سلسلة مقالات في التربية السياسية
المقال الثالث بعنوان: الفكر السياسي وعلاقته بالسياسة الشرعية
بقلم/ الدكتور محمد كامل شبير
السياسة الشرعية، هي عبارة عن مكونات سياسية شرعية مرتبطة ارتباطاً وثيقًا، تهدف لإعلاء المصالح العامة، وتجنب المفاسد والتي تفضي للاستبداد والظلم، أو انتشار الفساد كظواهر اجتماعية نهى عنها الشرع؛ من خلال تفاعلات أحداث الواقع، التي تبني فهماً مبنياً على الحكمة المستقاة من فهم مقاصد الشريعة؛ لتنتج فقه الواقع السياسي الذي يجمع ما أحدثه الواقع مع وجود المعطيات السياسية، وعليه يكون القرار السياسي الشرعي، وعليه فإن السياسة الشرعية هي: أحكام شريعة التي تهدف للمصلحة العامة، مزودة بفقه الواقع الذي بني على دراسة الواقع، مع تحليل المعطيات السياسية وعليه استنباط السياسة المرجوة، والتي تهدف لمصلحة الأمة، والرصيد لها في دحر العدو والتمكين لها، فمكونات النظام السياسي هي: (الثابت والمتحول والمتحرك)، والذي يؤدي إلى الفكر السياسي الرشيد، والمتمثل بالثابت (أحكام الشريعة ومقاصدها) والمتحول (الواقع وفقهه) والمتجول أو المتحرك (المعطيات السياسية وتحليلها)، الهدف منه المصلحة العليا العامة، ويقاس بإنشاء الخطة السياسية، والتي من أجلها يسوس السياسيون الأمر، فتتجلى الحكمة والمبادئ الإسلامية (الأخلاق) في ربط مكونات العملية، كفاصل لتحقيق مصلحة عامة، تضمن نتائج أفضل مما كان عليه حال الواقع، فالخروج عن استبعاد أي مكون من مكونات العملية السياسية المذكورة آنفاً، أو النظر للأهداف الشخصية، وترك الهدف العام كمصلحة جامعة وعامة، أو إتباع الهوا النفسي لتعصب قومي، أو قطري، أو قبلي، أو حزبي أو تنظيمي، يشكل عامل ضار بالقرار السياسي؛ لما ينتجه من الإضرار العام بمصلحة المجتمع، فيكون ارتكب مخالفة للسياسة الشرعية، والتي تسبب إعطاء فرصة للعدو من التمكن وبسط سيطرته أو من تفلت الشعب أو التابعين.
فالناظر اليوم في ما مر معنا من فهم ومن تفسير عميق للسياسة؛ على أن تكون سياسة شرعية، هو الهدف منها إقامة العدل والإحسان بين الناس، والناظم بينهم أحكام الدين دون تجزئة، أو استبدال لهذا الدين، فهذه كانت في زمن الإمام وحالة الاستخلاف، لكننا اليوم نعاني من فهم يظهر حالة السياسة في غياب هذا الأمر (الدولة الإسلامية وإمامها)، وهنا يتجلى الفهم السياسي للمخاطر المحدقة بالأمة، والتي تستطيع أن تمتلك فهم سياسي يرقى لدحر العدو عن بلادنا، والذي يهدف للإبقاء على حالة التشظي والتجزئة، لينال من الكيان الجامع للأمة، ويبقى على حالة التفرد، مما أنتج حالة الهيمنة والغطرسة والتبعية، ليمسي كل قطر على مصالحه الخاصة، ويقدمها على المصلحة العامة للمجموع العربي والإسلامي، مما أنتج مفسدة أكبر تتجلى في التغول للعدو، وصناعة نظام دولي، يشق الطريق على كل قطر منفصل عن باقي الأقطار العربية والإسلامية، ليحصل على استقلاليته، والإفلات من تحت قوانين النظام الدولي الجديد، والأخطر من ذلك، تجد القطر الواحد يدفع بكل مصالحه، لاسترضاء النظام الدولي الجديد، وذلك مقابل أن يبقي على حالة التفرد بحكمه على شعبه، وبذلك يكون قد أخل بشرعيته، والتي تستمد من الشريعة والإسلام الذي يحافظ على إزكاء فهم العمل السياسي، والذي يهدف إلى إعلاء قيمة مصلحة الأمة متجردة من الأهواء والمصالح القطرية… وهنا نجد أن الأقطار العربية والإسلامية، تستجدي القوى المهيمنة، ووصل الحال على أن تكون سياستهم مرتبطة بمصالح عدوهم، مما خلق حالة استنزاف لمقدرات أوطانهم، إن الفهم السياسي في عصرنا الحالي، يجب أن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأهدافنا؛ ومصلحة أمتنا، ومعرفة تفاصيل وخطط وأهداف العدو في النيل منا ومنها، والتي يتفق الجميع أن عدونا يستهدف تمزيقنا وتفريقنا؛ ليسهل عليه عملية التفرد، والعمل لحسابه، متجنباً إسقاط أئمة الأقطار، كما يعمل العدو لإزكاء حالة الوظيفية في المجتمع العربي والإسلامي للأقطار أو الجماعات، لينال من خلال العملية الوظيفية بسط أكثر لنفوذه، وأكثر تحكماً في مصادر ثرواتها ومقدراتها، والأخطر من ذلك بات المقرر للنظام السياسي، والذي صنع له أدواته لتحمي مصالحة في كل قطر من الأقطار العربية والإسلامية، من حكام مؤجرين يتقاضون رواتبهم من دماء شعوبهم باسم الرأسمالية، والحكم العسكري، وعليه استطاع العدو أن يستهدف النظام السياسي العام للأمة العربية والإسلامية، أن جعل المصلحة العامة ليست هي الدافع لبناء النظام السياسي العربي الإسلامي، إنما بنا نظاماً مجتزأً ومهترئاً، هدفه الحفاظ على المصلحة الشخصية للزمرة الحاكمة، مما جعل الهوى هو الهدف الرئيسي للأنظمة السياسية، وتهدف لسياسة برجماتية في المجتمعات العربية الإسلامية، لا ترقى للانفصال عن النظام الدولي الجديد، الذي يهدف للتحكم في مصائر الأقطار العربية، فتبقى رهينة المحاسبة القانونية الدولية، وهي من صياغته المحكمة، والتي لا تجعل أي قطر يفلت من أنياب قوانينه التي صنعت من أجل البقاء على هيمنته، والسيطرة على مقدرات الأمة العربية والإسلامية.
يقول ابن عقيل الحنبلي: “السياسية ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول r ولا نزل به وحي”، كما قلنا قبل ذلك، أن جوهر السياسة الشرعية هو استجلاب المصلحة التي لا يوافقها مفسدة أكبر منها في الحاضر والمستقبل، وهذا الفهم لا يحتاج لدليل من القرآن والسنة … بل يحتاج لفهم مقاصد الشرع، ومن أجل ذلك كان من المغالطة، أو الغلط ما يزعم بعض المخالفين من أنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فهذا القول فيه غلط وتغليط، كما قال بن عقيل: “لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فيه غلط وغلط الصحابة”، فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما لا يجحده عالم بالسنة، فكفى تحريق علي رضي الله عنه الزنادقة، وتحريق عثمان رضي الله عنه المصاحف، ونفي عمر رضي الله عنه بن نصر بن الحجاج… كما أن فعل الخضر وهو يُعَلم سيدنا موسى عليهما السلام، وما قام به من قتل الغلام وخرق السفينة وبناء الجدار، ليست مخالفة لشرع الله وأمره، فالشريعة لها مقصد، وجوهرها المصلحة المترتبة على الفعل الذي يقوم به الراعي، فالشرط أن يعلم الراعي بالمصلحة المترتبة عن الفعل، فهذه الأفعال تدل على أنَّه يكون من الأمور ما ظاهره فساد ؛ فيحرِّمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل ، وهو مباح في الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته.
قال بن القيم هذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك في معترك صعب ، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل، وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم; فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر.
فعليه عندما قال بن عقيل: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فيه غلط وغلط الصحابة” ليس المقصود أن السياسة بكليتها وتفاصيلها اليومية والتي نعيشها كلها جاءت نصاً في القرآن والسنة، ولكن فإن القرآن والسنة وأحكامهما هما الناظمين لسياستنا، فعليه فإن السياسة التي تسوس الناس يجب أن تكون موافقة للشرع وأن تكون تلك الأحكام الجزئية متفقة مع روح الشريعة، ومبادئها الكلية، وأن تكون مع ذلك غير مناقضة لنصٍ من نصوصها التفصيلية، التي يراد بها التشريع العام؛ فالقول بأنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع قول صحيح ومستقيم، تؤيده الشريعة نفسها، ويشهد له عمل الصحابة، والخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين.
بقلم/ الدكتور محمد كامل شبير
المصدر:
مافا السياسي (ادب المطاريد)