جلال الدين حقانى . العالم الفقية .. والمجاهد المجدد 2
بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
نقلا عن مجلة الصمود الإسلامية / السنة الثالثة عشرة – العدد (152) | صفر 1440 هـ / أكتوبر 2018 م.
16/10/2018
جلال الدين حقانى
العالم الفقية .. والمجاهد المجدد
( 2 )
– مصرع كافر قبيلة ” إبراهيم خيل” .
– راهب الجهاد ” الشيخ محمود” يستشهد فوق بندقيته أثناء الصلاة .
– الشهيد الغريب “السيد أحمد” … سيد الهاون .
تحميل مجلة الصمود عدد 152 : اضغط هنا
هذا هو إلهى .. فأطيعوه :
الطريق القادم من جرديز ما أن ينتهى من سلسلة جبال (ساتى كاندو) المكسوة بغابات الصنوبر ، حتى تبدأ مناطق تسكنها قبائل “زدران” وتستمر حتى بداية وادى خوست لذا أطلقوا على الطريق إسم تلك القبائل فصار إسمه طريق ( زدران) .
رغم أن العديد من قادة الجيش الماركسيين الكبار هم من أبناء هذه القبيلة ، إلا أن العلماء وشيوخ القبيلة وأفردها ، لم يوافقوا على ما يحدث ، وكان قرار القبيلة أن الحكومة الجديدة (كافرة) ولهذا قرروا مقاطعتها ، وألا يسمحوا لها بالمرور من أراضيهم ، أى أنهم قطعوا الإتصال بين جرديز وخوست .
تحت أقدام “ساتى كاندو” تبدأ منطقة يسكنها فرع من زدران يدعى”إبراهيم خيل” ـ يعنى قوم إبراهيم ـ تصادف أن يكون منهم القائد العسكرى فى جرديز وقتها هو ضابط شيوعى شاب ومتحمس للغاية يدعى إبراهيم ، وكان قائدا لسلاح المدرعات فى الولاية ، فذهب إلى قبيلته كى يقنعهم بفتح الطريق .
قصة الضابط إبراهيم مع قبيلته كانت على العكس تماما من قصة نبى الله إبراهيم مع قومه. كان الضابط إبراهيم كافرا وقبيلته من المؤمنين . بالحجة حاول أن يقنعهم بالكفر ، ولما فشل حاول إجبارهم عليه بقوة الدبابة ــ إلهه الجديد كما زعم ــ فكانت نهايته المأساوية .
شيوخ القبيلة رفضوا مرور الجيش من أراضيهم لأن الحكومة كافرة لا تؤمن بالله . الضابط إبراهيم ناقشهم طويلا وهددهم بأن الحكومة ستفتح الطريق بالقوة إذا لم يفتحوه طوعاً ، وأن بيوتهم ستدمر وتحرق ، وأن لا طاقة لأحد بهذه الحكومة وجيشها الجبار .
أصر شيوخ القبيلة على موقفهم ، فتحداهم الضابط إبراهيم قائلا: تقولون أننا الشيوعيون لا نؤمن بالله .. فأين هو إلهكم ؟ .
فردوا عليه قائلين : إن الله هو خالق كل شئ ، ولكن لا أحد يستطيع رؤيته .
ضحك إبراهيم مستهزئا وقال بأن عنده إله قوى وجبار أقوى من إلههم ولكن يمكن رؤيته ، وسيحضره معه صباحا كى يريهم إياه ، وطلب منهم إنتظاره فى وقت محدد من صباح الغد .
فى الوقت المحدد حضر الضابط المغرور ممتطياً ظهر دبابة سوفياتية من طراز (تى62) وهى الدبابة الأثقل لدى الجيش وقتها .
كان رجال القبائل يخشون الدبابات كثيرا ، وهذا كان أول إحتكاك لهم مع واحدة من تلك الوحوش التى لا تصرعها طلقات بنادقهم العتيقة ، وكان مجرد صوتها يثير خوفهم . وصل إبراهيم وصوت دبابته يهز الجبال ، وقد تجمهر شيوخ القبيلة والكثير من أفرادها المبهورين الخائفين ، وإبراهيم منتصب القامة فوق دباباته وكأنه قهر بها العالم . ثم أخذ يروح بها ويجئ ويستدير ويعتدل ، ويطلق القذائف على قمم الجبال القريبة والبعيدة فيرتج المكان والأبدان .
إمتقعت وجوه الحاضرين ، ولا أحد منهم ينطق ببنت شفة . نزل إبراهيم منتشيا مزهوا من على ظهر دبابته ، ووقف متحديا شامخاً أمام شيوخ القبيلة ، وتكلم بزهو المنتصر :
ــ هذا هو إلهى !! هل رأيتم كم هو قوى وجبار ؟؟ . إنه سيفتح لنا هذا الطريق ، وإن لم تطيعوه فإنه سيدمركم .
وقف الشيوخ واجمون صامتون ، ثم طلبوا منه إمهالهم ساعة للتشاور قبل إعطائه الرد. غادروا المكان للتداول فى مكان آخر . وبعد قليل عادوا من مجلس تداولهم ، وتقدم أكبرهم سناً حتى يبلغ الضابط الشاب بنتيجة بحثهم . قال الشيخ :
ــ يا إبراهيم لقد بحثنا الأمر ، وقد تأكد لدينا أنك أيضا كافر مثل حكومتك ، ولن نترككم تمرون من هذا الطريق مهما حدث . أما إلهك هذا فليس سوى كومة من صفيح ، فخذه معك وإرحل من هنا .
فبهت الذى كفر ، واستشاط الضابط المغرور غضبا ، وثار مهددا متوعدا :
ــ سنمر من هذا الطريق بالقوة وسنحرق قراكم ، سآتى بالجيش غدا صباحاً فى مثل هذا الوقت من ضحى الغد ، إحضروا كل القبيلة وسأرى من منكم يستطيع منعى .
وغادر إبراهيم المجلس غاضبا ، وركب إلهه الفولاذى وغادر به إلى جرديز .
دقت طبول الحرب فى”إبراهيم خيل” وكل قبائل زدران ، إستعدادا لصراع غير متكافئ بين أجساد الرجال وبنادقهم العتيقة وبين جيش جرديز ودباباته الفولاذية التى لا تقهر .. وموعد اللقاء الرهيب كان ضحى الغد .
شارك حقانى ورجاله فى ذلك الكمين . وبسبب إنشغاله فى ترتيب أمر الكمين والمشاركة فيه تأجل ذهابنا إلى لقائه فى سرانا ليوم أو إثنين .
لم يكن لدى القبائل أدنى فكرة عن أن هناك سلاح يمكن أن يواجه الدبابة ، ولا عن أى طريقة لمواجهتها . إنهم يواجهون المستحيل ، وكانوا حقا يذهلوننا بذلك . عندما كنا نسألهم فى مواقف مشابهة “ماذا ستفعلون؟؟ “، فكان ردهم دوما وبكل هدؤ وثقة ” توكل بخداى” ـ أى التوكل على الله !! ــ كنا نظن أن تلك مجرد كلمة . ولكنها عند الأفغان سلاحهم السرى الذى لايقهر … والدليل ؟؟ :
فى ضحى اليوم التالى للقائه مع شيوخ قبيلته “إبراهيم خيل” ، جاء الضابط إبراهيم مع قافلة عسكرية ضخمة مهمتها فتح الطريق بالقوة ، وإيصال المؤن إلى مدينة خوست . فبدأ سيل من الدبابات ومئات الجنود المدججين بالسلاح فى سياراتهم المصفحة . ورجال قبيلة زدران يرون الزحف المرعب يزلزل جبال ستى كندو وترجف منه جبال إبراهيم خيل .
نزل الجيش من جبال ستى كندو وبدأ التقدم عبر منطقة “إبراهيم خيل”. فدوت صيحة جماعية من رجال القبائل المستحكمين خلف الصخور: “الله أكبر” !! صيحة زلزلت هى الأخرى جبال “ستى كندو” و”إبراهيم خيل” ، وغطت على زمجرة عشرات الدبابات والمصفحات والشاحنات العسكرية ، وطائرات الميج النفاثة التى تمزق الفضاء .
والنتيجة !!.. لم تعبر القافلة .. ودُمِّرتْ عن آخرها .. ولم ينجو جندى واحد ولا ضابط واحد حتى إبراهيم كان من بين القتلى . دبابة روسية واحدة قديمة جدا من طراز”تى ـ 34″ إستطاعت الفرار ووصلت منفردة إلى خوست كى تنقل نبأ الفاجعة .
كيف حدث كل ذلك ؟؟.. لا أحد يدرى لا من القتلى ولا من الأحياء ، ولا من الذين قابلناهم بعد ذلك نسألهم الخبر .
وكنا قريبين من المنطقة وقت المعركة ، وقد ذهبنا لرؤية آثارها وأخذنا الكثير من الصور لحطام القافلة العسكرية ، وكان ذلك أثناء زيارتنا الأولى لأفغانستان فى يونية 1979 . لقد كانت أفغانستان كلها ومازالت .. معجزة .
كتبت عن زيارتنا لمكان المعركة فى كتاب 15 طلقة فى سبيل الله .. فقلت :
ما زلت أتذكر زيارتنا لموقع المعركة ، بعد إنتهائها بيوم واحد تقريبا . لقد وقعت القافلة المتوجهة نحو خوست في كمين قاس .. كانت آثاره المدمرة واضحة . أكثر من عشرين شاحنة إحترقت تماما وجثث السائقين و معاونيهم قد تحولت إلى تماثيل بشعة من الفحم الذي تبرز منه عظام آدمية بيضاء إضافة إلى أكثر من عشر مصفحات محترقة ، وقد سقطت جثث الجنود خلف مزاغل إطلاق النار و بعضهم إحترق داخل المصفحة أو على أسفلت الطريق العام .
جثة أخرى لعسكري ـ أو ضابط ـ زحف إلى خارج الطريق وأسند ظهره إلى صخرة ومات تحتها . لقد تعفن الجسد وأصبح أسودا مثل الفحم بينما إنكشفت عظام الجمجمة واليدان فوق البطن وعظام الفك مفتوحة عن إستغاثة يائسة . عدد آخر من المدرعات ترك الطريق العام ونزل إلى الوادي الصخري المجاور حيث يسير نهر شمل بمياة قليلة لكنها شديدة الإندفاع .
فتعطلت بين الصخور وغرزت فيها العجلات والجنازير ، وهكذا ضاعت عدة دبابات في الوادي أيضا . وفوق الجسر منظر غريب آخر ، مصفحتان إقتحمتا الحاجزالحديدي كي تسقط في الوادي من إرتفاع ثلاثة أمتار تقريبا ، وكأن السائقين فوجئوا بالكمين فقرروا الفرار بهذه الطريقة ، والأغلب أنهم قتلوا. من المناظر الغريبة أيضا إحدى ناقلات الجنود وقد إخترقت طلقة الحديد السميك المجاور لمزغل إطلاق النار فقتل الجندي وسقط فى مكانه.
نظرنا إلى المكان الذي جاءت منه تلك الطلقة الغريبة ، وكيف إستطاعت اختراق حديد بتلك السماكة ، وهذا غير ممكن إلا بطلقة ـ أو قذيفة ـ مضادة للدروع وهو الشيء الذي لا يمتلكه المجاهدون في ذلك الوقت . كان في الإتجاه المقابل للمزغل جبل صلد مرتفع لم تحدث من جهته أية عملية إطلاق لأن الكمين كله جاء من جهة واحدة عبر الوادي حيث تشرف عدة تلال متفاوتة الإرتفاع أما الجانب المقابل فهو جبل مرتفع لا يتيح للقوة أية فرصة للإختباء، فكأنها تقف أمام حائط كي يطلق عليها المجاهدون النارمن الجهة المقابلة، فسحقت القوة بالكامل وهي في وضع سيء.
إكتملت الصورة بكثير من الجثث التي تحللت وأصبحت أشبه بالرماد المحترق وقد تناثرت فوق الطريق وكأنها كتل بارزة من الإسفلت ، وقد تجمعت الكلاب حولها تنهش منها ما تشاء ، بينما جلست كلاب أخرى متكاسلة على جانبي الطريق وقد أصابتها التخمة . وفي وسط هذه اللوحة المأساوية وجدت كتابا ضخما وقد تلوثت صفحاته المصقولة بالدماء ، لقد كان ديوان شعر باللغة الروسية ، مزينا برسومات رومانسية غير متقنة لضباط وجنود مع فتيات جميلات ، حولهم العديد من الزهور والأشجار وزجاجات الخمر والطيور .
خمنت أن الديوان كله يتحدث عن ضباط وجنود ذهبوا إلى الجبهة للقتال وتركوا خلفهم الأهل والعشيقات ومتع الحياة . أضافت الدماء التي لطخت الصفحات خاتمة مأساوية لحياة إنسان فقد حياته على أرض غريبة. لقد قتل وهو يطلق النار على الأبرياء بينما يقرأ أشعارا الغزل ولوعة الفراق ـ كمثل نيرون الذي أحرق روما وهو يغني أشعارا ـ لقد سقط الجندي الروسي ـ ولا ندري أين جثته وسط هذا الحشد المتفحم ، فقد حياته بلا معنى . وبعد يوم وفاته بإحدى عشر سنة تقريبا سقطت الشيوعية وإنهارت دولة السوفييت فوق نفس الجبال في أفغانستان .
تحميل مجلة الصمود عدد 152 : اضغط هنا
راهب الجهاد .. “الشيخ محمود” .
كل ما حولى كان أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة . الأرض ، الناس ، الأحداث ، لم يخطر على بالى شئ منها. فكنت أحاول إستجماع نفسى حتى أفهم ما حولى . كل ما رأيته فى رحلتى الأولى (يونيه 1979) كان معلومات تأسيسية ، وما تلى من سنوات كنت أبنى عليها فتزداد حصيلة فهمى لتلك العناصر . ولكن وحتى مغادرتى لأفغانستان فى نوفمبر 2001 لم أستكمل هذا الفهم . ولا أظن أنه ذلك ممكننا ، فكل ساعة فوق أرض أفغانستان ومع هؤلاء الناس ، وما يصنعونه من أحداث لا يمكن الوصول فيه إلى نهاية ، ويظل دوما فريدا ومفيدا .
ـــ فى عصر أحد الأيام ، رأيت بادشاه (يعنى الملك) ــ إبن عم حقانى ــ العامل على الرشاش البلجيكى الثقيل المضاد للطائرات ، وكان يحمل مدفعه من فوق القمة نازلا به إلى الوادى. شعرت بالسرور لأننى كنت لا أشعر بصداقة مع ذلك المدفع ، ولا مقتنعاً بفكرته ، وتسبب لى ذلك “بحفلة” تقريع من حقانى سيأتى ذكرها فيما بعد .
ولكن تعجبت أن “بادشاه” وافق على إخراج مدفعه من الخدمة ، وبهذه السهولة . سألت حقانى عن السبب ، وكان يهبط من منزله صوب الوادى . فقال أنه يأخذ المدفع إلى “الشيخ محمود” حتى يتفحصه . فسألته عمن يكون ” الشيخ محمود” .
فقال أنه من المجاهدين الأوائل الذين حملوا السلاح ضد حكم دواد ولم يترك سلاحه إلى اليوم . ولمدة ثلاث سنوات لم يغادر الجبهة ولكنه جاء منذ أيام إلى “سرانا” مريضا . فاشتاق إلى السلاح وكان متعجبا من وجود رشاش ثقيل عندنا يشتبك مع طائرات العدو ، فأراد مشاهدته فأرسلته إليه فى الوادى حتى لا يتكبد عناء الصعود وهو مريض .
ــ نزلت مع حقانى إلى الوادى حتى ألقى التحية على “الشيخ محمود” الأسطورة الذى لم يضع سلاحه منذ أن رفعه على “الكافرين” منذ أكثر من خمس سنوات .
رأيته مسندا ظهره على الجبل . فظهر وكأنه جزء منه ، بكيانه الضخم الصلب . كَفَّاهُ خشنتان كقطع من جذع شجرة صنوبر على سفوح ( ساتى كاندو). جبهته بارزه وحاجباه كثيفان تطل من تحتها عينان تلمعان بحدة وسرور . كان يقلب بكفيه الخشنتان المدفع الثقيل ، وكأنه طفل يتلقى هدية العيد من والده المحب . جلس إلى جانبه حقانى وهو يبتسم شارحاً للشيخ العملاق أسرار ذلك السلاح الجبار { وكنت أرى فى ذلك المدفع أفشل مشروع للدفاع الجوى ، ويراه حقانى تحديا يمرغ أنف الكافرين فى التراب ـ والآن ـ أظن أن كلانا كان على حق . كنت أنظر إلى الناحية التكتيكية لسلاح منفرد سريع العطب . وحقانى نظر إلى الجانب المعنوى لوجود سلاح فريد فى المنطقة ، رآه رافعا لمعنويات المجاهدين ومتحديا لجبروت الكافرين } .
ألقيت السلام على الشيخ محمود ، ومد إليّ يدا ثقيلة خشنة وألقى على وجهى نظره ثاقبة سريعة ، شعرت أنه فهم فى تلك الومضة كل ماهو محتاج إلى معرفته عنى ، أو أنه إطلع فى ومضة واحدة تاريخ حياتى كله من الولادة وحتى الممات . ثم عاد الشيخ يتفحص المدفع الملقى على ركبتيه ، وكأنه يداعب طفله الأول .
رغم قوته وكيانه المهيب كان يبدو مريضا ومنهكا . دفعنى الفضول لمعرفة أسرار هذه الشخصية التى رفعت سلاحها للجهاد ، منفردا وحيدا ، ضد دولة بجيشها ..وهو الآن فرح ليس فقط بالسلاح الجبار الملقى على ركبتيه ، بل لأن قبائل باكتيا وأفغانستان كلها لحقت به إلى الجهاد . الشيخ محمود كان واحدا من هؤلاء العظماء السبعة ــ قائدهم حقانى ونائبه أحمد جول ــ الذين إفتتحوا الجهاد فى باكتيا ـ وسيطروا على قاعدة عسكرية قرب غابات الأورجون بالتكبير وبضع طلقات من بنادقهم القديمة.
– كانت زيارتنا الأولى لأفغانستان قد إنتهت ، عندما تعافى الشيخ محمود ، وذهب إلى موقع المجاهدين الذى كنا فيه حيث التماس الدائم مع العدو .
توضأ الشيخ محمود ، ووقف يؤدى صلاة العصر . وفجأة داهمت طائرات الهيلوكبتر الموقع ، وبدأت بإطلاق مدافعها الرشاشة على من فيه .
إختبأ الجميع بين الصخور ، إلا الشيخ محمود الذى ظل واقفا يكمل صلاته ، حتى أصابته طلقة فى رأسه فتهاوى كتلة واحدة شهيدا بين يدى ربه ، متمددا وصدره فوق بندقيته التى كانت حاجزا أمام مصلاه ، فبدا وكأنه يحتضنها فى وداع أخير . فكان شهيد المحراب الذى لم ينحن يوما لغير خالقة . وكان الشهيد الوحيد فى ذلك اليوم ، وإن لم يكن آخر الشهداء .
– بالنسبة لى كان مذهلا ذلك الصنف من الناس ، الذى يقف منتصباً للموت ولا يظهر خوفاً أو تردداً ـ لماذا ؟؟ كنت أرى أن ذلك على ما فيه من بطولة وعزة إلا أنه عمليا قد يؤدى إلى القضاء على جميع المجاهدين فى ساعات أو أيام قليلة ، وتنتهى قصة الجهاد ويبقى “للكافرين” سطوتهم على الدنيا وما فيها . ولكن يكمن فى ذلك أحد أسرار الشخصية الأفغانية . كان التحدى جزءً من فطرتهم الإيمانية ، والشجاعة جزء من تكوينهم النفسى ، والمرونة والتكيف جزء من ذكاء فنون البقاء لديهم .
وهذا الخليط إمتزج فى النهاية ليخرج المجاهد الأفغانى الذى يتحدى العالم ، ويسقط أغنى وأقوى دول العالم ، الواحدة تلو الآخرى . بلا وجل ، ولا تعب ، ولا تردد ، ولا جمود .
السيد أحمد .. سيد الهاون :
فى رحلتنا الأولى إلى أفغانستان ، (هاون السيد أحمد) كان السلاح الثقيل الثالث الذي شاهدناه في حالة إشتباك .
“السيد أحمد” ــ من شمال أفغانستان ــ رامي الهاون في مجموعة مولوي عبد الرحمن ، وهى أول مجموعة قتالية نلتحق بها فى أفغانستان (كان مولوى عبد الرحمن يمزح ضاحكا : عندنا مجموعة من 12 مجاهدا يتكلمون أربع لغات مختلفة !! ) . وقد أرسلنا إليه حقانى إليهم بعد أن وصلت بنادقنا التى إشتريناها من غنائم جماعة مطيع الله فى الأورجون . مولوى عبد الرحمن شاب فارع الطول ذو إبتسامة ساخرة لا تكاد تفارق وجهة . كان يرتدى نظارة طبية بعد أن فقد إحدى عينيه خلال إشتباك مع العدو .. وعلى يد الرجلين ( مولوى عبد الرحمن ، والسيد أحمد) تلقيت بعض الدروس التي أفادتني طول مدة الحرب . كما أنها ظلت مستخدمة بين المجاهدين على نطاق واسع .
أول هذه الدروس كان تأخير وقت الإشتباك إلى قرب غروب الشمس حتى لا يعطي للطيران فرصة للتدخل ضده . (فى فبراير 1990 خرج حقانى عن هذه القاعدة أثاء هجوم ضخم وناجح للإستيلاء على جبل تورغار ــ المفتاح الجنوبى للمدينة ومطارها ــ بعد صلاة الجمعة مباشرة والشمس فى كبد السماء!! . سنعود إلى ذلك فى موضعه ) .
الدرس الثاني كان دقة إختيار الأهداف … فقد كان (سيد أحمد) يتناقش مسبقا مع قائده (عبد الرحمن) في تحديد الأهداف التي سيوجه إليها نيرانه أثناد العملية قبل أن تبدأ .
الدرس الثالث كان الإقتصاد فى الذخيرة ، فقد كان لكل هدف طلقة واحدة ولم نسمع يوما أن (سيدأحمد) قد أخطأها .
بقي أن نعرف أن (سيد أحمد) كان مختصا في سلاح الهاون أثناء خدمته في الجيش الأفغاني وقبل أن يفر من وحدته ويلتحق بالمجاهدين . أخذ معه سلاحة ( الهاون عيار 82 مليمتر ) وظل يستخدمه أثناء إلتحاقه بالجهاد . والغريب أنه يقصف وحدته العسكرية المستحكمة في قرية (دارا) القريبة من جرديز على أول الطريق الذاهب إلى خوست .
ومن هذا نفهم لماذا لم يكن يخطئ الهدف أبدا ، فهو إلى جانب مهارته الفنية ، يحفظ تماما مواقع الأهداف ومسافاتها . ونفهم أيضا لماذا يناقش إختيار الأهداف مع قائده عبد الرحمن ، وكان يصر على عدم قصف خيام الجنود ، وكان دائما يقول:( إنهم ليسوا شيوعيين وقد كنت بالأمس واحدا منهم ، وكلهم ينتظرون الفرصة للإلتحاق بإخوانهم المجاهدين ولكن الضباط الشيوعيين يحرسونهم جيدا ويقتلون فورا كل من يشكون في نواياه من الجنود) .
لقد ظل المجاهدون طوال مدة الحرب يفرقون بين الجندي الأفغاني المغلوب على أمره وبين الضابط الشيوعي الذي يأمره ويتحكم فيه بل ويستعبده . وكل هؤلاء الجنود تقريبا كانوا من مزارعي الأرض في مناطق شمال أفغانستان الناطقة بالفارسية .
وكان ذلك ضمن مخطط الشيوعيين لإشعال الكراهية بين القوميات التي يتركب منها المجتمع الأفغاني . فالجنود والضباط في كل قومية يقاتلون في مناطق القوميات الأخرى . أما الضباط الشيوعيين (الحزبيين) فإنهم يقاتلون في كل مكان لأنهم يكرهون الجميع .
– لقد إستشهد (السيد أحمد) بعد ذلك بعدة أشهر بواسطة قذيفة مدفعية . كان عائدا إلى المعسكر بعد زيارة لقبر أحد الصالحين يدعى “خدى بابا” الموجود على جانب طريق جبلى ، منحدر وضيق يقع على طريق المجاهدين، من قمة الجبل إلى مركزهم الخلفى تحت الجبل . قرأ الفاتحة وهَمَّ بالإنصراف. ولكن هبطت قذيفة مدفع قادمة من جرديز ، لتأخذ السيد أحمد فقط ، ولم تعقبها قنابل أخرى.
ما زلت أعتقد أن ذلك الشاب هو نموذج للمجاهد المثالي خلقا وعملا . كان من السادة ـ أي سلالة تنتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . وكان سيدا نبيلا بكل معاني الكلمة ، هادئا دمث الطباع محبوبا من الجميع متواضعا . يتصرف بثقة من تعود على السيادة والقيادة هذا عن أخلاقه . أما مهنيا فلم أر مثله في أفغانستان شخصا يعشق سلاحه ويهتم به كما تهتم الأم بطفلها الرضيع . لقد حفر مغارة خاصة صغيرة تستوعب مدفعه وذخائره القليلة . أما بطانيته التي ينام عليها فكان يخصصها لتغطية ماسورة المدفع التي ينظفها يوميا من الأتربة ، عدا التنظيف الحتمي بعد الإشتباك والرماية . وأثناء التحرك بالسلاح إذا أمطرت السماء ، كان يتخلى عن ردائه “الباتّو” كي يلف به الماسورة حتى لا تطالها الأمطار، أما هو فلن يصدأ إذا تبلل جسده بالمطر أو لفحته الرياح.
كان فى مقتبل الشباب ، نحيل الجسم خفيض الصوت محبوبا من الجميع . يحيط به الشباب يمازحزنه أثناء الطعام ( أو ما يشبه الطعام). ويتسابقون على إصطحابه أثناء عمليات الرماية. ولكن مولوى عبد الرحمن كان يحدد العدد تفاديا للخسائر من جراء القصف المعاكس الذى كان العدو يسرف فيه جدا . فالضباط كانوا يعرفون أن الرامى هو السيد أحمد ، الجندى السابق الذى كانوا يستعبدونه بغبائهم العسكرى وقسوتهم ، يشاهدونه الآن وهو يقتلهم بكل حرية .
تحميل مجلة الصمود عدد 152 : اضغط هنا
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )
16/10/2018