طالبان فى عين الإعصار
لا يمكن النظر بحسد إلى “ملا منصور” الذى الذى أختير أميرا للمؤمنين من قبل مجلس شورى حركة طالبان . فلا شك فى أنه يواجه موقفا عصيبا ، لأسباب تتعلق بملابسات إختياره للمنصب ، وأيضا لطبيعة الوضع الحرج الذى تمر به أفغانستان التى تخوض العقد الرابع من حروب متصلة ، آخرها كان لصد عدوان أمريكا والناتو عليها .
وحتى تتضاعف مشاكل الأفغان ، فإن قيمة الإقليم الذى تتوسطه بلادهم قد تضاعفت سياسيا واستراتيجيا . ويكفى أن لهم حدودا مع القوة الصينية الزاحفة بثبات نحو قمة العالم ، وحدودا أخرى مع إيران القوة الأكبر فى الشرق الأوسط ( بعد إسرائيل بالطبع ) . وجارتيها : باكستان (1600 كم من الحدود مع أفغانستان ) ، و إيران المتوافقة حديثا مع الغرب ، لهما أكبر سجل من التدخلات وشهية الحصول على موضع متميز للتأثير على دولة فاشلة فى أفغانستان .
الهند لا ترغب فى سقوط أفغانستان فى براثن عدوها الباكستانى ، وباكستان بالمثل لا تريد الهند فى أفغانستان ، كما ترغب أيضا فى إغلاق ملف الحدود مع أفغانستان الضعيفة وإبتلاع المناطق التى سلخها إتفاق ديوراند عام 1893 وضمها الى الهند البريطانية مؤقتا لمدة مئة عام إنتهت منذ عقود . التنازل عن تلك الأراضى لا يجرؤ أفغانى على الموافقة عليه علنا . لكن حكومة أفغانية مطحونة فى حرب أهلية ضد أطراف أخرى مدعومة من الجيران والعالم الخارجى ستكون مرغمة على قبول التنازل وإنهاء مشكلة ديوراند فى مقابل دعم باكستانى . فالحرب الأهلية فى أفغانستان ضرورة لباكستان كما للعديد من الأطراف الخارجية .
الإحتلال الأمريكى فرغ تقريبا من تجهيز المسرح الداخلى فى أفغانستان على نحو ما قام به فى العراق ، لإستقبال حرب الجميع ضد الجميع ، على أسس عرقية ومذهبية ومناطقية . فهناك العشرات من الميليشيات المسلحة والملايين من قطع السلاح . وحتى تنظيم داعش يتم حقنه بكل إصرار فى الجسد الأفغانى بمجهود مشترك من المخابرات الأمريكية والباكستانية ونظام كابول . فالأطماع الإقليمية لباكستان تسير بالتوافق مع الرؤية الأمريكية لأفغانستان ، لدمجها فى إطار الشرق الأوسط الذى تعاد صياغته بإستخدام أسلوب الفوضى الخلاقة التى بشرت بها “كونداليزا رايس”. ولا شك أن داعش ( وأخواتها الأقل شأنا مثل القاعدة والنصرة .. الخ ) يشكلون أهم أدوات تلك الفوضى ، التى فى النهاية تعيد تقسيم دول المنطقة وتهدر ثرواتها وطاقتها ومزاياها الاستراتيجية ، وتصبح حيازة السلاح أهم من متطلبات التنمية أو مكافحة الفقر والمرض والجهل . ولا يوجد عاقل فى الغرب يمكن أن يعترض على ترويج السلاح الغربى فى تلك المنطقة المجنونة .
الساحة الأفغانية تم تجهيزها لحرب أهلية طويلة الأمد ، لا يمكن إنهاؤها بغير التقسيم . ويستحيل تنفيذ هذا المخطط إذا ظلت حركة طالبان موحدة تحت قيادة قوية ومستقلة . فتجربة طالبان منذ أن بدأت فى أغسطس عام 1994 ثم فترة حكمها لخمس سنوات (1996 ـ 2001 )، برهنت على قدرة غير عادية فى فرض الأمن بقوة تطبيق القوانين الإسلامية ، فتمكنت من المحافظة على وحدة التراب الأفغانى وإحباط مشاريع تقسيم البلد إلى كانتونات تدور فى فلك دول الجوار . إذن لابد من إقحام حركة طالبان بقيادة جديدة “مرنة” و”متفاهمة” ، للإندماج فى مكونات نظام كابول حتى تفقد طالبان تلك المزايا والقدرات .
ومن جهة أخرى فإن داعش ، ومشتقات الوهابية القتالية ، تتنافس جميعا على دخول المجال الأفغانى المضطرب ، لتقاتل حركة طالبان ” التى سيعتبرونها مرتدة ” والشيعة ” المعتبرين ضمن الكفار الخطرين”. وسوف تكتسب داعش فى صفوفها قطاعا من طالبان المعارضين لمبدأ التشارك فى سلطة صنعها الإستعمار ، ولا تدين بحكم الإسلام . وهؤلاء سيوفرون للتنظيم حاضنا إجتماعيا قبليا يفتقده بشدة فى أفغانستان . بمعنى آخر : سوف تستفيد داعش من فشل التجربة الجهادية لطالبان كما إستفادت من فشل التجربة السياسية للإخوان المسلمين ، معتبرة ذلك دعما لوجهة نظرها {المنادية بالفوضى المطلقة وقتال كل شئ} .
ولكن من المستبعد جدا أن يحدث أى إنشقاق داخل حركة طالبان نتيجة الخلاف الذى أعقب الإعلان عن وفاة الملا محمد عمر وإختيار ملا منصور أميرا جديدا . مع أن بعض الشخصيات المهمة قد يتخلون عن نشاطاتهم الرسمية فى الحركة . ولكن قوة ” البيعة ” وارتباطها الوثيق بالشريعة تمنع أى انشقاق حقيقى ، إلا فى حالة إرتكاب ” أميرالمؤمنين” الجديد لمخالفة شرعية جسيمة تبرر للعلماء خلعة من منصبة .
وذلك الإحتمال قائم فى حال قبول الملا منصور لعملية مصالحة مع نظام كابول . فالمعارضون سيطعنون فى شرعيتة بتأييد من العلماء . وطبيعى أن يكون هناك علماء آخرون يؤيدون إستمرار شرعيتة. وهنا يحدث الإنقسام الذى يخشاه الجميع ، ولا يتمناه سوى الأعداء ، وهم ليسوا فقط حكومة كابول وقوات الإحتلال بل كثيرون ، منهم باكستان بطبيعة الحال .
القلق الذى ضرب صفوف حركة طالبان ـ خاصة القيادات ـ بعد الإعلان المفاجئ عن وفاة الأمير المؤسس وتولية الأمير الجديد ، هو قلق صحى جدا من أحد جوانبة . فلأول مرة يوضع صاحب ذلك المنصب المهيب ( أمير المؤمنين ) تحت أضواء المحاسبة العلنية عما حدث ، وجعل تصرفاته المستقبلية أيضا تحت أضواء الرصد والترقب . وأقوى ما قيل فى ذلك هو ما كتبه الطيب أغا رئيس المكتب السياسى فى قطر ، ثم جلال الدين حقانى أهم القادة المخضرمين . فالطيب أغا رفع صوته بإعتراضات سياسية قوية شملت :
أ ـ الإعتراض على إخفاء خبر وفاة الملا عمر لمدة عامين ونصف معتبرا ذلك خطأ تاريخيا .
ب ـ موافقة الأمير الجديد على إجراء مفاوضات مصالحة عن طريق باكستان ، كانت هى السبب فى الكشف عن الوفاة ( لضرب التيار المعارض للمصالحة والقريب من الملا عمر وعلى رأسهم الطيب أغا نفسه ) .
جـ ـ الإعتراض على إختيار زعيم للحركة خارج البلاد ، من قبل مواطنين يقيمون خارج البلاد ، على خلاف الخبرة الأفغانية التاريخية التى تدل على أن الزعماء المختارين خارج البلاد تسببوا فى أسوأ العواقب للشعب . والدليل هو أختيار زعماء لأفغانستان فى موسكو فى عصر الإحتلال السوفيتى ، كذلك إختيار مؤتمر بون لزعماء أفغان فى فى وقت الإحتلال الأمريكى . ويرى الطبيب أغا أن عملية إنتخاب زعامة للإمارة الإسلامية مكانها الطبيعى هو أفغانستان فى وسط المجاهدين المضحين ، تمشيا على خطى الأمير الراحل محمد عمر . ثم يذكر الطيب أغا أنه إستقال من منصبه حتى لا يكون مسئولا عن العواقب الوخيمة المحتملة القادمة على الوطن والشعب .
أما بيان حقانى فقد راعى الضرورات الميدانية التى تستدعى الوحدة ، لأن الفرقة تعنى الهزيمة ، حسب خبراته المريرة فى أوقات الجهاد ضد السوفييت ، وما عاناة من مشاكل نتيجة تعدد الأحزاب الجهادية وتناحرها . لهذا نصح فى نهاية رسالته “حافظوا على رص الصفوف وتوحيد الكلمة ” . تلك ضرورة عسكرية يعرف حقانى أكثر من غيره مدى أهميتها . أما ما سوى ذلك فيمكن التغاضى عنه ، أو تأجيل الحكم فيه .
ما يمكن التغاضى عنه مثل قضية تعيين الأمير ، حيث يرى حقانى أن طريقة إختيار منصور كانت شرعية. وذلك صحيح ، فكتب الفقه المتاحة تمنح الشرعية لجميع صور نقل السلطة . فلا يوجد إجتهاد فقهى حديث يحدد طريقة إختيار تناسب المجتمعات الإسلامية المعاصرة . إذن أى صورة لنقل السلطة هى ممكنة ومجازة شرعا ، تلك هى الحقيقة رغم ما بها من مآخذ وثغرات بل وخطورة .
أما ما أجل حقانى الحكم فيه فيأتى فى قوله مخاطبا منصور (( إننا نلبى جميع أحكام ديننا المبين تحت إمرتكم وقيادتكم )) . والمعنى الصريح لذلك هو أن هناك رقابة صارمة على قرارات القيادة الجديدة فيما يتعلق بالمصالحة والحكم المشترك مع من فرضهم الإحتلال بقواته المسلحة . فقد رفض حقانى المصالحة مع الحكم الشيوعى ، وظل يقاتل وهو شبه منفرد مع قلائل فى أفغانستان حتى سقط النظام الشيوعى الذى كان يترنح بشدة منتظرا أن تنقذه مصالحة تفرضها الكتلتين الأعظم وقتها ، وهو وضع يشبه كثيرا ما هو قائم الآن فى أفغانستان .
بقلم :
مصطفي حامد (ابو الوليد المصري) 10-08-2015
copyright@mustafahamed.com
المصدر :
www.mustafahamed.com