أمريكا .. وطريق الهروب الذى ضاع
# معضلة أمريكا الحقيقية ليست فى سحب قواتها من أفغانستان ، ولكن فى تلافى التداعيات المدمرة لهزيمتها هناك.
# ثلاث مستويات للكارثة التى تهدد أمريكا نتيجة للإنسحاب ، وهى : ضياع عائدات صناعة الهيرويين ، تفتت الكيان الأمريكى من الداخل ، سقوط المكانة الدولية .
# تيار”الإسلام السياسى” لعب دورا سلبيا للغاية أثناء الغزو السوفيتى ، وكان طليعة مسلحة للغزو الأمريكى لأفغانستان .
# تراجع دور “الإسلام السياسى” فى المنطقة العربية أثر سلبا على فرص مرشحهم ” سياف” فى إنتخابات الرئاسة الأفغانية عام 2014 .
# لا يمكن لدول العالم أجمع أن تؤثر فى الوضع الأفغانى إلا بالقدر الذى يسمح به الأفغان أنفسهم .
# أسلحة الإنتصار فى الحرب هى نفسها أسلحة الإنتصار فى معركة بناء أفغانستان وهى : الإيمان والشعب المتحد .
# تحاول أمريكا إثارة رعب دول المنطقة وإقامة “حلف كراهية” ضد عودة حركة طالبان إلى الحكم ، وذلك أحد أسباب تقارب أمريكا مع إيران .
بقلم :
مصطفي حامد
المصدر :
موقع الصمود – مجلة الصمود عدد 92 – 93
http://alsomod-iea.info/
(أيها الشعب المسلم المجاهد.. اليوم مجاهدونا الأبطال مشغولون فى خنادق القتال ضد الإحتلاليين دفاعاً عن الوطن ، فإن الله سبحانه وتعالى نتيجة تضحياتهم منحهم فتوحات عظيمة فى هذه المقابلة التاريخية. الفتوحات التى إضطرب العدو المغرور مع مالديه من القوة المادية والآلة الحربية الفتاكة، بحيث جعلوهم يضيعون طريق الهروب).
# هكذا وصف مولوى جلال الدين حقانى الورطه الكبرى التى تعانى منها الولايات المتحدة فى أفغانستان. إنهم ببساطة أضاعوا طريق الهروب. فمنذ عام 2006 إكتشف الأمريكيون أن لابقاء لهم فى أفغانستان بسبب مقاومتها الجهادية وميزات شعبها المعادى للإحتلال . لقد أدركت الإدارة الأمريكية أن خروج جيوشها من أفغانستان هو أمر حتمى لا مناص منه ، ولكنها لجأت إلى “شراء” الوقت إلى حين تنظيم عملية الإنسحاب الذى هو ليس مجرد إخراج قواتها من أفغانستان ، بل هو فى جوهره إحتواء للآثار المدمرة المترتبة على ذلك الإنسحاب على مستويات ثلاث هى :
الأول: ضياع الثروة الهائلة المكتسبة من الإحتلال ، أى دخل صناعة اليهروين المستخرج من الأفيون الأفغانى . وكذلك المصير المجهول لدخل نفط وغاز جمهوريات آسيا الوسطى الذى تسيطر عليه الشركات الأمريكية ، ويمر بواسطة أنابيب تعبر أفغانستان صوب ميناء جوادر فى باكستان .
الثانى: تفتت البنیان الأمريكى الداخلى وتعرض الدولة للتمزق . كما حدث ًللإتحاد السوفيتى إثر هزيمته فى أفغانستان .
الثالث: إهتزاز المكانة الدولية للولايات المتحدة وسقوط إمبراطوريتها الإستعمارية حول العالم . كما حدث أيضا للإتحاد السوفيتى بعد أن عانى من هزيمة مماثلة فى أفغانستان وعلى أيدى مجاهديها.
قضت الإدارة الأمريكية السنوات السبع الماضية فى محاولة لإيجاد حلول للمعضلات الثلاث آنفة الذكر. ولكن تلك السنوات كانت عجافا ولم تسفر المجهودات الأمريكية سوى عن تفاقم الخسائر. وقد غطى المجهود الأمريكى ثلاث مجالات هى المجال الأفغانى والمجال الدولى ثم المجال الأمريكى الداخلى. ورغم ضخامة المجهودات وإرتفاع تكلفتها من الدم والمال ، لكنها لم تجد نفعاً وإستمرت الخسائر فى تصاعد وزادت الولايات المتحدة ضعفاً وانكشف موقفها فى كافة المجالات ، حتى عجزت عن لعب دور القوة العظمى الوحيدة فى العالم ، وظهر أن ذلك الطموح الشرير يتخطى كثيراً قدرات تلك الدولة ، فأخذت المبادرة تتفلت من بين أصابعها حتى أصبحت مهددة بفقدان كل شئ ـ أو معظم الأشياء- تماما كما حدث للإتحاد السوفيتى على أيدى مجاهدى أفغانستان عندما سقط على كافة المستويات: فخسر أفغانسان – وخسر الإمبراطورية ثم خسر الدولة السوفيتية نفسها .وهذا هو المصير الذى حاولت الإدارة الأمريكية أن تهرب منه ، ولكن بلا فائدة ، فقد لاحقتهم سيوف الأفغان كما لاحقتهم لعنات مظاليم العالم أجمع .
سنلقى الآن نظرة سريعة على ملامح الفشل الأمريكى فى مستوياته الثلاث .
أولا ـ الفشل الأمريكى فى أفغانستان :
أفضل تلخيص لموقف أمريكا وأعونها فى أفغانسان هو قول مولوى جلال الدين حقانى بأنهم “أضاعوا طريق الهروب” . ذلك لأنهم تأخروا كثيراً فى إتخاذ الإجراءات الضرورية للهروب ، ثم إنهم بالغوا فى أوهام تتعلق بقدرتهم على خداع الشعب الأفغانى وإقناعه بالإبقاء على الإحتلال بصور مختلفة ، والحفاظ على مكاسب أمريكا من العدوان على تلك البلاد.
ولكنهم جابهوا شعباعنيداً ذو عقيدة إسلامية راسخة وعشق للحرية ليس له حدود وليس له مثيل . كما تمتع ذلك الشعب بقيادة حقيقة تحظى بثقته وتتمتع بالإيمان والكفاءة والإستقلالية ، وأيضاً ليس لها نظير فى العالم الإسلامى المعاصر وهذا ما يؤكده الواقع فى كل يوم .
رغم ضخامة الإمكانات المتاحة فى أيدى الأمريكيين فإن مجهودهم فى أفغانستان أفتقر إلى الحكمة وتميز بالرعونة والحماقة. فكان ذلك خير معين لنجاح المجاهدين . ورغم أن الأمريكيين حاولوا الإستفادة من تجربة الجيش الأحمر السوفيتى فى أفغانستان وتفادى أخطائه والإستفادة من نجاحاته ، فرسموا لأنفسهم إستراتيجة عسكرية سياسية ظنوا أنها ستؤدى الى إخضاع أفغانستان ، واستفادوا إلى جانب إمكاناتهم من مساهمة إقليمية ودولية واسعة ، بالتأكيد أنها لم تتوفر لأى قوة استعمارية فى التاريخ . ويجب أن نذكر فى المقابل أن الشعب الأفغانى تمتع بقيادة رفيعة المستوى لم تتوفر له على مدى التاريخ ، وهكذا رجح توازن القوى لصالح الشعب الأفغانى ، فضاع من الأمريكيين طريق الهروب ، ذلك الطريق الذى عثر عليه الجيش السوفيتى بمعاونة أمريكية ومعاونة تلك القيادات الفاسدة والمنحرفة التى تولت زمام الأحزاب الجهادية فى بيشاور الباكستانية وتاجرت بدماء الشهداء وتآمرت على شعبها ، وسمحت للجيش الأحمر بالإنسجاب الآمن ، وسمحت للنفوذ الأمريكى أن يكون بديلاً عن النفوذ السوفيتى . وفى الأخير حاربوا شعبهم بالسلاح وكانوا فى مقدمة جيش الإحتلال الأمريكى ، ومازالوا أخلص المدافعين عنه فى مقابل المال والسلطة التى منحهم إياها المستعمر .
ورغم ذلك مازالوا يزعمون أنهم قادة وإسلاميون ومجاهدون ، ويفتون الشعب بوضع السلاح والدخول فى السلم تحت دستور الإستعمار وتحت طاعة المحتلين ، محافظين على مصالحه الإقتصادية والإستراتيجية فى أفغانستان وفى المنطقة . ذلك هو الإسلام “الأمريكى/ الإسرائيلى” ، إسلام الشرق الأوسط الجديد ، إسلام “الربيع” ، ربيع الفتنة والضلال .
ولما كانت الهزيمة الأمريكية فى أفغانستان هى أساس كل الإنهيار الشامل فى الموقف الأمريكي ، سواء على المستوى الدولى أو على مستوى الداخل الأمريكى بحيث أصبحت الدولة نفسها مهددة بالتفتت نتيجة مشاكل داخلية مستحيلة الحل . لهذا فإن فحص تأثيرات الفشل الأمريكي فى أفغانستان على كافة المجالات يحتاج إلى بحث مطول ليس هنا مجاله ، ولكن فقط علينا ملاحظة فشل الأمريكيين فى إقناع الطرف المنتصر / أى طالبان / بأن يتفاوض معهم من أجل ترتيب عملية سحب القوات وبحث طبيعة العلاقات المستقبلية التى تطمع أمريكا فى أن تكون علاقات إستعمار غير مباشر ، أى إستعمار وطنى من طراز شرق أوسطى ، أى بأيدى أبناء البلد المتعاونين مع دول الإستعمار الخارجى .
وتطمع أمريكا فى بقاء عسكرى محدود الحجم ودائم المدة ومطلق الصلاحية مع حصانة من المساءلة أو المقاضاة ، وبقاء سياسى كامل ودائم للحفاظ على كافة المكاسب الإقتصادية والمالية المترتبة على إحتلال أفغانستان وفى مقدمتها الأفيون والنفط ، أى أفيون أفغانستان ونفط أسيا الوسطى . و هنا ينبغى ألا ننسى وجود كميات ضخمة من الغاز والنفط فى أراضى أفغانستان نفسها ، ولكن لا أحد من اللصوص الدوليين يرغب فى الحديث عنها ، ربما تفادياً لمزيد من التعقيد فى الصراع الدولى حول مكامن الطاقة ، وبالتالى تعقيد الصراع حول أفغانستان . فتلك الدولة الفريدة مرشحة لأن تكون دولة محورية ضمن النظام الدولى القادم الذى لم تتحدد ملامحة بشكل كامل حتى الآن .
على الجانب الأفغانى مازالت حركة طالبان ترفض أى تفاوض مع الإحتلال الأمريكى ، وتصر على حصر الأولوية المطلقة فى موضوع رحيل جيوش الإستعمار وإقامة نظام إسلامى حقيقى مستقل يخدم مصالح الشعب الأفغانى ويعيد بناء ذلك الوطن الذى دمرته الحروب ، والسير به نحو مستقبل يليق بقيمته العالية بين شعوب العالم أجمع والمسلمين منهم بشكل خاص.
ثانياً ـ الفشل داخل الدولة الأمريكية :
كان غزو أفغانستان هروباً أمريكياً إلى الأمام لإستباق عوامل التآكل فى البنيان الداخلى . فجاء إصطناع حادث الحادي عشر من سبتمبر لإتخاذه ذريعة للغزو على أمل أن المكاسب المالية المتوقعة (هيروين ، نفط) سوف تحسن الوضع المالى والإقتصادى ، بالتالى تهدأ التوترات الداخلية الناتجة من أخطاء النظام الرأسمالى المتوحش والديموقراطية المخادعة ، التى تكرس حكم الأقلية الثرية المسيطرة على الحياة السياسية والإعلامية ، وتحصر تبادل السلطة بين أحزاب خاضعة لها بشكل مطلق . وانحصرت مهمة الناخبين فى ترجيح أحد خيارات هؤلاء السادة القابعين بثروتهم على قمة البلاد وصدور العباد . وذلك هو جوهر خديعة “اللعبة” الديموقراطية .
مع توحش الرأسمالية وسعارها غير الأخلاقى وبلا حدود ، لتجميع الثروات الفلكية بصرف النظر عن مصالح أغلبية الشعب بدأت تنكشف عيوب النظام الديموقراطى وسيطرة الأقلية الثرية التى يتراجع عددها وتتضاعف ثرواتها بإستمرار ، فى مقابل زيادة الدين الوطنى إلى حدود فلكية مستحيلة السداد ، مع التضخم وتراجع خدمات الدولة فى التعليم والصحة والبنيه التحتية ، ومعاناة المواطن المتوسط والفقير بشكل يقترب من اليأس والإنفجار. لهذا حصنت الدولة الأمريكية نفسها بعد أحداث سبتمبر بقانون ” الوطنى” الذى هو قانون طوارئ يصادر حريات المواطنين بدعوى مكافحة الأرهاب ، فدشنت بذلك على المستوى الأمريكى والعالمى عهد الديموقراطيات الفاشية ، والتى إنتشرت مثل النار فى الهشيم حول العالم ، وأطلقوا على بعضها لقب أمريكى مخادع كالعادة هو “الربيع” الذى هو إمتداد للثورات الملونة فى مناطق كانت سابقا تابعة للسوفييت ، ونقلتها تلك الثورات الملونة إلى الحظيرة الأمريكية بالكامل .
وفضائح النظام الأمريكى تتعاظم ولم يعد ممكنا حجبها . وتنفجر من وقت إلى آخر فى سلسلة متتابعة ، ساهمت الإنجازات العملية والتكنولوجية على كشفها ونشرها على أوسع نطاق يمكن تخيله . وتبين أن النظام الذى إتخذ من أحداث سبتمبر 2001 ذريعة لإنتهاك الحقوق الدستورية للمواطن الأمريكى لم يعد بقادر على تجهيل المواطن بحقائق التصدع الداخلى وانكشاف عورات النظام الحاكم .
وللحفاظ على بقائه إعتمد النظام على أساليب فاشية فى سلوكه الداخلى والدولى . فمارس التجسس المطلق على الجميع ، بالمعنى الحرفى ، كسياسة رسمية شبه معلنة ، وأمدته التكنولوجيا بالمعدات القادرة . ولا يكاد ينجو مواطن أمريكى / حتى الرئيس نفسه / من تتبع جميع خصوصياته وتكديسها فى ” قاعدة بيانات” لا تدع شاردة ولا وارده إلا وسجلتها.
ومن باب أولى مواطنى العالم المتقدم والمتخلف ، بمن فيهمً الرؤساء والقيادات ، فالجميع لديهم قاعدة بيانات لدى أجهزة الأمن الأمريكة التى تتجسس على البشرية جمعاء.
فی المقابل یعجز الرئيس الأمريكى عن إنجاز أى تعهد إنتخابى قطعه على نفسه . لا نقصد بالطبع تعهده بإغلاق معتقل جوانتانامو الذى هو وصمة عار فى تاريخ أمريكا وتاريخ الحضارة الغربية كلها وشاهد على نفاقها وزيفها الأخلاقى .
ولكنه فشل حتى فى تحقيق تعهده للمواطن الأمريكى العادى بتوفير عناية صحية معقولة . فمجلسا النواب والشيوخ فشلا فى تمرير المشروع نتيجة صراع حزبى وخلاف على دور الدولة تجاه الشعب ، وضرورة أن تتحكم الرأسمالية بالخدمات الأساسية وتحويلها إلى سلع تجارية ، بما فى ذلك العناية الصحية .
وعاند النواب الجمهوريون فى تمرير مشروع الرئيس الخاص بالعناية الطبية ، وربطوا موافقتهم على رفع سقف “الدين العام” حتىى يتخطى الترليونات السبعة بضرورة التخلى عن مشروع أوباما للعناية الصحية ، أو على الأقل تخفيفه وتفريغه من محتواه وإبقاء الخدمات الطبية سلعة يحتكرها الثرياء وشركاتهم على حساب المواطن الفقير ومتوسط الحال . والنتيجة كانت توقف أجهزة الحكومة عن العمل مؤقتاً لعدم توفر المال “!!” وقد تأجلت المشكلة لعدة أشهر لعلهم يصلون إلى صفقة ترضى الطرفين . فكان فى ذلك إختباراً جديداً يكشف الحقيقة الزائفة والمراوغة للديموقراطية . فالمجالس النيابية تخدم أسيادها الحقيقين ، أى أصحاب الثروات العظمى ، ولا تخدم المواطن العادى الذى وثق فيها وأعطاها صوته .
ثالثا ـً إهتزاز المكانة الدولية للولايات المتحدة :
هناك إجماع على أن الولايات المتحدة لم تعد ذلك القطب الأوحد القادرعلى فعل ما يشاء ويملى على دول لعالم ما يجب عليها أن تفعل . فالعديد من الأقطاب العالمية بدأت فى النمو إلى درجة كبيرة ، وفى مقدمتهم القطب الصينى ، وهناك الروس الذين إستعادوا مقداراً أكبر من توازنهم وفعاليتهم الدولية ، وهناك قوى أخرى مرشحة لمشاركة مميزة فى نظام دولى قادم ومن هؤلاء الهند وإيران وجنوب أفريقيا والبرازيل ، ثم هناك أفغانستان الأولى فى العالم من حيث القدرة على تحطيم الأنظمة الدولية الجائرة القائمة على العدوان والغزو . وهذه المرة تمتلك أفغانستان فرصة حقيقية لتكوين قوة رائدة فى نظام إقليمى ودولى أكثر عدالة و سلاماُ .
أقرب الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة بدأوا فى إتخاذ مسارات أكثر إستقلالية ، خاصة الإقطاب الأوروبية الثلاث بريطانيا وفرنسا وألمانيا . وتحت ضغط الأزمة الإقتصادية العالمية التي فجرتها الولايات المتحدة ، بدأت القوميات فى أوروبا تستيقظ ، بل بدأت النازية والفاشية تظهر من جديد وتوجه سهام غضبها فى البداية ضد المهاجرين والمسلمين فى أوروبا وتهدد بمستقبل مظلم يعيد الماضى الأوربى الدامى . وأضفت فضائح أمريكا فى التجسس بعدا أمنيا وأخلاقيا ، إضافة إلى عوامل الإقتصاد والسياسة ، فى شق طريق أوروبى فى المجال الدولى بشكل أكثر استقلالية وربما أكثر تنافسية مع الدور الأمريكى . وقد بدأت ملامح ذلك التنافس فى المجال الافريقى والعربى بين فرنسا والولايات المتحدة . وإنجلترا بدأت فى فتح دفاترها القديمة العربية والإسلامية.
= المنطقة العربية هى درة تاج الإمبراطورية الأمريكية ، كما كانت الهند بالنسبة للأمبراطورية البريطانية الغابرة . تلك المنطقة تعنى للأمريكيين النفط المتدفق بلا حساب ولا عقبات ولا إعتبار غير الإعتبارات الجيوسياسية الدولية للولايات المتحدة . وتعنى تلك المنطقة أيضاً أمن وسيطرة إسرائيل على محيطها الجغرافى (الجيوستراتيجى) من الخليج الى المحيط . كما تعنى المنطقة العربية أيضاً “محاربة الإرهاب” أى منع أى دور عملى للإسلام فى شئون المنطقة تحت ستار مكافحة إرهاب مجموعات جاهزة التصنيع والتوجيه تخدم الاستراتيجة الكونية للولايات المتحدة . هذه هى الترجمه الحقيقة لذلك الشعار وتلك السياسة التدميرية / سياسة مكافحة الإرهاب/ التى تثبت أركان إسرائيل وتحمى الأطماع الأمريكية وتستبعد دور الإسلام عن شئون المنطقة . وتلك هى الخدعة التى سقطت فيها “جماعات جهادية” وجماعات ” الإسلام السياسى” بدون وعى أو عن سبق إصرار وترصد ، أى بمشاركة واعية بالعواقب والأهداف .
نظرا لأهمية المنطقة بالنسبة للمكانة الإمبراطورية الأمريكية ، بذلت أمريكا جهداً لسنوات قبل الإنسحاب من أفغانستان كى تعيد ترتيب أوراقها هناك ، وأجرت تعديلات تستبق بها أى ثورات حقيقية تقوم بها شعوب المنطقة المحتقنه بشتى أنواع التوترات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، مع هشاشة الأنظمة وفسادها ومبالغتها فى سياسات القمع الوحشى ، الذى لم يعد هناك ما يبرر صبر الشعوب عليه بعد أن خسرت الكرامة كما خسرت لقمة العيش وخسرت أى أمل فى مستقبل أفضل .
إستبقت أمريكا الثورات الحقيقية المتوقعة بثورات أسمتها الربيع العربى . وبدلاً من الأهداف الحقيقية لأى ثورة شعبية جاءت ثورات ذلك الربيع بشعارات ليبرالية ترفعها قيادات بلا تاريخ ولا جذور ، وإنتهازيين قفزوا على الموجة بشعارات بلا أصل ولا عمق ، بعضها وبكل أسف إدعى إرتباطا بالإسلام والشريعة فى إطار من الليبرالية الرأسمالية التى إتبعتها النظم السابقة ، فأدى ذلك إلى نفور وإنعدام ثقة ومزيد من الإحباط لدى الشعوب التى ظنت أن الإسلاميين قد يمثلون الحل فوجدوهم جزءا من المشكلة وفقدان الأمل والتمزق الإجتماعى .
المجهود الأمريكي على ضخامته وطول مدته الزمنية لم يحقق النجاح المطلوب وحظى بإنتكاسات جوهرية ، ومازالت المنطقة مضطربة ومهددة بالمزيد من التمزق والإحتراب الداخلى ، مع إحتمالات خطرة على مصالح إسرائيل وأمريكا معاً.
= من أكبر مظاهر الفشل الأمريكى فى المنطقة العربية هو فشل رهانها على قوى “الإسلام السياسى” التى مثلت إرتكاسة خطيرة فى العمل الإسلامى الشعبى ، وانجرافاً عن أهداف الإسلام ومصالح المسلمين وشعوب تلك المنطقة عموما . ولم يلتفت أحد من المنطقة العربية أن قوى “الإسلام السياسى” قد لعبت فى أفغانستان دوراً سلبياً للغاية فى فترة الجهاد ضد الغزو السوفيتى ثم فى فتره الغزو الأمريكى لأفغانستان ، بل أنهاعملت لعدة سنوات من أجل التمهيد لذلك الغزو وإستدعائه إلى أفغانستان .
إختلفت الرؤية بين الولايات المتحدة وشقيقتها إسرائيل حول دور “الإسلام السياسى” فى المنطقة العربية والشرق الأوسط الكبير الذى يشمل تركيا وإيران وربما أفغانستان أيضاً . تلك القضية زادت من شقة الخلاف بين الشقيقتين بشكل غير مسبوق فى أى وقت مضى . وانعكس ذلك على عدة مناطق عربية حيوية فى شكل صراع داخلى عنيف أدى / على غير المتوقع/ إلى طرد النفوذ الأمريكى من عدة مواضع هامة كانت تابعة له تقليديا ، لصالح لنفوذ إسرائيل المتمدد بإضطراد وهدؤ فى بلاد العرب . وقد تأثرت أفغانستان أيضاً بذلك التطور الفريد ، على الأقل من ناحية التأثير على فرص تيار “الإسلام السياسى” فى أفغانستان وسعيه نحو الوصول إلى سدة الرئاسة فى إنتخابات 2014 . فالرمز الأكبر لذلك التيار وأحد أعمدة نظام كرزاى ، وهو عبد الرسول سياف ، قد تأثرت قدرته التنافسية على مقعد الرئاسية مع تراجع فى دور ومكانة تيار الإخوان المسلمين الذى ينتمى إليه فى العالم العربى .
بعد سنوات من الجهد والإنفاق الباذخ لم يستقر العالم العربى- أو الشرق الأوسط الكبير ـ تحت الأقدام الأمريكية ، بل إشتعل الصراع بينها وبين أقرب الأشقاء لها ( إسرائيل) وبينها وبين أقرب الحلفاء الأوربيين . وفى تلك المنطقة الحيوية للمستقبل الأمريكى لم تستفد تلك الدولة من تأجيل إنسحابها من أفغانستان لأكثر من سبع سنوات سوى المزيد من الخسائر فى أفغانستان نفسها وفى الشرق الأوسط . ومن أبرز خسائرها فى تلك المنطقة كان حربها فى سوريا ومحاولة إستنساج التجربة الأفغاية ضد السوفييت ، وإستخام “الورقة الإسلامية” مرة أخرى من أجل إسقاط نظام حكم غير مريح بالنسبة لها ، على الأقل من ناحية كونه عقبة فى طريق خطط الحرب السرية على خطوط نقل الطاقة من نفط وغاز ، وخططها لإزاحة الغاز الروسى من السوق الأوروبى لصالح إمدادات الغاز القطرى . وبالتالى تخفيض المرتبة الدولية لروسيا الإتحادية ، ودورها الجيوسياسى المتنامى ، ونفوذها على أوروبا من باب الطاقة التى تزودها بها من حقول الغاز الروسية . وفى سوريا إنفجر الصراع بين الشقيقين الأمريكى والإسرائيلى ، وعجز الأمريكى عن تنفيذ مطالب إسرائيل بإستخدام القوة الجوية لدعم المعارضة السورية فى إسقاط النظام . كما عجز الأمريكى عن تلبية مطلب أكثر أهمية وخطورة بإستخدام قواه الجوية والصاروخية لتدمير البرنامج النووى الإيرانى ، أو كامل البنيه الصناعية إن أمكن ، وإعادة إيران عدة عقود إلى الخلف حتى تصبح فى قامة باقى دول المنطقة العربية ، أى بحيث لا تشكل أدنى خطورة محتملة على إسرائيل .
ذلك الجموح فى مطالب إسرائيل تخطى كثيراُ قدرات الأمريكي المستنزف فى أفغانستان ، والذى بالكاد خرج من ورطته فى العراق ً ، ولم يعد لديه فائض قدرة إقتصادية أو نفسية لخوض المزيد من المغامرات الحربية ، خاصة إذا كانت مضمونة الخسارة . وهكذا توسعت شقة الخلاف بين الشقيقين . ودفع الخلاف والعجز بالأمريكى إلى شاطئ التفاهم مع إيران ، كردة فعل على سؤ المعاملة والغدر الإسرائيلى ، وأيضا كنتيجة منطقية لحسابات معقدة لموازين القوى فى الحرب الصامتة على حقول وخطوط نقل النفط والغاز فى المنطقة العربية . وبنفس القدر من الأهمية وربما أكثر حسابات الوضع الأفغانى القادم تحت قيادة حركة طالبان المنتصرة . وكيفية مواجهة ذلك القدر الزاخر بالإحتمالات التى ترعب الأمريكيين ، فعملوا على تصدير رعبهم إلى دول الإقليم كافة وعلى رأسهم إيران ، ناهيك عن الهند وروسيا والصين فى محاولة لإنشاء حلف كراهية يعرقل مستقبل أفغانستان ويحاصرها ويشعل نيران الفتن فى الداخل . ولكن إحباط مثل ذلك المخطط لن يكون مستحيلاً على الشعب الأفغانى وقيادة حركة طالبان ، كما أن دول المنطقة لم تكن كما كانت قبل عام 2001 ، فقد إكتسبت خبرة كبيرة بأساليب الإستعمار الأمريكي وخطورته على أمن وإستقرار المنطقة ، واتضح الدور الأمريكى فى صناعة الهيروين وترويج إستخدامه بين شعوبها ، إضافة إلى تصنيع وتشغيل مجموعات مسلحة تزعزع أمن تلك الدول ولا تخدم سوى مصالح المعتدين القادمين من الخارج ممثلين فى الولايات المتحدة وحلف العدوان الأوروبى “الناتو” .
يبقى العنصر الأهم وهو أن دول الإقليم أو دول العالم أجمع لا يمكنها التأثير على الوضع الداخلى فى أفغانستان إلا بالمقدار الذى يسمح به الأفغان أنفسهم . وبمعنى آخر أن تلاحم الشعب الأفغانى وتوثيق العلاقات الداخلية بين مكوناته لإغلاق المنافذ أمام أى تدخل خارجى ، هو العمل الأهم لمستقبل أفغانستان وإعادة بنيانها الذى حطمته الحروب ، ثم القيام بدور خارجى فعال سواء على مستوى الإقليم أو مستوى العالم .
وتلك هى أكبر التحديات التى ستواجه ذلك الشعب العملاق بعد إندحار العدوان الأمريكى وبدء مرحلة البناء الداخلى . والمسئوليه الأكبر فى تلك المهمة الجباره سوف تقع على حركة طالبان وقياداتها التى أثبتت جدارة غير عادية فى مرحلة الجهاد المسلح ضد العدوان الأمريكى الأوروبى . ومن المؤكد أنها سوف تلاقى نفس النجاح فى التحديات القادمة بالإعتماد على نفس الأسلحة التى ربحت بها الحرب ، أى سلاح الإيمان وسلاح الثقة بالشعب الأفغانى المتحد .
دور إستراتيجى لسياسة مكافحة الإرهاب :
الولايات المتحدة شأنها شأن باقى دول الإستعمار الأوروبى ترى أنه من الإستحالة أن تبقى الدولة وتزدهر بدون عدو خارجى يستفز طاقات الأمة ويوحد صفوفها للمواجهة ويشحذ همتها نحو التفوق والسيطرة .
وتاريخ أوروبا ملئ بالحروب شبه المتصلة على مدار تاريخها ، ولم يكبح جموحها للغزوات الخارجية سوي السلاح النووى الذى حولها صوب الحروب الخارجية ولكن بالوكالة ، أى القتال بأيدى الآخرين ، وتحقيق أطماعها بواسطة إشعال حروب تشعلها وتمدها أسباب الإستمرار إلى الحد الذى يحقق مصالحها بدون إعتبار “للصغا” الذين بذلوا الدم وربما دمروا بلادهم بأيديهم ولصالح أعدائهم الحقيقيين ، أى الدول الاوربية نفسها . وأمريكا هى رأس الحضارة الأوربية وقائده تلك السياسة المدمرة التى أدت الى عسكرة الحياة على سطح الكرة الأرضية.
ومالبثت تلك الدولة أن أخترعت “الإرهاب الإسلامى” وإتخذته عدواً أساسياً فى أعقاب إنتهاء الحرب الباردة بسقوط الإتحاد السوفيتى فى أفغانستان ، وتحطيم الإمبراطورية السوفيتية ثم الدولة السوفيتيه نفسها.
لقد رتبت إدارة الرئيس بوش – وبمشاركة إسرائيل- أحداث الحادى عشر من سبتمبر ، ومن يومها أصبح موضوع الحرب على “الإرهاب الإسلامى” بنداً أساسياً فى السياسة الأمريكية ، وفرضتها على الإجندة الدولية . ومن الصعب أن نتصور أن تسير السياسة الكونية الولايات المتحدة بدون رفع رايه الحرب على الإرهاب ، ذلك فإنها تعمل على تصنيع وتفريخ وتشغيل جماعات كثيرة ، وتفتح لها وتدفعها إلى مناطق لتخدم الإستراتيجية الأمريكية حول العالم بشكل عام وفى المنطقة العربية والإسلامية بشكل خاص.
ومنذ الحادى عشر من سبتمر وحتي اليوم والعالم كله يسير خلف الولايات المتحدة فى عسكرة الحياه المدينة والسير حثيثاُ فى تعظيم الدور البوليسى للدولة . وفى المقابل صارت “الصناعات الأمنية” فى الولايات المتحدة أكثر إردهارا من الصناعات العسكرية الجباره وأكثر منها مبيعاً وربحاً ، بعد أن إشتد الطلب العالمى عليها . وبالطبع رافق ذلك الطلب على الخبرات الأمريكية وتقنيات القمع الجماعى للجماهير والتجسس عليهم ، وإعتماد أساليب التعذيب والبطش . وكل ذلك جائز تماشياً مع السياسة الأمريكية والإنصياع لها وإرغام الشعوب على إبتلاعها.
بإختصار .. لقد تحولت أكذوبه “الإرهاب” دعاية وتطبيقاً إلى جزء حيوى لاغنى عنه من أجل ديمومة وتقدم الإستراتيجية الكونيه للولايات المتحدة. ومع وضوح ذلك إلا أن قطاعاً هاماً من العمل الإسلامى الشعبى سقط فى ذلك الفخ وسمح للعدو أن يستخدمه ضد مصالح الشعوب الإسلامية والعربية . إما بحمل السلاح لخدمة الإستراتيجية الأمريكية أو الإمتناع عن حمل السلاح ، أيضا لخدمة الإستراتيجية الأمريكية نفسها . وهكذا أصبح الجهاد فرض عين إذا خدم مصالح أمريكا ، أو يصبح إرهابا وتطرفا إذا كان ضد عدوان أمريكا أو إسرائيل .
ويرجع ذلك الى أسباب عديدة منها فقدان القيادة الحقيقة ، وضعف العلم الدينى ، وفوضى الإفتاء ، إلى جانب العزلة الكاملة عن القضايا الحقيقية للشعوب ، والإنعزال فى قواقع فكرية وتنظيمية ، وتحول الجماعات إلى أصنام تعبد من دون الله ، بما ينتجه ذلك من أوهام وإنحرافات سلوكية ، وسهوله الوقوع ضحية للخداع والإستدراج والإختراقات الأمنية للتنظيمات والتى باتت أوضح من أن يشار إليها .
لاشك أن التحرك الإسلامي الشعبى فى حاجة إلى إعادة نظر عميقة تطال الكثير من المسلمات التى لا أساس لها من علم أو يؤيدها واقع . إن ذلك التحرك فى حاجه الى ثورة شاملة على نفسه حتى يستبين حقيقة دوره لخدمة دينه وأمته وليس تقديم الخدمات إلى أعدائه ضد مصالح الدين والأمة .
بقلم :
مصطفي حامد
copyright@mustafahamed.com
المصدر :
موقع الصمود – مجلة الصمود عدد 92 – 93
http://alsomod-iea.info/