جلال الدين حقانى . العالم الفقية .. والمجاهد المجدد 4
بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
نقلا عن مجلة الصمود الإسلامية /السنة الثالثة عشرة – العدد (154) | ربيع الثاني 1440 هـ / ديسمبر 2018 م.
24/12/2018
جلال الدين حقانى
العالم الفقية .. والمجاهد المجدد
( 4 )
– أطباء ومهندسون حاولوا جمع تبرعات للمجاهدين الأفغان من أحد المساجد فى أبو ظبى ، فاعتقلتهم الشرطة بتهمة التسول “!!”.
– حقانى ومولوى خالص يدفعان سياف إلى قيادة “الإتحاد الإسلامى لتحرير أفغانستان” ، فكانا أول ضحايا إنحرافه .
– تحول سياف من قيادة طارئة إلى عاهة مستديمة للجهاد .
– اللقاء الأول لحقانى مع الشعوب العربية . وبداية الدور السياسى الخارجى لحقانى .
– حقانى نقل نبض الجهاد إلى العرب ، ومجددى أحبط فكرة “المتطوعين العرب” .
– عبقرية حقانى فى العمل السياسى لا تقل عن عبقريته العسكرية .
– القوة السياسية فى الداخل هى عماد العمل العسكرى للمجاهدين ، وأساس القوة السياسية فى الخارج .
تحميل مجلة الصمود عدد 154 : اضغط هنا
كيف إستفاد حقانى من أهمية باكتيا :
فى الإستراتيجية وفى السياسة وفى الحرب .
إنتهت زيارتنا إلى الجبهة بوداع مؤثر مع مجموعتنا (متعددة اللغات ) ، ومع مولوى عبد الرحمن الذى بعث معنا دليلا ليأخذنا إلى مركز “سرانا”. كان شهر رمضان يقترب ،كما أن موسم حصاد القمح أصبح على الأبواب ، لذلك كان عدد أعضاء المجموعة مرشحا للإنخفاض بشدة وكنا نحن أول الغيث . تركنا هدية للموقع عبارة عن ما نمتلكه من أكياس للنوم ، وسترات الميدان . وكنا الوحيدان المالكان لتلك الأشياء العجيبة .
بعد تلك الزيارة تكونت لدينا فكرة لا بأس بها عن أحوال المجاهدين وإحتياجاتهم . ومشاركتنا القتالية البسيطة أو ضحت لنا الكثير .
كانو ا فقراء فى كل شئ ما عدا الإيمان والمعنويات العالية ، أى فى حقيقة الأمر كانوا هم الأغنى فى كل شئ . لأن ما يملكونه هو ما حسم الحرب فى نهاية المطاف .. بعد سنوات مجيدة من الحرب الطاحنة .
جلسنا مع حقانى بعد عودتنا من مركز مولوى عبد الرحمن . أستقبلنا الرجل بإبتسامة عذبه ، وقال لى : ” لقد خشيت عليك أن تستشهد”.
تعجبت كثيرا من قوله ، وهو القائد الذى لا يكاد يمر يوم إلا وهو يودع شهيدا إما من رجاله أو من رجال القرى المحيطة به ، حتى تصورت أنه لايخشى من شئ ولا يخشى على أحد حتى على نفسه .
سألته عما يريد إبلاغه للعرب ، حتى نوصله إليهم عند عودتنا . وسجلت ذلك كتابة وكنت قد لمست بنفسى كل ما ذكره من إحتياجات ـ ولكنه ذكر نقطة أخرى وهى حاجة المجاهدين إلى إذاعة صغيرة يوصلون بها صوتهم إلى الشعب الأفغانى الذى يجهل الكثير عن ما يحدث .
وقد حاولنا فى كل ما ذكره حتى مسألة الإذاعة ، التى فشلنا فيها تماما . ولكن حقانى الذى لا يستسلم للفشل تابع ذلك الهدف حتى حصل بعد أعوام على إذاعة صغيرة متحركة وضعها فى موقع خلفى يسمى “جاور” . فكانت سببا فى صعود نجم “جاور” ونموها كقاعدة خلفية نشطة للمجاهدين ، فأصبحت هدفا للعدو ، وموضوعا لصراع مرير بين حقانى والحكومة فى كابول ، التى شنت على “جاور” حملات مدعومة من الجيش الأحمر ، بهدف إحتلالها بشكل دائم أو على الأقل تحطيم بنيتها التحتية بما فيها الإذاعة .
بعد عودتنا إلى أبوظبى ، وإتصالاتنا لنا كثيرة ، مع بيان طبعناه ووزعناه سرا على كبار الإسلاميين المهتمين . كان الأثر كبيرا ولكن لم يحدث (ثورة معلوتاتية) شعبية لأن ذلك يلزمه ضوء أخضر من أولي الأمر . وحتى هؤلاء كانوا فى حاجة إلى ضوء أخضر من جهة أعلى .
وقد حاولت مجموعة متحمسة من الأصدقاء ، وهم مهندسون وأطباء ومحاسبون وطالب ثانوية عامة . أن يجمعوا تبرعات للمجاهدين الأفغان بعد صلاة العصر فى أحد مساجد العاصمة فألقت عليهم الشرطة القبض بتهمة التسول”!!” .
وكانوا على وشك قضاء ليلة فى الحجز ، لولا أن تم الإفراج عنهم بعد وساطات مكثفة ودهشة الشرطة من أن المتسولين هم من أصحاب الوظائف العليا . ولكن المفرج عنهم كانوا من أصدقائنا المقربين لذا أسميناهم “أصحاب السوابق الجنائية ” .
بعد عودتنا إلى أبوظبى بأسابيع قليلة حدث إنقلاب فى كابل أطاح بالرئيس “نور محمد طراقى” وجاء بشيوعى من جناح منافس هو “حفيظ الله أمين” ، الذى لم يمكث سوى أسابيع قليلة حتى تفاقمت الصراعات الداخلية وأوشك النظام على السقوط ، فقتل بمعرفة السوفيت وأجتاح الجيش الأحمر أفغانستان فى أكبر عملية غزو إبرار جوى بعد الحرب العالمية الثانية .كان ذلك إيذانا بتحول جذرى فى وضع الأزمة الأفغانية وتحولها إلى موضوع كبير فى الحرب الباردة بين الكتلتين الغربية والشرقية ، ولم تلبث أن تحولت أفغانستان إلى أخطر قضايا الحرب الباردة بين الكتلتين ، والتى أسفرت عن أعمق الآثار الجيوسياسية فى عالم اليوم ، إذ سقطت الإمبراطورية السوفيتية واستفردت أمريكا بالعالم مدعية أنها إنتصرت فى الحرب الباردة وأسقطت الإتحاد السوفيتى ، وبذلك أصبحت سيدة العالم بلا منافس ، تفعل به ما تشاء .
تفاهة دبلوماسية فى مواجهة الإحتلال :
توقيت الغزو السوفييتي لأفغانستان كان لا يخلو من المهارة . فإلى جانب أنه تم في الشتاء حليفهم التقليدي في الحروب سواء في أفغانستان أو غيرها، فإنه تم في توقيت سياسي ملائم للغاية. فقد كان غريمهم الأمريكي في نقطة ميتة سياسيا فالرئيس الأمريكي كارتر كان في لحظاته الأخيرة في البيت الأبيض . والرئيس الجديد ريجان الذي تسلم منه الحكم ، وجد أمامه أمرا واقعا في أفغانستان . لهذا لم يوجه أحد إليه السؤال : لماذا تركتم ذلك يحدث …
وماذا فعلتم والسوفييت يحتشدون لعبور حدود قانونية لدولة ضعيفة ؟ . ولكن بدأت الأحاديث حول إجراءات عقابية ضد السوفييت وإجراءات لتطويق آثارالغزو على المصالح الأمريكية فى جنوب وغرب آسيا وخاصة مناطق نفط الخليج . لم تتحرك الدول الإسلامية إلا بعد أن مارست الإدارة الأمريكية الجديدة مهام عملها .
وأصدرت أوامرها وحددت السياسة (الإسلامية) العامة لمواجهة خطر الغزو السوفييتي على العالم الإسلامي والخطوات اللازمة في إطار المنظور الأمريكي . وبناء عليه عقد مؤتمر طارئ لوزراء خارجية الدول الإسلامية في إسلام آباد لبحث الموضوع
وتم إصدار البيانات المعهودة التي لا معنى لها واتخاذ خطوات أشد تفاهة، كان أعظمها خطرا هو إرسال طائرتى معونات إنسانية من خيام وأطعمة للمهاجرين الأفغاني فى باكستان كدعم عاجل من المملكة العربية السعودية . وعلى صعيد (المقاومة الأفغانية) فإن تأثيرات ذلك المؤتمر عليها هو إصرار القائمين على المؤتمر على تشكيل كيان متحد للمقاومة تستطيع الدول الخارجية التعامل معه فيما يختص بالقضية الأفغانية . وكان عدد الأحزاب الأفغانية للمقاومة ستة أحزاب . وبشكل عاجل تم تشكيل واجهة موحدة هى (الإتحاد الإسلامي لتحرير أفغانستان) برئاسة عبد الرسول سياف ، الذي خرج لتوه من سجون النظام في كابل. وفي أقل من شهرين تحول من سجين سياسي سابق إلى رئيس (الإتحاد الإسلامي لتحرير أفغانستان) ليكون أول أعماله هو الإجتماع بوزراء خارجية الدول الإسلامية لمناقشة موقف تلك الدول من قضية بلاده . ورغم أن زعامة سياف وظهورها على سطح الحياة السياسية (للمقاومة الأفغانية) كان يبدو وقتها كأثر ثانوي لذلك المؤتمر ، إلا أنه بمرور الوقت ظهر أنه كان واحدا من أخطر الأحداث في المسار السياسي للقضية. خاصة في علاقتها بالتيارات الإسلامية العربية التي تعاطفت عن بعد، أو قدمت للمشاركة ميدانيا في الجهاد.وأيضا من حيث تفاقم الصراعات الداخلية في حركة (المقاومة) الأفغانية المتشرذمة أصلا .
سياف .. من رئاسة طارئة ، إلى عاهة مستديمة للجهاد :
عندما أوشك المؤتمر الطارئ لوزراء خارجية الدول الإسلامية على الإنعقاد لم تكن المنظمات الجهادية في حالة تسمح لها بحضور المؤتمر . فالخلافات مستعرة وعدد الأحزاب ستة أحزاب كاملة التحزّب . فطلبت باكستان منهم ، عندما وجدت أن الزعماء الستة يريدون حضور المؤتمر كل زعيم يمثل حزيه ، طلبت إختيار شخص واحد يمثل الأحزاب جميعا أمام المؤتمر. كانت المشكلة التي يخشاها الزعماء أنه في حال إختيار ممثل واحد عن الأحزاب يخاطب المؤتمرفإنه سوف يكون الشخص المعتمد لدى العالم الخارجي .
وبالتالي فأي معونات خارجية يتسلمها نيابة عن الآخرين ، سوف يستأثر بها لنفسه, وقد يتحول إلى صاحب حزب, فمن السهل أن يشتري من يريد وما يريد بواسطة المال الذى توفر لديه . وكانت القاعدة أنه عندما يرغب حزبان في الإتحاد ، يتم إختيار شخصية ضعيفة كي ترأس الإتحاد المزعوم .
وبنفس الأسلوب وصل عبد الرسول سياف إلى سدة الزعامة. فقد كان ضعيفا، خارجا لتوه من سجون كابل . ويسكن في غرفة متواضعة، ويتلقى مساعدات مالية من أصدقائه داخل المنظمات. كان أشد المعترضين على ترشيح سياف هو حكمتيار الذي واجهه بحملة عنيفة من التشكيك والإتهامات.
فقد كان يرى أن سياف قد خرج معافى من سجون الشيوعية في كابل ـ في قصة غير مقنعة ـ حيث كان الشيوعيون يقتلون الناس لمجرد الإشتباه فما بالهم بشخص مثل سياف كان في صفوف متقدمة من زعامات العمل الإسلامي في كابل ؟؟.
لماذا لم يقتلوه وهو تحت أيديهم في السجن ؟ .
وأضافت مصادر حزب حكمتيار بأن سياف قد إستفاد من حماية الزعيم الشيوعي حفيظ الله أمين المهندس الحقيقي للإنقلاب الشيوعي,والذى تولى رئاسة الدولة فيما بعد. فتولى الرئاسة بعد أن تخلص من سلفه نور محمد طراقي . فقد كان سياف وأمين أبناء خالة . لذلك فإن سياف لم يسجن في السجن الرهيب “بولي شرخي” بل أنه نقل سريعا إلى نوع من الإحتجاز المرفه تحت حماية إبن خالته.
ولمزت مصادر الحزب في الظروف التي إعتقل فيها سياف في عهد محمد داوود . فقد أعتقل وهو في مطار كابل وكان في طريقه إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بعثة تعليمية موضوعها (التأهيل القانوني )!!.
بالنسبة لهم فإن الإفراج عن سياف في أعقاب الإحتلال الروسي ، وإغتيال إبن خالته أمين ما كان ليتم خطأ كما يدعي سياف ، ولا بد أن وراءه تدبيرا معيناً بين سياف والشيوعيين والروس . كانت الإتهامات خطيرة، لكن رواج الشائعات سواء بالحق أو بالباطل,أفقد تلك الإتهامات أهميتها .
تبنى يونس خالص وجلال الدين حقاني قضية سياف حيث رأيا أنه المخرج الوحيد المتاح مع ضيق الوقت على إنعقاد المؤتمر . ومارسا ضغوطا على باقي الأطراف لقبوله رئيسا يمثل إتحاد أحزاب المجاهدين، ثم أنه قد وقَّع لهما بالفعل على تعهد بعدم إنشاء حزب جديد لنفسه. نجح مسعاهما بعد مجادلات طويلة مع قادة الأحزاب الأخرى وجميعهم متخوف ومتشكك فى الرجل ونواياه . وقد ندم حقانى وخالص فيما بعد إذ كانا الأكثر تضررا من إنحراف سياف واستئثارة بالمعونات المالية القادمة من الخارج . فأشترى الكثير من أتباع المنظمات فى الداخل منشئا حزبا جديدا تحت إسم الإتحاد وكون جهازا بيروقراطيا كبيرا فى بيشاور جاذبا عدا من المشاهير فى الداخل وثبتهم فى مكاتب قضت على فاعليتهم فى الميادين . ثم ضيق على مندوبو المنظمات الأخرى فى دول الخليج خصوصا، مدعيا أنهم يعملون خارج الإتحاد بشكل غير قانونى . فعانت المنظمات ماليا وكان أكثرهم معاناة هو يونس خالص وحقانى الذى كافح كثيرا حتى لا يغرقه سياف فى مشكلات مفتعلة فى الداخل والخارج .
من أجل ملاحقة المؤتمر ظهر إلى الوجود إتحادا جديدا هو (الإتحاد الإسلامي لتحرير أفغانستان) . ولم يكن إتحادا فعليا ولم يكن بالطبع هوالإتحاد الأخير إذ تغير إسمه فيما بعد إلى (الإتحاد الإسلامى لمجاهدى أفغانستان) فى محاولة لإصلاح الخلل ، لم تسفر عن أى إصلاح . وظلت بيشاور حتى نهاية الجهاد هى أرض الفتن كما وصفها الكثير من المجاهدين المخلصين ومنهم حقانى .
تحميل مجلة الصمود عدد 154 : اضغط هنا
حقانى ينقل نبض المجاهدين إلى بلاد العرب :
إنتهى مؤتمر وزراء الخارجية بدون أي التزامات واضحة أو مساعدات للشعب الأفغاني . كان فقط مناسبة لتسجيل موقف لا يترتب عليه أي نتائج . كانت صدمة للقادة الأفغان وصدمة لأنصار الجهاد والقضية الأفغانية من أمثال صديقنا المنياوي (زميلى فى الرحلة الأولى) ، والصحفي من صحيفة الإتحاد الظبيانية سمير عبد المطلب (أول صحفى عربى زار أفغانستان . وقد زار الأورجون أثناء تواجدنا فى جرديز فى رحلتنا الأولى ) . فطالب الإثنان من سياف أن يترأس وفدا أفغانيا كي يزور دول الخليج لطلب المساعدة من الناس مباشرة .
وكانت المشكلة أن سياف لم يتلق دعوة رسمية بزيارة أياً من دول الخليج . فكيف له أن يصل إلى هناك ؟.
صديقنا المنياوي قال بأنه سوف يسعى إلى الحصول على تأشيرة لوفد المجاهدين برئاسة سياف، على إعتبار أنه وفد باكستاني جاء للحصول على تبرعات لمدرسة دينية .
وقام سياف بتحديد شخصيات الوفد وكانوا كالتالي :
عبد الرسول سياف صبغة الله مجددي ـ محمد نبي محمدی ـ جلال الدين حقاني . كان صديقنا الصعيدي يعمل وقتها سكرتيرا للدكتور عز الدين إبراهيم المستشار الثقافي لرئيس الدولة آنذاك. تكفل أحمد بتمرير أوراق الوفد عبد القنوات الرسمية كواحد من الوفود التقليدية التي تأتي لجمع التبرعات من مساجد الدولة وتطلب العون من هيئاتها الإسلامية . ولم ينتبه أحد إلى أسماء الوفد الذين لا يدري عنهم موظفوا الدولة أي شيء.
كانت تلك الزيارة ـ المعجزة ـ الخطوة الأولى لسياف كي يرسي دعائم قوية لعلاقاته العربية بشقيها الرسمي والشعبي . بل كانت فرصة لأول لقاء مباشر بين جهاد أفغانستان والشعوب الإسلامية ـ خاصة شعوب الخليج التي لعبت الدور الأهم في (التمويل الشعبي) للعمل الجهادي.
أجرى سياف خاصة ـ والوفد المرافق عامة ـ لقاءات واسعة جدا داخل مدن الإمارات. وقابلوا ما لا يحصى من الأفراد العاديين والمتحمسين والمسلمين المتدينين . وعقدت لقاءات كثيرة في المساجد ، وحتى داخل تجمعات الأفغان ، خاصة المنطقة الصناعية في مدينة العين التي تعتبر معقلا للبشتون من أفغانستان وباكستان .
رتبنا مؤتمرا صحفيا لسياف والوفد المرافق له ، في الفندق الذي يقيم به الوفد في أبو ظبي. إتصلنا بالصحف المحلية ، وقبل بداية المؤتمر إتفقنا مع مندوب جريدة الإتحاد على توجيه السؤال التالي : “هل أنتم في حاجة إلى متطوعين مسلمين لمساندتكم في الجهاد؟ “.
عقد المؤتمر وإنهالت الأسئلة وتأخر سؤالنا المنشود حتى قرب نهاية الجلسة . وما أن ألقى مندوب جريدة الإتحاد السؤال حتى تكهربت أعصابنا وتعلقت أنظارنا بالأستاذ سياف الذي تلقى السؤال وتهيأ للإجابة . ولكن صبغة الله مجددي إندفع كالقنبلة وتولى الإجابة بعصبية واضحة قائلا: نحن لسنا في حاجة إلى رجال، ولكننا في حاجة إلى أموال وأسلحة للقتال ، وأن على الدول العربية ودول الغرب أن تمد الشعب الأفغاني بمختلف نواحي الدعم السياسي والمادي كي يواجه الغزو السوفييتي .
إعتبر الصحفيون إجابة مجددي هي الإجابة الرئيسة، رغم أن سياف عقب عليها برد دبلوماسي لا يفيد شيئا ، حيث قال :إن الشعب الأفغاني يتصدى ببطولة للغزو السوفييتي ولكن إذا كنا نحن لسنا في حاجة للمتطوعين المسلمين ، أليس المسلمون في حاجة إلى الجهاد؟. في كل المناسبات التالية ولمدة سنوات كان سياف يكرر نفس الجملة عند تعرضه لهذه النقطة الهامة .
كان تخلصا دبلوماسيا لبقا من “أمير الجهاد”، فلا هو طلب متطوعين ولا هو رفض، وعلى كل طرف أن يفهم الجملة حسب هواه . إكتشفنا في وقت متأخر نسبيا أنه من المحظور على زعماء المنظمات في بيشاور توجيه دعوة عامة للتطوع في صفوف المجاهدين الأفغان ـ أي إعلان جهاد إسلامي عام .
ومع هذا فقد كانت الزيارة صخرة ضخمة ألقيت على سطح العمل الإسلامي الخليجى الراكد .
كان حقاني قد خرج لتوه من صدام عسكري مع الجيش الأحمر. لذا كان النغمة اليتيمة في الوفد الأفغاني ، لأنه الوحيد الذي يمثل الحقيقة الميدانية للجهاد. بينما رئس الوفد “سياف” قد خرج منذ أشهر قليلة من سجن مطول فى كابل إستغرق حوالى ست سنوات . وبالتلى فليس لديه أدنى فكرة عن الجهاد المسلح الدائر فى أفغانستان . وبالمثل باقى أعضاء قادة الأحزاب”الجهادية” مجددى ومحمدى ، وكلاهما ليس له علاقة مباشرة بالجبهات القتالية لا قبل الإحتلال الروسى ولا بعده .
وما كان يريد حقانى طرحه لم يكن متجانسا مع الطبيعة الإحتفالية للمواضيع التي طرحها الوفد ، والطابع الإنفعالي الحماسي للإجتماعات ، كما لم يكن متجانسا مع طبيعة الجمهور العربي المتعود على سلبية الإستماع ونشوة الحماس والتأثر بالخطابات البليغة. فلم يكن ممارسا لحيوية المشاركة وما تجلبه من متاعب وصعاب لم يتعود عليها . ويصح ذلك بوجه خاص على المجتمع الخليجي فائق الرفاهية ، بما في ذلك تجمعاته (المواطنة) أو (الوافدة) .
وأعظم ما تبلغه همم تلك التجمعات ـ حتى وقت الزيارة ـ كان دفع دريهمات لمشاريع الخير هنا وهناك . وما الجهاد عندهم ـ حتى ذلك الوقت ـ إلا واحدا من المشروعات الخيرية ، مثل بناء مسجد أو دار أيتام أو إستكمال مركز إسلامي في دولة أوروبية .
كان حقاني يريد أن يناقش القتال ومستلزماته ، والمجاهد ومطالبه، والجهاد وخطوط إمداده . وقد تحدث مع قليلين حول تلك الموضوعات وإستوعبه أقل القليل منهم . وظلت الجبهات ومشاكلها القتالية أكبر الغائبين عن ساحة الإهتمام الشعبي العربي طوال مدة القتال، مع تحسن نسبي بعد ظهور “أبوعبد الله” ـ أسامه بن لادن ـ على ساحة العمل القتالي العربي في أفغانستان .
كانت تلك هى المرة الأولى التى يمتد فيها الدور السياسى لحقانى ليشمل نطاقاعربيا ، بعد أن كان محصورا فى النطاق القبلى الذى هو أساس القوة الحقيقية للعمل الجهادى ، ولكن الإتصال الخارجى ونجاح حقانى فيه تحول إلى مدد هام جدا وفر له دعما ماليا وإعلاميا ومددا من المتطوعين العرب فيما بعد . ورغم قلة عدد العرب فى جبهات حقانى إلا أن إسهاماتهم كانت جيدة بل وهامة أحيانا .
الدور السياسى الداخلى .. أساس القوة الجهادية لحقانى :
إذا كان الدور العسكرى لحقانى ، يكاد لا يكون له نظير فى فترة الحرب ضد الجيش الأحمر السوفيتى ، وشاهد ذلك إنجازاته العسكرية الكثيرة الذى كان فتح خوست فخرها الأكبر والدليل الذى لا يدحض على تلك العظمة العسكرية .
ولكن إنجازاته وعظمته السياسية لا يكاد يلتفت إليها أحد ، رغم أنه لولا تواجدها ما كان له أن يحقق إنجازاته العسكرية كلها ، وبوجه خاص فتح مدينة خوست .
وحيث أن حقانى ـ مثل باقى القيادات الميدانية فى ذلك الوقت لم يكن مدعوما من قيادة عليا جهادية أو حتى قيادة حزبية مقتدرة ، فكان هو فى ذاته القيادة العليا الشاملة التى عليها أن تواجه ميدانيا جميع التحديات العسكرية والسياسية .
من الممكن ملاحظة التحديات العسكرية ونتائجها ، كونها صاخبة صخب ميدان المعركة، ونتائجها واضحة وصريحة : فإما نصر مشهود أو هزيمة ظاهرة لا يمكن التستر عليها خاصة فى الملاحم الكبرى . أما الإشتباكات المحدودة الحجم والنتائج ، والتى تعمل بالتراكم البطئ ، فتكون سببا للإنتصار الكبير أو الفتح الأعظم . ولكن لا ينتبه أحد إلى أهميتها لأنها مثل ضؤ المصباح الصغير . ولكن ضوء ذلك المصباح الصغير والمتكرر والدائم هو الذى أنار الطريق نحو النصر النهائى المبهر . لذلك فكل مجاهد استشهد فى تلك الإشتباكات الصغيرة التى لا تحصى ، هو صانع حقيقى ضمن صناع كثيرين ومجهولين لذلك النصر الكبير .
فى أثناء جولتنا التاريخية فى مسيرة حقانى سنتعرض من وقت إلى آخر إلى جوانب من نشاطه السياسى وأهم فروعه هو العمل بين القبائل ، وهو ذو صلة مباشرة بالنشاط الجهادى . وبدونه يغدو ذلك النشاط مستحيلا . حيث المحيط السكانى ذو تكوين قبلى . وفى ذلك الوقت عانت القبائل من عدة ضغوط : تهدد تواجدها ـ وتهدد تماسكها ـ وتهدد مصالحها المباشرة .
ــ أما ما يهدد تواجدها فهو هجوم جيش الإحتلال وأعوانه فى النظام الشيوعى الحاكم على القبيلة مباشرة.
ــ وما يهدد تماسكها ووحدتها فهو النشاط الحزبى الموجه من أحزاب بيشاور بتخطيط من باكستان والأعداء الخارجيين الذين إرتدوا لباس الصداقة الكاذبة ، مثل الأمريكيين ودول أوروبا وحكومات الخليج وخاصة النظام السعودى .
فقد عملت تلك الجبهة من أجل تفكيك القبائل بطرق شتى على رأسها إستبدال الولاء القبلى بالولاء الحزبى . خاصة وأن الولاء الحزبى يجلب المال والسلاح . وبتعدد الأحزاب إلى سبعة أحزاب (غير ثلاثة إنشقاقات أصغر) تقسمت القبائل إلى هذا العدد . ناهيك عن الإختراقات الحكومية ولم تكن علنية فى أغلب الأحوال . لكن عند سيطرة الحكومة على منطقة قبيلية معينة ، فسريعا ما تظهر كتلة قبيلية متعاونة معها بدوافع إنتهازية بحته وطمعا فى الأموال والزعامة القبلية . والعلاقات بين القبائل من المهم جدا معرفة تاريخها القريب والبعيد . فالمشكلات القبلية تتوارث لزمن طويل . خاصة المشاكل على الأرض والمراعى والغابات والماء .
أما الثارات فهى الطامة الكبرى ، التى من الصعب علاجها ، وتبقى سابحة عبر الأجيال والأزمان . ولعلاجها لابد من تصدى العلماء والزعماء القبلين وبذل الأموال حتى تحل المشكلة. حساسية القبائل تجاه كرامتها وسيادتها على أراضيها كانت مشكلة كثيرا ما تواجه المجاهدين فى تحركاتهم العابرة لأراضى قبائل عديدة ، خاصة إذا كانت متكررة أو يترتب عليها معارك قد تطال القبيلة أو تعرضها لإنتقام العدو . و الصراع الحزبى لم يكن نادرا، وفى بعض المناطق كان مزمناً .
ــ حتى المعارك التى تدور بالقرب من أراضى القبيلة ، وتنتهى بنصر المجاهدين ، فقد تقفز زعامات من القبيلة مطالبين بجزء محترم من الغنيمة فى مقابل أراضيهم التى إستخدمت فى العبور إلى مناطق القتال ، أو دار فوقها بعض القتال .
كل تلك المشاكل تحتاج إلى دراية عميقة بطبيعة القبائل والتاريخ السياسى لكل قبيلة ، وخريطة العلاقات بينها .. الآن .. وقديما .
تقريبا من المستحيل أن تحل أى مشكلة قبلية بدون وجود عالم دين فما بالك إذا كان هو حقانى بكل مهابته واحترامة وبطولته ؟؟ .
ــ كان حقانى مع تعدد “الكومندانات ” العسكريين داخل كل قبيلة ، وأنه مجبر على التعامل المباشر معهم إعتبارا للقوة التى تحت إيديهم من سلاح ورجال ، إلا أنه لم يهمل أبدا التعامل مع كبراء القبائل وزعمائها التقليدية من كبار السن ، وعلماء الدين فيها . وكان بذلك يضمن خطاً خلفيا يلجأ إليه فى حالة تعثر الإتفاق مع “الكومندانات ” حاملى السلاح والتابعين لأحزاب بيشاور، وتشكيل ضغط عليهم من داخل قبائلهم نفسها .
تحميل مجلة الصمود عدد 154 : اضغط هنا
حقانى والسياسة الإقليمية :
كيف إستفاد حقانى من أهمية باكتيا ، فى الإستراتيجية وفى السياسة وفى الحرب .
أهم السياسات الخارجية كان بالطبع السياسة مع الجارة اللدود باكستان ، التى هدفت إلى التحكم فى كل ما يجرى على الساحة القتالية فى أفغانستان وفى مقدمتها (الكومندانات) أى القادة العسكريين القبليين، كبيرهم وصغيرهم ، بالسلاح والإمدادات والمال (وجميعها عناصر قادمة من الخارج وليس من الحزينة الباكستانية). تسيطر باكستان على كل شئ بواسطة جهاز إستخبارى عسكرى هو(ISI) صاحب السمعة والقدرة ، والذى أسسه ضياء الحق الرئيس الباكستانى من أجل التدخل فى أفغانستان .
كان حقانى من الحالات النادرة التى ظلت عصية على الهيمنة الباكستانية ، وفرض عليهم معاملة ندية ، بل أن يده كانت هى العليا . والسبب هو قوته الشخصية والعسكرية ، وإحكام سيطرته على قبيلته زدران وهى القوة الضاربة الأولى فى ولاية باكتيا . تشاركها فى تلك الولاية ثلاثة قبائل هى منجل وجربز وتاناى . ولم تشهد باكتيا قتالا قبليا أو حزبيا ، والسبب الأساسى كان مجهود حقانى التصالحى والجامع الجهادى بين القبائل . لم تكن الخلافات أو حتى الأزمات غائبة ولكنها دوما كانت تحت السيطرة بمجهود كبراء القبائل الشرفاء المخلصين لإنتمائهم الإسلامى . وهكذا كانت باكتيا هى الأفضل من حيث التماسك والسلام القبلى بين سكانها.
أعطى ذلك أهمية فائقة لحقانى فى السياسة الخارجية عموما ، خاصة السياسة إزاء باكستان حيث أن ولاية باكتيا لها أهمية إستراتيجية فريدة بالنسبة لأفغانستان وباكستان معا . فهى الولاية التى تحتوى أكبر عدد من الممرات البرية الطبيعية التى تربط بين البلدين ، لذا كانت سيطرة الجيش الأحمر أو القوات الشيوعية على تلك الولاية تمثل كابوساً يؤرق السلطات الباكستانية . وحائط الصد الأساسى فى ولاية باكتيا هى قيادة حقانى التى تحفظ للولاية تماسكها وقوة ردعها التى تصد الجيش الأحمر .
وكان ذلك عاملا حاسما فى إستمرارية الجهاد ونجاحه فى نهاية المطاف . فإن 80% من الإمدادات الذاهبة إلى الجبهات فى معظم المحافظات كانت تمر من باكتيا . وبالتحديد ممر جاجى ثم ممر خوست عبر قاعدة حقانى فى جاور . وفى كلا الموضعين (جاجى وجاور) دارت أعنف معارك الحرب بسبب تلك الممرات ، التى إستمات السوفييت فى إغلاقها واستبسل المجاهدون فى الدفاع عنها ، دافعين أغلى الأثمان بالدماء والأرواح .
( سوف نمر على أهم تلك المعارك خلال هذا الكتاب).
وكانت تلك هى ورقة القوة الأساسية فى يد حقانى والتى وفرت له اليد العليا فى التعامل مع باكستان وأجهزتها الإستخبارية . رغم أن تلك الأخيرة حاولت بشتى الطرق الحد من نفوذه أو إيجاد قيادات منافسة تقلل من قوته . وفى بعض الأحيان حاولوا التخلص منه نهائيا(بالإغتيال) خاصة قبل فتح مدينة خوست والذى كان خطاً أحمراً ـ بإتفاق دولى بين الكتلتين ـ حتى يرغموا المجاهدين على قبول تقاسم السلطة مع الشيوعيين فى كابول . حتى أنهم نقلوا إلى حقانى تهديدا(بضربة نووية ) إذا إقتحم خوست !! .
لم يرضخ حقانى للتهديد النووى ، كما لم تردعه محاولة الإغتيال ــ ثم حاولوا إفشال إقتحام جرديز ، ونسجوا مؤامرة نجحت فى تعطيل المحاولة الأولى للفتح (أكتوبر1991) ولكن فى الربيع لم تسطع حامية المدينة تحمل الحصار والرعب الذى أصابها من تحفز المجاهدين ومناوشاتهم الدائمة والخطيرة .
فى مثل المجتمع الأفغانى فإن السياسة القبلية للمجاهدين هى عماد قوتهم السياسية وبالتالى قوتهم العسكرية . وبشكل عام فإن القوة السياسة الداخلية (داخل الوطن) هى عماد القوة فى مجال العمل السياسى الخارجى ــ والعكس غير ممكن ــ لأن القيادة التى تسيطر على زمام العمل الجهادى بدعم الخارجى عسكرى وسياسى ومالى وتسليحى ، لا يلبس أن تكون كارثة عظمى على شعبها ، سواء نجح مسعاها أو فشل ، فإن حمامات الدم تصبح حتمية . وقد شهدت أفغانستان ـ فى العصر السوفيتى ـ تلك الحالة ، خاصة فى مثالها الأهم وهى الأحزاب (الجهادية) فى بيشاور والتى تصدرتها شخصيات لا دور يذكر لها فى قيادة قبائلها أو شعبها .
فتسببت فى مآسى لأفغانستان سواء فى عهد الإحتلال السوفيتى أو فى عهد الإحتلال الأمريكى فكانوا ضد شعوبهم على الدوام وفى خدمة القوى الإستعمارية الخارجية التى تشترى خدماتهم ، وتصنع زعامتهم المزيفة .
ونظرا لخطورة موضوع السياسة فى الحروب ، سنعود إليه مرارا فى سياق هذا الكتاب .
تحميل مجلة الصمود عدد 154 : اضغط هنا
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )
24/12/2018