الأمة بين الواقع والمأمول (1)
الأمة بين الواقع والمأمول
(1)
ان تحصيل المنفعة ودرء المفسدة هي عماد حركة الانسان وخلاصة ما يسعى اليه، ندلف من هذا المعنى الى أبرز نشاط اجتماعي يمارسه البشر وهو النشاط السياسي اذ به تنتظم أمور الناس في معاشهم وبالنسبة للمسلمين في معادهم (السياسة الشرعية)، فالأرضية التي يرتكز عليها خط السياسة تتوافق مع قاعدة الشريعة الكبرى: جلب المصالح ودرء المفاسد. نركز على الشأن السياسي كونه عصب المجتمع والمؤثر الرئيس، حيث ان صلاح الاجتماع البشري متوقف عليه سلبا وايجابا. والتاريخ يؤيد ذلك فلقد زخر العالم الاسلامي بالعلوم المتنوعة والمولفات الكثيرة والمكتبات المتعددة ولكن ذلك لم يشفع له من دخوله في دوامة من الازمات الداخلية التي اخذت مناحي من الصراعات الدموية والمؤامرات الداخلية واستقلال كل طرف عن اخر مما كان له الاثر الكبير في انحدار الحضارة الاسلامية التي كانت المسيرة العثمانية اخر حلقة في عقدها الممتد على مدار قرون طوال، كل ذلك نتيجة الاضطراب والانحراف في المسار السياسي .
لا يمكن استيعاب الحاضر الا بالرجوع الى صفحات الماضي ونتوءاته كونه من المؤثرات في تشكيل الراهن ورسم اطاراته، ان التعدد في الكيانات الاسلامية منذ العباسيين في بغداد والامويين في الاندلس، وبعدها كيانات التغلب التي استندت الى شوكتها وقدرتها على الاستيلاء على السلطة وارتباطها الرمزي بمسمى الخلافة، وتعددت هذه الامارات تبعا لجنس وعرق فضلا عن اتباعها مذاهب دينية شتى، افرز ذلك اشكالات مهمة على الواقع في السياسات والعلاقات. لتجيء الدولة العثمانية في نموذج لتحقيق جامعية الامة حتى لو أتاحت التعدد داخلها، ليس على نمط التعدد المتغلب وامارات الاستيلاء والارتباط الرمزي، بل صهر تلك الكيانات من خلال حروب جمعتها في منظومة الخلافة العثمانية انطلقت بعدها فاتحة لأجزاء من اوربا والتي حملت هذا الهاجس العثماني في طيات سياساتها في فترة وجوده وحتى بعد تفكيكه.
وبغض النظر عن فشل هذا النموذج في النهاية سولء جاء تفسيره لأسباب داخلية تتعلق باالكيان العثماني ذاته، أم في علاقاته المتعددة مع كيانات أخرى انتظمت داخل منظومته، أو لأسباب خارجية داخلية تشكلت فيما سمي “بالثورة العربية” واتفاقات وعلاقات مع الدول الاوربية حملت قدرا من الخداع الذي كان مقدمة لتقسيم مناطق نفوذ استعمارية كانت تحت سلطانها..
فرض الواقع الجديد بعد انفراط الحلقة الاخيرة في عقد الحضارة الاسلامية وهي الدولة العثمانية النقاش حول المشروع الاسلامي خصوصا مع سقوط معظم الدول العربية والاسلامية تحت الاحتلال، فتفاوتت الاجابات أحيانا وتناقضت أخرى. ووقع هذا النقاش تحت تأثيرين: هزيمة الدولة العثمانية(المشروع الاسلامي) وغلبة النموذج الاوربي(الغربي). اي : أن مرتكز التفكير في المشروع لم يكن مستقلا عن هذين المتغيرين. كانت السلفية احدى تلك الاجابات التي رأت في التمسك بالتراث مشروعا”اسلاميا” لحفظ الدين والهوية. كما كان التوفيق بين التراث( الدين) وبين منجزات الغرب اجابة اخرى عن هذا التحدي. في حين ذهب اخرون الى الاقتداء بالنموذج الغربي بديلا للمشروع الاسلامي الذي سقط بسقوط الخلافة.
لكن على مستوى آخر كان المشروع الاسلامي هو في الوقت نفسه مشروع التباين التاريخي بين السنة والشيعة. بين نموذجي الخلافة والامامة.الا ان هذا التباين في الواقع لم يترك اي تأثير على “المشروع الاسلامي” قبل انتصار الثورة الاسلامية في ايران .فقد كانت الحركات الاسلامية لا تزال اسيرة التنظير لهذا المشروع .أي انها لم تكن في موضع الابتلاء بتقديم النموذج العملي التطبيقي للمشروع الاسلامي . فقد كانت الحركة الاسلامية إما في موقع التبشير والدعوة ونشر الكتب،وإما في موقع المعارضة السياسية، أوفي المنافي والسجون…أما النموذج السعودي فلم يكن موضع اعتراف من قبل مفكري الحركات الاسلامية ومنظريها باعتباره مشروعا اسلاميا”.. باستثناء التجربة التركية التي عملت تحت سقف العلمانية باعتباره خطا لا يسمح بتجاوزه. على الأقل في بداية تقدم المشروع الاسلامي الذي جاء به حزب العدالة والتنميةونوعا ما حتى الان.
قبل انتصار الثورة الاسلامية في ايران كأول نموذج لمشروع اسلامي معاصر استطاع ان يصبح في الحكم ويؤسس دولة،كانت الرؤى الاسلامية لهذا المشروع تتراوح بين رؤية الاخوان المسلمين ، وبين رؤية الجماعات الاسلامية (في مصر)التي اعتبرت ان المشروع الاسلامي تنقصه الفريضه الغائبة(الجهاد) ضد الحاكم.(اغتيال السادات)
وعندما نقول قبل انتصار الثورة في ايران فالمقصود بذلك ان الاسلاميين لم يشهدوا اي تجربة عملية لمشروع اسلامي ينقل افكارهم وتصوراتهم الى واقع الحكم والادارة وممارسة السلطة.طالما ان التجربة السعودية لم تكن تمثل بالنسبة الى المنظرين والمفكرين والحركيين الاسلاميين (السنة والشيعة) نموذجا” عمليا” لهذا المشروع .
شهد الواقع العربي والاسلامي في العقود الماضية نموذج الدولة القومية التي كانت نشاتها نتيجة تفاعلات تاريخية ودينية وسياسية وفكرية في بلاد اوربا، كما تزامن مع وجودها دخول تيارات فكرية ومذهبية للعالم الاسلامي فالعلمانية والشيوعية والليبرالية والبعث والناصرية لتفرض نفسها كمشاريع تتضمن ملىء الفراغ الذي تركه سقوط العالم الاسلامي.!
كما عاش الوسط الاجتماعي الذي تزامن مع عصر الدولة القومية تجاذبات بين اتجاهات متعددة من الالحاد الى العلمانية الى الدين وانقسم بذلك غلى نفسه وتنافرت اجزاءه، ناهيك عما احدثه التدخل الغربي في شؤون العالم العربي والاسلامي وزرع دولة اسرائيل في قلب فلسطين؛ لننتهي بحصاد اقل ما يمكن ان نصفه به أنه حصاد مر.
ان مفهوم الدولة القومية ونشأتها المشوهة والواهنة وسيطرتها الاستبدادية وحالتها الفاسدة وبلوغها عتبات الدول الفاشلة ، تجعلنا نبحث عن معادلة الدولة القوية الفاعلة والراشدة والعادلة ،هذا البحث عن هذا النموذج لا بد أن يكون ضمن الاهتمامات للمشروع الإسلامي الكبير..فهل يمكن أن يسهم الاجتهاد من قبل من يؤمنون بهذا المشروع ضمن هذه الساحات التي لا تقبل الانتظار أو الإرجاء.
لقد خلف واقع الحكم الذي ساد المنطقة جملة من الازمات ياتي في مقدمتها ما يعرف بالبيئة النابذة للسياسة وهي متباينة الأشكال؛ منها ما يكون في شكل بيئة مغلقة على السياسة بالكلية ولا تكون فيها الا شأنا خاصا مخصوصا(فئويا) لا شأن للناس والمجتمع به.السياسة في هذه البيئة محرم من المحرمات التي لا تقبل الانتهاك والمشاركة. لذلك لا قوانين في مثل هذه البيئة تنظم الشأن السياسي، ولا دساتير تحيطه بالضمانات، لانه باختصار شأن غائب لا يوجب تشريعا مناسبا. ان ما يطبع عذه البيئة هو انعدام المجال السياسي لتحتكرها فئة محدودة من المجتمع، ويترتب على ذلك ليس فقط منع تكوين مجتمع سياسي بل لا يسمح بتكون مجتمع مدني. فينتهي نموذج هذه البيئة المغلقة الى انتاج قطبية تنابذية حادة بين السلطة والمجتمع..
ومن هذه البيئة ما يكون في ظاهره مفتوحا فيما يشبه الأول في انغلاقه؛ فمن حيث الشكل ثمة برلمانات وأحزاب ونقابات وجمعيات حقوقية وصحافة معارضة…، غير أن عذه جميعها مكبلة بقوانين تقييدية تحد من قدرتها على العمل وممارسة وظائفها أو محاصرة ومراقبة بطرق غير قانونية، والمنتسبون اليها معرضون في أي وقت للاعتقال والتوقيف.فهذا النموذج تتحول فيه كلفة السياسة عند من يغامرون بممارستها الى الحدود التي لا تكون فيها الغرامة منعا لممارسة الحقوق فحسب، بل تصبح انتهاكا للحرية -النفسية والبدنية- ومسا بالحق في الحياة في احيان كثيرة.
هذا التوصيف من الانسداد السياسي هو القائم في قسم كبير من البلاد العربية، والذي أتت أحداث الربيع العربي في وجه رئيس من وجوهها، تفصح عنه وتمثل في الوقت عينه احتجاجا عليه وعلى ما يلقيه من تبعات ونتائج كارثية على الحياة العامة والخاصة؛ على الحقوق والحريات. فمنذ فرض الانسداد في النظام السياسي أحكامه فقضى باعدام السياسة كامكان من امكانات الفعل الاجتماعي المنظم وبالتالي قضى بأن يسلك الفعل الاجتماعي مسالك غير سياسية؛ عسكرية مسلحة..
ما كان «الربيع العربيُّ»، في حساب السياسة، شيئًا إلاّ أنه تنزَّل منها بمنزلة المخْتَبَر الذي تختبر نفسها فيه. وفي المختبر هذا تبيَّن، بأسطع البيّنات، أنها ( السياسة) كانت مهترئة، ومؤسساتُها الحزبيّة متهالكة.
بقلم: أديب أنور
المصدر :
مافا السياسي ( ادب المطاريد )