بين داعش والقاعدة ، صفحات من التاريخ : جلال آباد مدرسة المراهقة الجهادية
طلاب مدرسة جلال آباد “الجهادية” أشبه بمجموعة من المراهقين فى مدرسة ثانوية . مجموعة أعطت لنفسها الحق فى إصدار الأحكام والقرارات وتنفيذها على الفور ، بدون الرجوع إلى أى سلطة أعلى منها ، وبدون التقيد برأى تلك السلطة حتى إن وجدت . فى غالب الأحوال تكون الأحكام غير صحيحة نتيجة لقلة الخبرة والحماسة الزائدة والرغبة فى الشهرة التى تتيح للجماعة فرصاً أفضل فى تجنيد المزيد من الأفراد والحصول على تبرعات وأموال أكثر .
مدرسة منهجها الخلاف والتشدد وإستخدام الفتوى كأداة للإرهاب الدينى ، وإستخدام السلاج فى غير موضعة ، وهى فى خصومه دائمه مع نفسها ومع الجميع . إختصارا : تلك هى مدرسة المراهقة الجهادية التى إشتد عودها فى جلال آباد عام 1989 .
أسباب ظهور مدرسة جلال آباد :
ظهرت تلك المدرسة إثر فشل المجاهدين الأفغان والعرب فى معركة جلال آباد فى يوليو 1989 . وقعت الهزيمة على الرغم من الحشود الضخمة والدعاية الكبيرة . حكومة المجاهدين المؤقتة حديثة التشكيل ( على قمتها صبغة الله مجددى كرئيس للدولة ، وسياف رئيسا للوزراء ) ألقت بثقلها كله فى المعركة الفاشلة .
وأكبر شخصيتين من زعماء العرب فعلا نفس الشئ . عبد الله عزام أثار الدنيا بمجلته الجهادية التى كانت تصدر فى بيشاور ، وبن لادن نزل إلى ساحة المعركة بنفسه ومعه تنظيم القاعدة ، ومن خلفه تنظيمات العرب المتواجدة فى بيشاور ، وذلك جعل الهزيمة خطيرة النتائج معنويا .
بعد المعركة مباشرة غادر بن لادن إلى السعودية وهناك تم إحتجازه ومنعه من السفر . وعزام أغتيل فى شهر نوفمبر من نفس العام أى بعد الهزيمة بأربعة أشهر .
ومع ذلك إستمر تدفق الشباب الجدد بكثرة إلى جلال آباد ، فظهرت أعداد من المجموعات الجديدة بقيادة شباب صغار السن فى ساحة خلت من القيادات العربية الكبيرة ، ومعظم القيادات الميدانية الكبيرة للأفغان من منطقة جلال آباد كانوا إما قتلوا فى المعركة أو تغيبوا عن الساحة . تميز العمل العسكرى لتلك المجموعات الجديدة بالعشوائية ، ودخلوا فى مغامرات عسكرية أكبر من قدراتهم وخبراتهم ، فقتل منهم عدد كبير .
الخلافات كانت شديدة بين المجموعات الصغيرة . شيئان مشتركان بين الجميع : الأول هو إستمرار الخلاف الثانى هو الإتفاق على إستبعاد القاعدة عن قيادة العرب فى جلال آباد . وكان قادة القاعدة بعد بن لادن (أبو حفص المصرى ، وأبو عبيدة البنشيرى ” وهو مصرى أيضا” ) قد سحبا عناصر التنظيم من هناك ، ثم حاولا ربط مجموعات جلال آباد فى إطار واحد يسهل التفاهم معه أو السيطرة عليه ، لعل ذلك يقلل من الخسائر فى الأرواح .
ومن أجل التقرب إليهم أنفقت القاعدة أموالا كثيرة فى إمداد وتموين تلك المعسكرات المنتشرة على جانبى الطريق الدولى ، داخل مزارع الزيتون وتحت الجسور الكثيرة للطريق الدولى .
أوجدت تلك المجموعات لنفسها مصادر تمويل من دول الخليج النفطية ، وشجعها ذلك على الإسغناء عن مساعدات القاعدة بل ومهاجمتها بسبب فشلها فى جلال آباد وبسبب تركها ساحة الحرب وبقاء بن لادن فى السعودية ، معتبرين ذلك خيانة وتخلى عن رسالة الجهاد فى وقت حرج .
تنظيم القاعدة من يومها بدأ يشهد إستقالات كثيرة ، وتضاءل حجمه بشكل خطير ، وظل يتناقص عدديا بإستمرار على مدى سنوات وحتى عودة بن لادن من السودان 1996 . ومع إستهدافه للولايات المتحدة ، تزايد عدد أفراد التنظيم من جديد ، لكنه لم يصل إلى مستوياته القياسية التى وصلها عام 1988 .
الإغتيال كبطاقة تعريف :
فى أبريل من عام 1992 وقبل أيام قليلة من سقوط العاصمة كابول فى أيدى المجاهدين ، إستسلمت مدينة جلال آباد وتولى إدارتها “حاجى قدير” وهو أحد أبناء أسرة ثرية فى المنطقة ، ومن أقطاب حزب إسلامى يونس خالص. بدأت وفود من قوات الأمم المتحدة المقيمة فى باكستان تتدفق فى زيارات مكوكية إلى جلال آباد ، ولم يرق ذلك لأحد المجموعات العربية على جانبى الطريق فأمطرت بالرصاص واحدا من تلك السيارات التى تحمل العلامة الدولية ، فقتل أحد العسكريين من ركابها .
إنقلبت الدنيا رأسا على عقب وطالبت دول خارجية بالقبض على الجناة ، محملين ” حاجى قدير” مسئولية ذلك ، فدعا ” قدير” جميع قيادات المعسكرات العربية للإجتماع به فى مكتبه بالمدينة . وهناك إحتجزهم لعدة ساعات ثم أفرج عنهم خوفا من وقوع صدامات فى المدينة بين رجاله وبين المجموعات العربية ، وكان ذلك بمثابة كابوس لم يكن فى مقدور ” قدير” أو أى قائد آخر إحتمال عواقبه ، فالعرب كان لهم أصدقاء أقوياء فى المنطقة وسمعة كبيرة كمقاتلين شجعان قاتلوا إلى جانب الأفغان الذين قدروا ذلك للغاية .
ـ توقفت معارك جلال آباد ولكن مواصفات ( مدرسة جلال آباد) إستمرت عبر معسكر للتدريب فى منطقة (خلدن) الحدودية فى أفغانستان . المعسكر كان يتبع مكتب الخدمات الذى أنشأه عبد الله عزام ، واعتمد المعسكر منهجا فكريا غاية فى التشدد مبنيا على فتاوى الوهابية وعلى كتاب (إعداد العدة) للدكتور فضل قائد تنظيم الجهاد المصرى . درب المعسكر عدد كبير من الجماعات المسلحة من جنسيات مختلفة ، بدءا من الجماعة الإسلامية الجزائرية وصولا إلى التنظيم السلفى المسلح لأقلية الإيجور فى الصين الشعبية. بهذا أصبحت مدرسة جلال آباد أكثر تأصيلا فكريا وأوسع إنتشارا من تنظيم القاعدة ، إلا أنها إفتقرت إلى قيادة زعيم فى وزن بن لادن يلم شمل هذه المجموعات فى إطار تنظيمى واحد .
ـ البندقية السلفية ، فى حالتها الغالبة ، تطلق الرصاص إلى الخلف ، أى ضد الإخوة والحلفاء والجيران . وتصدق تلك الملاحظة فى كافة الأماكن التى نشطت فيها تلك التنظيمات الوهابية عسكريا ـ أو حتى فى العمل السياسى عندما حاولوا ذلك فى ثورات الربيع العربى / كما رأينا فى تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا / جميعها شهدت بصحة تلك الملاحظة ، أى البندقية السلفية الوهابية التى تطلق نيرانها إلى الخلف .
ولم يحدث فى جميع تجارب الوهابية الجهادية ( أو المراهقة الجهادية ) أن إتحدت مجموعتان إلا لكى ينقسما إلى عدد أكبر وتنتج عداوات أشد .
ويلاحظ أن بعض مجموعات جلال آباد أنشأها منشقون عن القاعدة ، وأشهرهم كانت مجموعة ” عبد المجيد الجزائرى” الذى قتل لاحقاً فى الجزائر . وهناك ليبيون وسعوديون ويمنيون فعلوا نفس الشئ وأنشأ كل منهم مجموعته الجهادية الخاصة فى مزارع الزيتون على جانبى طريق جلال آباد وتحت جسور الطريق الدولى .
التفوق على القاعدة :
قلنا ان مدرسة جلال آباد ( مدرسة المراهقة الجهادية ) بمنهجها الوهابى المتشدد وطبيعتها العنيفة المتحررة من أى تفكير منطقى سياسى أو إستراتيجى أو حتى دينى ، إضافة إلى الثقل التمويلى الكبير الذى تستمده من دول النفط ، تلك المزايا جعلتها الأسهل قبولا لدى الشباب والأوسع إنتشاراً فى كثير من الدول ، وتفوقت فى ذلك على تنظيم القاعدة . ولكن تلك الحركات المراهقة إفتقرت إلى قيادة يعتد بها . ربما كانت القيادات تتمتع أحيانا بشئ من الخبرة العسكرية يميزها عن الأتباع ، أما فى المستوى الثقافى والمعرفة السياسية فإنها تتساوى معهم ، بل تقل عن بعضهم ، وهؤلاء يغادرون تنظيمهم طوعا أو يستبعدون منه إداريا أى يطردون . وتلك حالة تجريف دائمة ومشهورة فى أوساط التنظيمات الإسلامية عموما والجهادية بشكل خاص .
ولكن بن لادن كان من المرونة بحيث قبل فى أحوال كثيرة التعاون مع ذلك التيار الناشئ ، ودرب العديد من عناصرهم ، كما مول الجماعة الإسلامية المسلحة فى الجزائر الى أن تلقى تهديداً من أحد الفصائل المنشقة عنها بأن يتوقف عن ذلك . تلقى التهديد أثناء تواجده فى الخرطوم فتوقف على تمويل الحركة وفى نفس الوقت تقريبا توقف عن تمويل تنظيم الجهاد المصرى بضعط من حكومة الخرطوم فحدثت قطعية بين التنظيمين التوأم : “القاعدة” والجهاد المصرى ، الذى يتولى زعيمة ” أيمن الظواهرى” قيادة تنظيم القاعدة خلفا لأسامة بن لادن .
أهم المشاركات القتالية المباشرة لشخصيات من مؤسسى مدرسة جلال آباد :
1 ـ مشاركات فى طاجيكستان ثم الشيشان للمجاهد السعودى “خطاب” الذى أصبح عبر الإعلام الدولى نجم الشيشان الأول ، متفوقا فى ذلك على القيادة الشيشانية نفسها (تماما كما حدث قبلا مع بن لادن فى أفغانستان ) . ولكن عمليات خطاب العسكرية غير المبالية على داغستان المجاورة ، ثم إدارته لحملة تفجير بالسيارات المفخخة فى كل من طاجيكستان وأوزبكستان ، حركت حملة روسية عسكرية أعادت قبضة الروس الفولاذية على الشيشان ومن ثم خسارة كافة مكتسبات مرحلة سابقة من الجهاد العنيف . وكانت مغامرة خطاب فى الشيشان / من حيث النتائج الوخيمة على أصحاب الأرض الأصليين / مشابهة لمغامرة بن لادن فى 11 سبتمبر 2001 التى أدت إلى إحتلال أفغانستان بقوات أمريكية أطلسية .
2 ـ عملية مركز التجارة فى نيويورك عام 1993 التى رتبها المجاهد الباكستانى ” رمزى يوسف ” وهو وثيق الصلة بمدرسة “جلال آباد” ، ولأنها مدرسة عربية فلم تطال الشهرة كوادر غير عربية كانت مؤثرة هناك بشكل أو بآخر .
3 ـ عملية مركز التجارة العالمى عام 2001 التى رتبها خالد الشيخ ( إبن عم رمزى يوسف ) وهو أيضا كان على إرتباط بمدرسة جلال آباد وقت تكوينها . وقد كان دور القاعدة فى تلك العملية هو التمويل والتدريب ، وبعض العناصر البشرية المنفذه . والعملية حملت كل بصمات ” المراهقة الجهادية ” المغامرة لمدرسة جلال آباد .
4 ـ أسامة أزمراى كان من مؤسسى تلك المدرسة ، ومن المساهمين فى معارك جلال آباد بفاعلية ونشاط . وكان مقاتلا ممتازا ، وقد شارك فى مساهمة قصيرة لكن فعالة إلى جانب “بن لادن ” فى معركة جلال آباد فى صيف 1989 . ومع ذلك كان معارضا عنيدا لفكرة سيطرة بن لادن على العمل الجهادى العربى . وقد انخرط أزمراى فى نشاط معادى للولايات المتحدة فى شرق آسيا إلى أن تم القبض عليه هناك .
5 ـ أبو مصعب الزرقاوى ، ولم يكن ضمن أى تنظيمات فى أفغانستان . وكأردنى كان أقرب إلى جماعة أبو الحارث الأردنى فى منطقة خوست . ويعتقد أنه تلقى تدريبا عسكريا فى معسكر صدى الذى أسسه عبد الله عزام ، وربما أيضا فى معسكر خلدن الممثل العتيد لمدرسة جلال آباد . وعندما أتيحت للزرقاوى فرصة العمل فى العراق تبنى الصورة الأشد تطرفا لمدرسة جلال آباد ، الأمر الذى أثار إنزعاج القاعدة وبن لادن ثم الظواهرى ، ولكن الزرقاوى أنعش مدرسة جلال آباد وأثار حماس أنصارها حول العالم ، وكان خير وريث لتراث “خطاب” فى الشيشان . وبالفعل أدت سياسة الزرقاوى إلى فصم عرى العلاقة بين الوهابية الجهادية وبين سكان العراق من السنة الذين تحرك قطاع منهم بالسلاح وبتشجيع من الحكومة العراقية ليقاوم المنظمات الوهابية المسلحة . ورغم شهرته الواسعة إلا أن الزرقاوى فشل فى توحيد الجماعات السلفية فى العراق ضمن تنظيم واحد ، ويبدو أن السبب كان إفتقاره إلى التأييد المالى والسياسى الكافى من دول النفط العربية .
6 ـ على أيدى أتباع مدرسة جلال آباد تتكرر فى سوريا الآن تجارب العراق والشيشان والجزائر . فنرى الإقتتال الداخلى وسؤ العلاقة مع الناس والإساءة إليهم بل وقتلهم بأوهى الذرائع . فجماعة “داعش” أو ” الدولة الإسلامية فى العراق والشام ” تنقل إلى سوريا أسوأ تجاربها فى العراق . وفى سوريا ظهرت مجموعة مرتبطه بالقاعدة ، بقيادة أبوخالد السورى ، كحمامة سلام تدعو إلى وقف الإقتتال الداخلى وتحذر من سؤ المصير والهزيمة ، فتم إغتياله لدوره “التخريبى” المتعارض مع طبيعة مدرسة جلال آباد التى أهم مميزاتها : العنف ـ التشرذم ـ الفتنة . وفى ذلك توضيح مثالى للفرق بين مدرسة بن لادن ومدرسة جلال آباد رغم الأرضية السلفية الوهابية المشتركة .
يظهر هذا الفرق أوضح ما يكون عند توافر قيادة كبيرة ذات خبرة مثل بن لادن رغم أخطائه الكبيرة . ومن المعتقد أن المسيرة السلفية الجهادية تحت قيادته كانت ستئول إلى نتائج أقل كارثية ، على الأقل من ناحية الإقتتال الداخلى أوالعدوان على المحيط السكانى للحركة الجهادية ، فذلك أبعد ما يكون عن أخلاقياته الشخصية .
ـ وكما أصبحت القاعدة رمزا وأيدلوجية وأسلوب عمل وليست تنظيما بعينه ، صارت مدرسة جلال آباد أيضا حيث لا يشترط لروادها أن يكونوا قد تواجدوا بأنفسهم فى جلال آباد خلال فترة التأسيس .
وما زالت تلك المدرسة تنتشر بقوة ، وبفروع كثيرة متسارعة ، نتيجة لدعم خليجى ودولى نظرا للدور الهام الذى تقوم به فى لعبة الأمم ، كمجاهدين أغرار شجعان ، يقاتلون بالوكالة فى حروب لا يدركون أبعادها .
بقلم :
مصطفي حامد (ابو الوليد المصري)
copyright@mustafahamed.com
المصدر :
www.mustafahamed.com