لهذا نجح نور الدين وصلاح الدين.. مع مقارنة واقعية مختصرة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
وبعد
توطئة
كثير من الذين قدّر الله لهم أن يكونوا في مراكز ذات نفوذ يتغنون بنور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي رحمهما الله وهذا أمر طيب ومحمود، ولكن المؤسف لا نرى هؤلاء يقومون بنصف ما قام به نور الدين وصلاح الدين، والسبب في ذلك وبكل بساطة؛ أن نور الدين وصلاح الدين رحمهما الله قادا الحركة الجهادية التحررية بالعدل والإنصاف مع الأهالي عمومًا . وهذا هو المطلوب من أي قيادة تريد أن تقود شعبها إلى النصر والتحرير، أما الظلم والتعدي على حقوق الناس وعدم إنصافهم فإنه يجعلهم ناقمين على قيادتهم كارهين لها وهذا يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي تدريجيًا واستمرار الهزيمة والاحتلال.
وللمقارنة والوقوف على الأزمة التي يعانيها كثير من المتنفذين والذين هم سبب رئيسي في ارتباك المقاومة وزعزعة صفوف المجاهدين؛ سأذكر قصتين حدثتا مع نور الدين زنكي رحمه الله، وسأختم بحجم أملاك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله والتي تدل على كيفية سير حياته وطريقته في الحكم.
مواقف سريعة؛ قال ابن الأثير في كتابه، التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية:
أن نور الدين زنكي رحمه الله: طُلِبَ مرة من قبل أحد المُدَّعين فما كان من أحد كبار موظفيه إلا أن دخل عليه ضاحكاً وقال مستهزئاً: يقوم المولى-يقصد نور الدين- إلى مجلس الحكم، فأنكر نور الدين على الرجل سخريته وقال: تستهزيء بطلبي إلى مجلس الحكم؟ وأردف: يُحضر فرسي حتى نركب إليه: السمع والطاعة؛ قال الله تعالى: “إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا” (النور، آية: 51). ثم نهض وركب حتى دخل باب المدينة واستدعى أحد أصحابه وقال له: امضي إلى القاضي وسلم عليه وقل له: أني جئت هاهنا امتثالاً لأمر الشرع. انتهى
قلتُ: هذه هي صفات القادة الذين يكتب الله النصر على أيديهم، القادة الذين يستجيبون فعليًا لله ورسوله وتعاليم دينهم؛ فهنا لم يقبل نور الدين من هذا المتنفذ أن يسخر من المواطن الذي جاء يطلبه للقضاء، كما أنه بادر للاستجابة والتوجه للقاضي ليفصل بينه وبين المواطن الذي زعم أن له عنده حقًا، وهذا دليل على أنه يخاف الله فعلًا وأنه متواضع وعادل مع رعيته، وهذا من أهم أسباب النصر.
وفي نفس المصدر قال كذلك: ويوماً كان يلعب الكرة – هوايته المفضلة – في دمشق، فرأى رجلاً من أتباعه يحدث آخر ويومئ بيده إليه، فأرسل إليه يسأله عن حاله، فأعلمه أن له مع نور الدين خصومة حول بعض الأملاك، وطلب حضوره إلى مجلس القضاء للفصل في المسألة، فتردد الغلام في عرض الموضوع على نور الدين، ولكن هذا ألح عليه، فلما تبين له الأمر ألقى العصا من يده وخرج من الميدان وسار إلى القاضي كمال الدين وقال له: إنني قد جئت محاكماً فاسلك معي ما تسلكه مع غيري، فلما حضر المدعي ساوى كمال الدين بينه وبين خصمه وإذ لم يثبت ضده شيء قال للقاضي ولكافة الحضور: هل ثبت له عندي حق؟ قالوا: لا فقال: اشهدوا أنني قد وهبت له هذا المال الذي حاكمني عليه وقد كنت أعلم أنه لاحق له عندي وإنما حضرت لئلا يظن أنني ظلمته، فحيثما ظهر أن الحق لي وهبته إياه. انتهى
قلتُ: وهذا دليل على عفة نفسه وكرمها وأنه واثق منها ومن أقواله وأفعاله، لا كحال كثير من المتنفذين في زماننا والذين لا يجرؤ أحدهم على مواجهة الأهالي بسبب ظلمه لهم وتعديه على حقوقهم. ولا حول ولا قوة إلّا بالله.
أما عن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله فلقد قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية:
أنه: لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد – أي دينار واحد – صوريًا وستة وثلاثين درهمًا.
وقال بعضهم: سبعة وأربعين درهمًا، ولم يترك دارًا ولا عقارًا ولا مزرعة ولا بستانًا، ولا شيئًا من أنواع الأملاك. انتهى
قلتُ: هذا صلاح الدين الأيوبي الذي قضى حياته مجاهدًا في سبيل الله بلسانه ويده وفاتحًا ومحررًا لديار المسلمين، وهذه أملاكه التي لا تعتبر شيئًا يُذكَر مع أنه كان قادرًا على جمع وادخار الأموال والأملاك الكثيرة ولكنه لم يفعل، بل كان ينفقها أولًا بأول في سبيل الله، فلم تكن الدنيا في قلبه بل كان الإسلام ونصرة المسلمين هو الذي يسكن قلبه وهو الموضوع الأهم بالنسبة له والذي قضى كل حياته من أجل القيام به على أحسن وجه، لذا وفقه الله وكتب على يديه النصر والتمكين للإسلام والمسلمين. فمن علم هذا ونظر لحالنا عرف الخلل. ولا حول ولا قوة إلّا بالله.
الخاتمة:
يجب على المجاهد أن يشغل جل وقته في الإعداد-العلمي والميداني- والعمل لنصرة الإسلام وأهله، وعليه كذلك ألّا ينشغل بالدنيا وزينتها والمظاهر وبهرجتها. والله الموفق.
وعليه العمل من منطلق قول الله تعالى: “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”، مع مراعاة عدم إغفال واجبات ولوازم الحياة الدنيا بشرط عدم الانكباب عليها أو الانشغال بها وليعمل من منطلق قول الله تعالى: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”.
والله من وراء القصد
كتبه/ الباحث في الشئون الشرعية والسياسية
تيسير محمد تربان
فلسطين – غزة
المصدر:
مافا السياسي (ادب المطاريد)