توثيق التجارب والإنجازات؛ بين مخاطر الاندثار ومخاطر استفادة العدو منه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
وبعد
توطئة:
لاشك أن توثيق التجارب والأحداث يحتاج لذكر بعض المعلومات لكي يستفيد منها الباحثون عن الحق والصواب للإصلاح وتصويب الأخطاء وتجاوزها وتعزيز النجاح وتدعيمه، ولكن لاشك أيضًا أن هذه المعلومة ستصل للعدو فيستفيد منها بطريقته وبما يخدم عداوته للإسلام والمسلمين، فيصبح الكاتب في هذه الحالة بين أمرين؛ إما أن يوثق تلك المعلومة وتصل للعدو. وإما أن يتجاوزها ولا يوثقها حتى لا تصل للعدو. فما هو الحل ؟
الحل هنا هو: أن يستعين الكاتب بربه ثم يجتهد رأيه وليعزم أمره، وليدرس المصلحة والمفسدة المترتبة على ذلك ويقارن بينهما ثم يقرر بعد ذلك هل يكتب تلك المعلومة أم لا.
فلقد عاتب الله نبيه عليه الصلاة والسلام وهو تعالى يعلم أن أعداء الدين سيستغلون هذه المعاتبة ولكنه تعالى ذكرها في كتابه الكريم قرآنًا يُتلى إلى يوم الدين. بل إن الله تعالى ذكر حادثة الإفك وهي حدث خاص نال مِن عرض أطهر الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم وهو أحب الخلق إلى الله تعالى وأكرمهم عليه، كما أنه نال مِن عرض أحب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهي عائشة رضي الله عنها كما أنه نال من عرض أحب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو أبو عائشة زوجة النبي عليه الصلاة والسلام، وكان ربنا سبحانه وتعالى قادر على ألا يُذكر هذا الحدث الأليم والذي لازال يستغله أعداء الدين أخبث وأخس استغلال وكان ربنا تعالى قادر على أن يُنسيه للجيل الذي عايشه ومن ثم يندثر ولا يذكره أحد، ولكنه تعالى لحكمة يعلمها ذكره ووثقه في قرآن يُتلى إلى يوم الدين، ولازال أعداء الدين يستغلون ذاك الحدث أيّما استغلال.
الطريقة الأمثل للاستفادة من التاريخ والتجارب والإنجازات ؟
ولذلك لابد من التوثيق بشرط الصدق والأمانة، فالأحداث الكبيرة والمتناثرة كما هو معلوم لا يعلمها المعايش لها من كل وجه، ولكن كل واحد يكون قد صنع منها وجهًا أو أكثر، ولذا نرى في السيرة من يذكر لنا حدثًا في غزوة مع النبي عليه الصلاة والسلام وآخر يذكر حدثًا آخر في نفس الغزوة ومعلوم أن الصحابة عدول ثقات أصدق الخلق بعد النبي عليه الصلاة والسلام ولكن ذكرهم المختلف للحدث يكون بسبب أن الحدث الذي ذكره الأول يكون قد حدث في ناحية والحدث الذي ذكره الثاني يكون قد حصل في ناحية ثانية أو يكون الوقت هو المختلف فهذا يذكر ما حدث صباحًا والآخر يذكر ما حدث عصرًا أو عشاء. أو يكون ذلك بسبب قوّة ذاكرة الأول وضعف ذاكرة الثاني، فيكون الأول قد حفظ أكثر من الثاني وتمكن من ذكر الحدث كاملًا من أول لحظة نزلوا فيها تلك المحلة ولكن الآخر عجز عن ذلك بل حفظه من وجه واحد أو كان الأول نشيطًا يتنقل بين صفوف الصحابة وخيمهم والآخر أقل نشاطًا يجلس في مكان واحد لا يغيره، ثم ذكر لنا كل واحد منهم ما رأى فكان ما ذكره الأول أضعاف ما ذكره الثاني وأشمل، فهنا لا نكذّب الأول ولا الثاني معاذ الله فهم صحابة رسول الله الذي أخبرنا الله تعالى أنه رضي عنهم والمشهود لهم بالخيرية من النبي عليه الصلاة والسلام ولكن في هذه الحالة نقول: لقد حدثنا كل واحد منهم حسب الذي رآه وعايشه أو حسب ما استطاعت ذاكرته أن تحفظ، كما في حديث حُذَيْفَةَ رَضِي اللهُ عنْهُ، حيثُ قَالَ: “قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا، مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، إِلَّا حَدَّثَ بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ“.
لاشك أن توثيق التاريخ ومجرياته المعاصرة والإنجازات وأسبابها والإخفاقات وأسبابها، لاشك أن هذا يشكل خطرًا كبيرًا على الكاتب خصوصًا إذا كانت الساحة ساخنة والأحداث لازالت معاصرة وبعضها خطير أو مهم وحساس يمس بأصحاب النفوذ، ولكن هذا يجب ألّا يمنع من إظهار الحقائق للمسلمين بل لابد من إظهار الحقائق وتفنيد صوابها من خطئها قدر الإمكان، حتى وإن كلف ذلك الكاتب حياته أو جرّ عليه المتاعب، فحسبه أنه من الذين قال الله فيهم: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”، ولاشك أن الثبات على الحق والإصرار على كشف الحقائق التي تهم المسلمين وتنفعهم في طريقهم إلى الله ونصرة دينه، فإنها من العهد الذي أخذه المخلصون على أنفسهم لله وعاهدوه على المضي والثبات عليه حتى يلقونه عليه شهداء مقبلين غير مدبرين، صادقين غير مبدلين.
فتصحيح المسار وكشف المهلِكات وتوضيح الطريق أمر مهم لنجاح أي دعوة أو جهد وهذا الطريق سلكه المؤمنون الصادقون منذ قديم الزمان، ولقد سطر القرآن الكريم للأجيال تباعًا إلى يوم الدين قصة الرجل الذي سعى للناس وكلف نفسه العناء والمخاطر في سبيل إقناعهم بالإيمان بالرسل واتباعهم، ولكن الناس قتلوه وهنا لم يذكر الله تعذيب الناس له أو قتلهم إياه بل ذكر الله تعالى فوزه بالجنان والنعيم مباشرة، وهذا دليل على عظم فعله ورفعة مكانة اختياره، قال الله تعالى حاكيًا عنه: “وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ“.
ولقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “خَيْرُ الشُّهَدَاءِ مَنْ أَدَّى شَهَادَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا “، ولأهمية قول الحق وتوضيحه للناس وكشف الحقائق والتحذير من سلبياتها وتعزيز إيجابياتها ولأنه لا يقوم بها إلا قوي الإيمان شديد المحبة لله ورسوله جعل الله الصادع بها في مقدمة مراكز الشهداء ومكانتهم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ, فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ , فَقَتَلَهُ“.
وإنني أحسب أن من أعظم الجهاد في سبيل الله تعالى هو مناصرة المظلومين والدفاع عنهم ومناصرة المجاهدين وكشف كل استهتار بهم وبجهودهم وكشف الأسباب الحقيقة التي أدت لتعثر الجهاد وبددت كثيرًا من انجازاتهم وجعلتها سلعة يتاجر بها الانتهازيون والمتسلقون.
إننا في زمن نحتاج فيه للمخلص الذي لا يسعى إلّا لمرضاة الله تعالى والذي يسعى ولسان حاله يقول: “وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى“، نعم نحن في زمان يحتاج للمصلحين الذين لا يهمهم تحصيل النفوذ أو القيادة لأن جل ذلك بات مرهونًا بمناصرة الظالمين أو المتقهقرين أو الخانعين، ولذا بتنا في زمن يسعى فيه المؤمن لربه رافعًا شعار: “إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ“.
وفي الختام:
أذكّر نفسي وإخواني بقول النبي عليه الصلاة والسلام لابن عباس رضي الله عنهما: “يَا غُلامُ، إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، وَإِذَا سَأَلْتَ فاَسْأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ“.
فلنذهب إلى الله مقبلين غير مدبرين، صادقين غير كاذبين، ناصحين غير مخادعين. فالله حسبنا وهو نعم الوكيل
والله من وراء القصد
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه/ الباحث في الشئون الشرعية والسياسية
تيسير محمد تربان
فلسطين – غزة
المصدر:
مافا السياسي (ادب المطاريد)