطاجيك مجابهة الطيران بنجاح أكثر هذا العام (1994م) رغم عدم وجود(ستنجر) لديهم مع وجود عدد محدود جدا من صواريخ “سام7” الروسية، فقد تفادوا تأثير الطيران ، وأسقطوا عددا محدودا جدا من الهيلوكبتر كانت واحدة أو اثنتان منهما بواسطة “سام7” ذلك الصاروخ الأحمق .(فمنذ حادثة دارا وأنا أشعر بكراهية شخصية تجاهه). لقد أدرك إخواننا الطاجيك أن الإستخدام الجيد لطبيعة الأرض هو خير سلاح في مواجهة الطيران خاصة في مراحل الجهاد الأولى وغياب التدريب الجيد على الرشاشات الثقيلة وعدم توافر الصواريخ المناسبة. ولا يمكن إنكار أن صاروخ (ستنجر) كان فعالا في مواجهة الهيلوكبتر بشكل خاص ، حتى أن تأثيرها تقهقر كثيرا منذ ظهوره . ويجب ملاحظة أن الرادع المعنوي لأي سلاح أكبر بكثير من قيمته العملية . لهذا فبغَضْ النظر عن نسبة الإصابة التي حققها الصاروخ المذكور ولكن الهالة الدعائية حوله كانت أكبر بكثير من تأثيره العملي .وقد تأثر العدو كثيرا بتلك الدعاية وإنهارت قيمة الهيلوكبتر إلي درجة كبيرة . أما الطائرات النفاثة فقد ضاع جزء من فعاليتها لاضطرارها إلى الإرتفاع أكثر من مدى الصاروخ (6 كم تقريبا) .أما نسبة الإصابة العالية التي روجها الإعلام الأمريكي فقد كانت محض تهويل ولم تكن أكثر من دعاية لترويج السلاح في السوق الدولية إضافة إلى التأثير السياسي لتلك الدعاية . أما الرشاشات الثقيلة فقليلا ما استخدمت بشكل جيد في أفغانستان فهي تحتاج إلى طاقم على درجة عالية من التدريب. كما لا بد لها من الإستخدام الجماعي لتلك الأسلحة ، وما يستدعيه ذلك من كمية ضخمة من الذخائر ، وهذا شرط صعب أيضا . يضاف إليه صعوبة المناورة بتحريك تلك الأسلحة وذلك يجعلها هدفا ثابتا للطيران .
تحميل مجلة الصمود عدد 157 : اضغط هنا
حقانى يثور على أطقم الدوشكا:
يستجيب مولوي جلال الدين بسهولة للتحدي . لم يكن من السهل بالنسبة له أن يقبل ما فعله الطيران بنا. فوجه تأنيبا شديدا لأطقم الدشكا . وأتبع ذلك بإجراءات عملية أخرى ، فأحضر واحدا من صواريخ سام7 وسلمه إلى الضابط كمال ، وأحضر مدفعا من طراز زيكوياك
(5, 14مم) ووضعه على جبل مرتفع خلف مواقعنا ، وأحضر عددا من قواذف “آر بي جي”
المضاد للدروع وأمر رجاله بإستخدامها ضد الهيلوكبتر وأيضا ضد النفاثات . لم يكتف حقاني بكل ذلك بل سلح نفسه بواحدة من تلك القواذف ، وكان يصعد بنفسه إلى أقرب قمة إليه عندما يسمع صوت الطيران قادما ، وكان يرمي على الطائرات بنفسه. ذكل تلك الإجراءات مجتمعة هي نموذج مثالي لروح التحدي والمواجهة العنيفة التي يتميز بها أسلوب حقاني في العمل العسكري . ويمكن القول أنها (بصمته العسكرية) . لقد فهم الرجال أن التراجع أمام الطيران ممنوع وأن الإستخدام (المُلْهَم) للأرجل غير مسموح به بعد الآن . شعر العدو بقوة موقعنا فتحولنا تلقائيا إلى هدف هام. وحرمنا ذلك من النوم والراحة وصرنا عرضة دائما للقصف المدفعي والغارات الجوية التي زادت حدتها بعدما رأت قوة النيران الصاعدة إليها . وبسرعة عزز العدو مواقعه حول حصن ليجاه وبدأت المواقع القريبة منه والقواعد الرئيسية داخل المدينة تقدم دعما مدفعيا للحصن. لقد وجدنا أنفسنا فجأة وسط الجحيم، بينما برنامجنا الهجومي قد تجمد بسبب الألغام. في حين تحول همنا الأول هو الدفاع عن أنفسنا ومركزنا . هذا التحول أدى إلي نشوب خلاف بين رشيد وحقاني لم يجتمعا بعده أبدا .
غادر رشيد الموقع ومن يومها لم أقابله في الجبهات . توافد عدد كبير من المجاهدين إلى
المنطقة بعدما أصبح متوقعا أن تهاجم القوات الحكومية مراكز المجاهدين . ووصل إلينا مدفع
جبلي عيار 76مم فأصبحت نيران مدفعينا تصل إلى أبعد من الحصن نفسه وتطال طوابير
التعزيزات قبل أن تصل إليه . لم أكن أيضا سعيدا بكل تلك التطورات، كان الطيران وحده
كافيا للنيل من معنوياتي . فحتى شاي الصباح لم يعد ممكنا تناوله باسترخاء ، والليل مليء
بالتوتر والإستنفار وقذائف المدفعية الثقيلة التي تأتينا من عمق الوادي . كان برنامجنا المدفعي ناجحا على الحصن فقط ومنعدم التأثير على عمق العدو. والصمود أمام الطيران بلا مضادات كافية أصابنا بخسائر بشرية ومادية ولم يؤثر بشيء على الطيران طوال فترة تواجدي .
كان المطلوب هو الثبات على هذا الوضع حتى تنتهي جلسات الشورى الميدانية التي بدأت تنهال . فلم يكن قد تقرر شيء نهائي عن البرنامج ولاعن المجموعات التي سوف تشارك فيه.
بعض الإجتماعات جرت في جاورخلفنا بمسافة عشرة كيلومترات مليئة بالجبال الوعرة ، وبعض الإجتماعات جرى في مواقعنا التي لم يكن بها خندق واحد حتى تلك اللحظة . إنتهت مشاركتي في معركة ليجاه عند تلك النقطة . ولكن التطورات إستمرات نحو شهرين أو أكثر ، إنتهت باستيلاء المجاهدين على الحصن والوقوف على أعتاب الوادي الفسيح ودفع العدو عدة كيلومترات داخل الوادي وحرمانه من جبال المنطقة المنيعة . كان نصرا رائعا ، جعل غرب الوادي في وضع خطر . فمدخل وادي ليجاه يتيح الوصول إلى منطقة الغرب كلها ويجعل العمليات ممكنة ضد عدد كبير من تلك المواقع .
بل أن موقع القيادة الرئيسي لغرب الوادي ، وهو حصن دراجي حيث الإدارة والقيادة للمنطقة الغربية ، أصبح مهددا.
وبالفعل تم الإستيلاء على دراجي بواسطة قوات حقاني المتحركة من ليجاه ولكن بعد 8 سنوات كاملة من معركة ليجاه الأولى التي نَصِفْ بداياتها هنا. وليس المقصود هو ذكر تفاصيل تلك المعارك ، بل فقط ذكر بعض المعالم التي توضح الصورة العامة، وما يساعد قارئنا التاريخي المنتظر على أن يتصور الأوضاع التي كانت سائدة ، ونحاول أيضا أن نبحث عن أوجه الإستفادة من تلك الأحداث وما يمكن إستخلاصه من نتائج .
ونحاول أن نعود إلى ما ذكرناه سابقا عن (القوانين الخاصة بالحرب). وهي قوانين تتعلق بالقتال في ظروف خاصة جدا بحيث يستدعي ذلك إجراء تعديلات في قواعد القتال المعروفة أو حتى وضع بعض القواعد الجديدة.
وقلنا أن ذلك لا يتأتى إلا لنوع نادر من القيادات، فهناك خطآن شائعان يقع فيهما قادة الحروب:
الخطأ الأول ، الإلتزام الحرفي ـ الجامد ـ بقواعد الحرب كما ذكرت في الكتب العسكرية وكما تدرس في الأكاديميات العسكرية . الخطأ الثاني ،الإهمال المتهور لقواعد الحرب، بدعوى أنها (كلام نظري) كما كان يحلو لبعض إخواننا العرب أن يطلقوا عليها . بالنسبة للخطأ الأول فهو شائع في ضباط الجيوش النظامية الذين قذفتهم الأقدار إلى حروب العصابات . وقد شاهدت عددا منهم في أفغانستان أكثرهم كانوا أفغانا وقليلا من العرب .
والضباط العرب بشكل خاص فشلوا في التكيف مع حرب العصابات بشكل عام ومن باب أولى الطبيعة الخاصة للحرب في أفغانستان والتي إهتدت إليها العديد من المجموعات الأفغانية وطبقتها بنجاح . وحتى رشيد بمؤهلاته وقدراته فشل أيضا في إحتمال الوضع الأفغاني الخاص.
وكانت ليجاه نهاية عمله في باكتيا وما لبث أن فشل بسرعة في تجاربه الأخرى في جلال آباد
فإنكمش إلى مجال التدريب ثم إلى الكتابات العسكرية في صحيفة (الصراط) التابعة لمولوي نصر الله منصور، حتی ترك الساحة الأفغانية. ومن ضمن ما يتأثر به الأسلوب القتالي هو الحالة الثقافية للمجتمع . فالمجتمعات الواقعة تحت التأثير الغربي أو الشرقي، تتأثر إلي درجة كبيرة بالأسلوب القتالي العسكري للغرب أوالشرق. ولما كان الأفغان من أقل الشعوب تأثرا بالثقافات الخارجية إضافة إلى متانة الوضع الإجتماعي القبلي وسيادة الثقافة الإسلامية، فكان من الطبيعي أن ينبت (أسلوب قتال أفغاني) وهو ما شاهدناه في ليجاه ـ وكان أسلوبا تبلور بالتدريج ـ حتى أصبح مدرسة قتالية، هذا الأسلوب وتلك المدرسة لم يكن ممكنا التكيف معها أو إستساغتها من جانب أفراد من خارج ذلك المجتمع ومن خارج الثقافة الأفغانية . لم تنجح المجموعات الأفغانية بنفس الدرجة . وبعضها فشل في تخطي حد معين في عمله القتالي ولم يلبث أن تجمد عند مرحلة قتالية أولية . ولا شك أن جلال الدين حقاني كان واحدا من الذين طوروا إلى أقصى حد ممكن أسلوبا أفغانيا للقتال كان ناجحا ومؤثرا للغاية . كما رأينا فإن حقاني تخلى مبكرا عن سياسة (إضرب وإهرب) .
ورفض إتباعها كما رأينا حتى عندما بدأ الروس في فرض إحتلالهم العسكري . بل مضى إلى حد القبول بمجازفة “المواجهة الشجاعة” ليس فقط في الجبال،خاصة على الطرق المؤدية إلي خوست، بل وفي الوديان المفتوحة كما رأينا في تعمير في وادي “زورمت” .لقد تحمل حقاني من جراء ذلك خسائرا كبيرة لكنه حقق نتائج أعظم خاصة على المستوي النفسي والسياسي . وحتى لو عادت عجلة التاريخ إلي الوراء ما أظن عسكريا محترفا يوافق على آراء حقاني تلك رغم أنه ثبت عمليا أنها الأصلح للتركيبة الأفغانية وظروفها الفريدة ، بل وظروف باكتيا الأشد خصوصية . وكما رأينا، لم يستطع ضابط قدير مثل رشيد أن يتقبل أسلوب حقاني في معركة ليجاه .
لم أكتشف وقتها أن حقاني قد إنتقل إلى المرحلة الثانية من مراحل حرب العصابات وإتخذ بذلك قرارا من أخطر قرارات قيادة حرب العصابات وهو قرار التحول من مرحلة إلى أخرى. وهو قرار من الخطورة بحيث أنه قد يؤدي إلى هزائم ثقيلة قد تتحول إلى هزيمة كاملة. بدأ حقاني يقاتل بمجموعات كبيرة مستخدما قدرا من الأسلحة الثقيلة هادفا إلى طرد العدو من الجبال ودفعه نحو السهول . لم يقرأ حقاني حتى الآن كتابا واحدا في حرب العصابات ولكنه تصرف بغريزة فطرية سليمة وحساسة، وتعلم الدروس بسرعة متخذا المسار المناسب لحالته الأفغانية الخاصة . سأورد حادثتين لتوضيح (الحالة البشرية) الخاصة التي أملت أسلوبا قتاليا بعينه ، وإن كان مخالفا لكثير من الثوابت العسكرية. والحادثتان من منطقة “ليجاه”.
الحادثة الأولى :
جلسنا في الصباح الباكر بعد صلاة الفجر لتناول الشاي الأخضر وبعض الخبز . وهذه مناسبة من أكثر المناسبات اليومية سعادة وإنشراحا . بعد منتصف الليل كنت قد أحسست بوصول مجموعة من المجاهدين كانت في دورية ليلية خلف خطوط العدو في الوادي .وتعرفت على صوت صديقي القديم مولوي (محمد سرور) مرافقنا في أولي معاركنا داخل أفغانستان .
أجلت اللقاء إلى الصباح . وقد كان لقاءا سعيدا غمره البشر الصادق والمودة . بعد إنتهاء
جلسة الشاي همس مولوي سرور في أذن طباخ المعسكر فأحضر له إبريقا ضخما من الشاي
الأخضر المر.
ما زالت تلك لمسته الشخصية منذ عرفته ، إبريقه الخاص من الشاي الذي يعادل في حجمه كمية الشاي للمعسكر بأجمعه . قدم لي الرجل كوبا إرتشفت منه على مضض . وجلسنا نتبادل الأخبار والتعليقات حتى إرتفعت الشمس من خلف الجبال وباتت تغمرنا بأشعتها . بدأ هدير الطائرات النفاثة يظهر في الأفق البعيد، فإنسل الرجال الذين صقلتهم تجربة الأيام الماضية ، وظل مولوي سرور يرتشف الشاي بهدوء كأنه يستمع إلى شقشقة العصافير. إقترب منا الهدير وظهرت النفاثات الفضية تدور حول معسكرنا ، وهذا دليل لا يدحض على أن الشر قد إقترب. ولكن الرجل الوقور لم تفارقه الإبتسامة وظل يدير الحديث العذب ولكن ذهني بدأ يشرد و تعلقت أذناي في السماء وعيناي تدور بحذر فيما حولي كي أنتخب المكان المناسب لحضور المأساة القادمة.
ليس لدينا خنادق ولا مغارات ، فقط صخور وأشجار وبعض مجاري السيل الضيقة. لم أستطع التحمل أكثر من ذلك وقد تمادى الطيار في مناوراته فوقنا فطلبت برفق من الشيخ أن نتحرك تحسبا للأخطار ، فلوح بكأس الشاي الأخضر التي في يده وقال برفق :
(نتحرك إن شاء الله عندما أفرغ من هذا الكوب). وبالفعل نفذ ما قال، وبكل هدوء ، ثم سمى الله ، وبدأ يتحرك بهدوء كامل !!! .
الحادثة الثانية :
من الصباح حتى الظهيرة كنا قريبين من حصن ليجاه مع عدد محدود من المجاهدين حيث وصلنا قريبا من حزام الألغام . وتبادلنا إطلاق النار من البنادق مع جنود الحامية وكانوا قليلين ولكن دعما مدفعيا قويا وصلهم من مواقعهم القريبة ومن العمق . فقضينا فترة عصيبة ونحن نبدل أماكننا باستمرار حتى تخلصنا من النيران وخرجنا من المنطقة ولكن المدفعية إستمرت بعد ذلك لأكثر من ساعتين على نفس منطقتنا الأولى وما حولها. كان القصف من الشدة بمكان، بحيث أن المجاهدين من خلفنا إستعدوا لإستقبال هجوم شيوعي مضاد وبدأوا التحرك إلى الأمام لصد الهجوم . قابلونا أثناء عودتنا وسألوا عن الموقف فأخبرناهم أنه لا هجوم متوقع حتى الآن . في الطريق قابلنا شيخا طاعنا في السن ذو لحية بيضاء،يـبرق من شدة النظافة، يرتدي البياض في جيمع ملابسه وعمامته. ويتوكأ على عصاه ويسير بخطى وئيدة بينما يحمل بندقيته الإنجليزية العتيقة على كتفه. . سألنا بصوت واهن :
ـ هل جاء العدو ؟ .
ـ لا لم يجىء .
ـ أين هم الآن ؟.
ـ بعيد .. عند مدخل الوادي .
ـ جيد إذن … عندي وقت كي أتوضأ وأصلي الظهر ، ثم أذهب مع المجاهدين للتَعَرُّض .
أذهلني الشيخ وحديثه ، وما زلت أعجب حتى الآن .
( ونعود إلى حديثنا تعليقا على الحادثتين فنقول ) إن بشرا من طراز خاص جدا كهؤلاء
لا بد لهم من طريقة خاصة جدا في القتال . وهذا ما كان ، ولم نستطع معه صبرا .لهذا تحركنا مع الوقت نحو تكوين مجموعاتنا القتالية الخاصة كي نقاتل بطريقتنا الخاصة . وبالمثل صادفنا ـ نحن المتطوعون العرب ـ بعض النكسات وبعض النجاحات . ويمكن القول أنه إلى حد ما كانت هناك مدرسة عربية للقتال في أفغانستان ـ وعلى الأصح مدارس.
وسنذكر ذلك في حينه .
تحميل مجلة الصمود عدد 157 : اضغط هنا
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )
22/02/2019