منذ عامين تثير الولايات المتحدة أقصى ضجيج ممكن حول عملية التفاوض مع حركة طالبان ، ولم يكن هناك أساس لذلك كله سوى موجة ضغوط من أصدفاء أمريكا العرب والباكستانيين من أجل جذب الحركة إلى مائدة المفاوضات .
وأخيرا نجحت الضغوط فى حمل الحركة إلى “مكتب ” فى العاصمة القطرية . ماكينة الأعلام الأمريكية ـ والإعلام الدولى الدائر فى نطاق جاذبيتها ـ أثارت موجة تسونامى من الأخبار والتكنهات حول ما يدور فى الدوحة من مباحثات ، وتكلمت عن إشتراطات أمريكية فيها . وحسب مصادر حركة طالبان فإن كل ما جرى ويجرى فى الدوحة حتى الآن هو مجرد جدال حول طبيعة ودور المكتب الممنوح للحركة فى العاصمة القطرية .
أمريكا تريد من حركة طالبان / كبادرة حسن نية / أن تتوقف عن المقاومة المسلحة وأن تعترف بالدستور ونظام الحكم القائم . بما يعنى أنها تطالب الحركة بالإستسلام الكامل بلا قيد أو شرط . وأن تصبح الحركه الجهادية المسلحة مجرد عنصر إضافى لتقوية النظام الكرتونى بدلا من أن تصبح هى نموذجا جديدا للحكم الإسلامى الحر . وبتعبير آخر أن تكون مجرد إضافة جديدة للوجوه الإسلامية الجهادية القديمة التى تخدم الآن الإحتلال الأمريكى الأوروبى فى كابول بعد أن كانت فى السابق رموزا للجهاد ضد السوفييت تملأ عين مسلمى الدنيا . مثلها فى ذلك مثل كثير من الحركات فى “الربيع العربى والإسلامى!!” ، والتى تحولت إلى مجرد مساحيق صنعت على الطريقة الإسلامية بمواد حلال شرعاً “!!” لتجميل للأنظمة الفاسدة وتقاسم الغنائم الحرام معها .
حصان طروادة
إنه هجوم أمريكي على نطاق العالم لإستيعاب الحركة الإسلامية بأطيافها المتنوعة وتوظيفها ضمن إطار الخطة الأمريكية للهيمنة على العالمين العربى والإسلامى .
دور قطر مشهود كحصان طروادة لإختراق الثورات العربية وتوجيه مسارها نحو التعاون مع السيد الأمريكي والقبول بالغنائم التى تحت المائدة . وهى تريد أن تواصل نفس الدور مع الشعب الأفغانى فى جهاده ضد الإحتلال الأمريكى . وفى سعيها نحو “بناء الثقة” ومنحها مكتب هزلى فى الدوحة لخداع حركة طالبان ، إنما تقدم خدمة شخصية لا تقدر بثمن للرئيس أوباما تكون رصيدا كبيرا لإعادة إنتخابه . ولا شك أن قطر تنتظر رد الجميل بأن تواصل أمريكا دعم دورها الجديد فى المنطقة كحصان طروادة أو رأس رمح فى عمليات إقتحام سياسى وربما عسكرى بديلا عن قوى عربية أخرى ضعفت أو شاخت أو ذبلت أو ماتت كما هو الدور السعودى والدور المصرى والدور العراقى ، أو الدور السورى المحاصر والذى تتعاون قطر مع أمريكا وباقى الحلفاء على إزالته مترافقا مع الدور الإيرانى . إن قطر تسعىى لأن تكون نجما فى سماء الشرق الأوسط إلى جانب الشمس الإسرائيلية.
قطر فى ثوبها السياسى الجديد ، المزود بإعلام ليبرالى جرئ ، كان لها دور بارز كأحد مكونات القوة الأمريكية الناعمة بل ومركزها الأهم فى المنطقة العربية ، وأداة مقبولة جماهريا للتعامل مع شعوب الشرق الأوسط الجديد وترويج الفوضى الخلاقة / التى تقوى الإرتباط القديم مع أمريكا بل وتستدعيه إلى مواقع جديدة / بديلا عن الثورات الشعبية الحقيقية .
القوة الأمريكية الغاشمة , لم تستطيع على أرض أفغانستان أن تحطم إرادة المقاومة لدى الشعب الأفغانى وحركة طالبان , وليس من المتوقع أن تحرز بالخديعة أى إنتصار فى التفاوض وهى فى مركز قوتها الناعمة فى الدوحة . فهى لم تنجح حتى الآن فى بناء الثقة مع الوفد الأفغانى بمنحه ذلك المكتب العجيب ( مكتب بناء الثقة) الذى تريده أمريكا مجرد مأوى لمبيت الوفد الأفغانى .
مفاوضات فى خدمة الإنتخابات
كل ذلك الوقت والمجهود المهدر والمفاوضات والوساطات والضغوط ، كلها دارت وماتزال حول (طبيعه المكتب) … فمتى تبدأ المفاوضات الجدية؟؟ .
– منذ البداية وذلك الحديث عن المفاوضات يلبى فقط حاجة إنتخابية للرئيس الأمريكي . فالرئيس أوباما لا يمكنه أن يبدأ عملية تفاوض جدى حول أفغانستان قبل أن يعاد إنتخابه , أو أن يتولى المسئولية رئيس جديد يتحمل تبعات الإنسحاب ونتائجه المأساوية التى هى هزيمة عسكرية وتراجع سياسى فى المنطقة وخسائر يصعب مجرد تخيلها للعائد المالى الذى تدره كنوز الأفيون الأفغانى وبحار نفط آسيا الوسطى ، تبعات تضاف كلها إلى الوضع الإقتصادى الأمريكى المتدهور إلى حدود الكارثة .
لهذا لن يقدم المفاوض الأمريكى على أى خطوة جدية فى المفاوضات، بل سيجعلها تدور فى حلقة مفرغة حول موضوع “المكتب” وخرافة بناء الثقة . ولكن مصلحة الرئيس الأمريكى المؤكدة هى فى الحصول على أسراه من أيدى حركة طالبان كى يضمهم إلى حملته الإنتخابية ومهرجاناتها الصاخبة ، والتى يحلم أن يظهر فيها ملوحاً بعلامة النصر بين أسراه المحررين ، بينما تدوى هتافات الجماهير المنتشية بالنصر على (الأعداء).
فى سبيل ذلك يستخدم أوباما قواه الناعمة , نعومة رمال الخليج . ومن غير المعروف على وجوه الدقة تلك العروض المطروحة لتحقيق ذلك الهدف الغالى الخاص بتحرير الأسرى ، وهل ينوى كالعادة الأمريكية دائما أن يلوح بإستخدام ترسانة البترودولار العربى لتحقيق نصر لم تحققه الحرب ؟؟ .
لا يعتقد – حتى الأمريكان أنفسهم – بكفاية العرض المطروح بنقل خمسة من قادة طالبان المعتقلين من جونتانامو إلى أحد السجون القطرية . فالمفاوض الأفغانى يدرك أن ذلك يسلبه ثانى أهم أدوات الضغط لديه , بأعتبار أن الضغوط العسكرية على قوات الإحتلال هو سبيل النجاة الرئيسى لأفغانستان وشعبها .
زنزانة فى الدوحة
خطة التفاوض الأمريكية بشكلها الحالى هى فخ منصوب بعناية يجعل الوفد الأفغانى فى العاصمة القطرية أسيراً لعملية تفاوض لا تصب إلا لمصلحة فرد واحد هو الرئيس أوباما ، وتضع ذلك الوفد فى مكتب هو فى الواقع زنزانه تحبط معنوياته وتعرضه للإذلال والإبتزاز طالما أن المفاضات بلا موضوع محدد ، ولا جدول عمل , ولا سقف زمنى ، والبند الوحيد المطروح للبحث هو شعار فضفاض ومخادع هو ( بناء الثقة) . وكأنه يمكن منح الثقة للمحتل قبل أن يسحب جيوشه ويوقف مجازره ويوقف إهانة المقدسات وحرق القرآن فى المساجد والقواعد العسكرية . أو كأن الشعب الأفغانى مطالب أن يثبت للمحتلين أنه جدير بنيل ثقتهم ، أو أن الإستقلال والحرية يمكن الحصول عليهما بالإقناع وبناء الثقة بين الضحية والجلاد ، أو أنه بإمكان جيوش الإحتلال الأمريكى/ الأوروبى قتل الشعب الأفغانى وأن تحصل فى الوقت ذاته على ثقة الوفد المفاوض الأفغانى فى الدوحة ، وهدفها من ذلك زرع الفرقة بين الشعب وقيادته الجهادية بل وزرع الشقاق داخل صفوف حركة طالبان نفسها .
وفوق كل ذلك فإن الوفد الأفغانى المنتصر فى الحرب مطلوب منه أن يجلس فى حالة إنتظار طويلة للطرف الأمريكى المنهزم إلى أن تسمح ظروفه الإنتخابية وحساباته السياسية بالدخول فى عملية تفاوض جدية !!.
– المسار التفاوضى الراهن الذى رسمته أمريكا يهين الوفد الأفغانى فوق أرض عربية هى فى الحقيقة طرف منحاز للمحتل وليست وسيطاً محايداً. فالتفاوض على أرض قطر يشبه التفاوض فوق حاملة طائرات أمريكية . فحاملات الطائرات ليست مكانا للتفاوض بل هى مكان للإستسلام غير المشروط ، كما حدث لإمبراطور اليابان بعد خسارة بلاده أمام أمريكا فى الحرب العالمية الثانية ، حيث وقع على ظهر حاملة طائرات أمريكية وثيقة إستلام بلا قيد أو شرط للعدو الأمريكى .
– الوفد الأفغانى والوضع هكذا, وأمريكا تلعب بقضيتهم فى ساحتها الإنتخابية ، ربما كان من الأفضل له أن يعود إلى أفغانستان مرة أخرى وأن يسلم مفاتيح “مكتب الإنتظار” إلى المفاوض الأمريكى , أو إلى مدير بلدية الدوحة .
– بظهور نتائج الإنتخابات , ربما فكرت أمريكا أن تمضى قدماً فى مفاوضات جدية / لا تحتاجها حركة طالبان ولا الشعب الأفغانى لأن نتيجة المعركة أصبحت واضحة والإنسحاب الأمريكى مستمر منذ أشهر/ مفاوضات تضمن جدولاً محددا للإنسحاب السريع وتعويضات كاملة عن خسائر الحرب وتسليم المطلوبين ومجرمى الحرب إلى حركة طالبان , وبعدها يمكن فتح ملف تسليم الأسرى كبادرة حسن نية بين الشعبين وليس مع أى رئيس أمريكى عدوانى ينتقل من فشل إلى فشل أكبر.
وإلى أن يأتى ذلك الحين فمن الأفضل أن تختار حركة طالبان من بين قادتها المجاهدين وفداً مناسبا ومكاناً أكثر حيادية لإجراء عملية تفاوض يملى شروطها الطرف المنتصر فى الحرب .
وليس هناك أنسب من قندهار مكانا لتوقيع إتفاق الإنسحاب بين حركة طالبان كممثل للشعب الأفغانى المنتصر ، وبين دولة إستعمارية منهزمة هى الولايات المتحدة .
فعسى أن يكون فى ذلك درساً تاريخياً آخر لكل من تسول له نفسه إقتحام أرض أفغانستان .
بقلم :
مصطفي حامد (ابو الوليد المصري)
copyright@mustafahamed.com
المصدر :
مافا السياسي (ادب المطاريد)
www.mafa.world