جلال الدين حقاني .. أسطورة من جهاد أفغانستان (2)
تحطيم أسطورة الجيش الأحمر في باكتيا
بقلم :
مصطفي حامد ابو الوليد المصري
المصدر :
موقع مجلة الصمود (إمارة أفغانستان الإسلامية) عدد 46
http://124.217.252.55/~alsomo2
مقدمة:
}} كان لي الشرف بأن أتعرف على عدد من جيل العمالقة الذين فجروا الجهاد في بدايته الأسطورية الأولى في أفغانستان.
ورد من أسماء هؤلاء في الحلقة الأولى اسم الشيخ “محمود لاله” رحمه الله، وكنت قد قابلته في لقاء قصير في مركز “ساران” القريب من جارديز، وقد ذكرت قصة ذلك اللقاء في كتابي الأول (15 طلقة في سبيل الله).
وقد اعتمدت في رواياتي لأحداث الانطلاقة الأولى للجهاد على روايات عديدة بعضها كان من مولوي جلال الدين حقاني إضافة إلى مجاهدين كثيرين، وأخص بالذكر الرائد جولزاراك الذي توطدت علاقتي به عام 1983 في معركة الأورجون وما بعدها.
خاص، فقد كانت أحداثا غير عادية في وقائعها وشخصياتهاوهو شخصية عسكرية ممتازة إضافة إلى كونه أديب ومؤرخ وشاعر، وكان مهتما بشكل خاص بجمع وتأريخ أحداث الجهاد في ولايته “باكتيا” وأحداث العام الأول بشكل .
كان لدى جولزاراك مشروعا لطبع كتاب من جزأين حول بدايات الجهاد وربما يكون قد أصدر جزءا واحدا، ولا أدرى ما حدث لمشاريعه الأخرى التاريخية منها والأدبية، ولأي مدى ساعدته الأحداث أو عرقلته في طموحاته الكبيرة تلك، ولكن المؤكد هو أن الأمريكيين وأعوانهم من غربيين (وآخرون) قد أنفقوا أموالا طائلة من أجل تجميع وثائق تلك المرحلة، المكتوب منها والمصور، وأخفوه في غياهب المجهول حتى يفقد المسلمون تاريخهم وذاكرتهم فلا يعرفون عن ذلك التاريخ إلا من مخزون الغرب ووجهات نظره المسممة.
في هذه الحلقة واجهت صعوبة كبيرة في تجميع تفاصيل الكمين الأول في وادي زورمات الذي وجه ضربة قاسية جدا للسوفييت في باكتيا وأسقط أسطورتهم المخيفة في أعين الناس.
لقد اعتمدت على روايات مصدرها الرائد جولزراك وآخرين من قدامى المجاهدين في المنطقة، ولكن أعترف أنني لم أبذل الجهد الكافي لاستقصاء ذلك الحدث التاريخي الهام، ولذلك التقصير أعذار عدة منها الانشغال بأشياء أخرى وعدم تفرغي لذلك العمل، إضافة إلى قلة الإمكانات المتاحة لي.
أشعر بالأسف لكل ذلك، ولكنه جهد المقل، الذي هو خير من لا شيء }} ـ مصطفي –
خطة للدفاع عن بكتيا
المجاهدون والسوفييت كلاهما يدرك أن جائزة باكتيا الكبرى هو سهل خوست على الحدود مع باكستان والذي يوفر مزايا إستراتيجية وسياسية عديدة بالنسبة للتعامل مع باكستان، سواء إذا قرر السوفييت شن هجوم عسكري عليها وبالنسبة إلى السيطرة على طرق إمدادات المجاهدين التي يمر معظمها من خلال باكتيا عموما، وخوست واحدة من أهم معابرها، ومدينة خوست وسط ذلك الوادي تكاد أن تكون محاصرة منذ وقت مبكر من نشوب الجهاد ضد نظام كابول، لولا الجسر الجوى الذي يربطها مع العاصمة.
والطريق بين خوست وعاصمة الولاية (جرديز) وطوله حوالي 100 كيلومتر قد تم قطعه بواسطة كمائن جلال الدين ومساندة قبائل باكتيا خاصة قبيلة زدران التي يمر الطريق في معظمه عبر أراضيها، وقد تكبد الجيش الحكومي خسائر فادحة فوق ذلك الطريق في عهد الرئيس طراقي ثم من بعده حفيظ الله أمين رغم الدعم السوفييتي الكثيف بالخبراء والمستشارين، وساعد على ذلك الطبيعة الجبلية للمنطقة التي تساعد على ترتيب كمائن غاية الخطورة، أدت إلى عجز الجيش نهائيا عن استخدام الطريق مكتفيا بإمداد خوست عن طريق الجو متحملا في ذلك نفقات مالية هائلة.
كان منطقيا أن يكون فك الحصار البرى المضروب حول خوست أولوية لدى الجيش السوفييتي عند قدومه إلى باكتيا، أي أن المعركة الحاسمة ستكون على الطريق المار عبر مناطق قبيلة “زدران” .
ولكن “حقاني كان له رأى آخر وسنرى أنه لم ينتظر حتى تدور المعركة الرئيسية الأولى مع السوفييت فوق أراضيه بل خاض معركة رادعة في منطقة أخرى جعلت السوفييت يدركون أن معركة فوق طريق زدران سوف تكون انتحارا مؤكدا، خاصة إذا جاءت في بداية الغزو، فقد تؤدى إلى إحباط مبكر لمعنويات الجيش الأحمر الذي لم يتعرف بعد على الأرض وطبيعة الحرب الدائرة فوقها.
في إطار تجهيزاتهم ومشاوراتهم حول المواجهة الأولى القادمة مع الجيش الأحمر كان إجماع المجاهدين على أن السوفييت سوف يرسلون تعزيزات كبيرة إلى جرديز عاصمة باكتيا ومنها ينطلقون صوب مدينة خوست عبر طريق ” زدران”، وهناك سوف يقع الصدام الكبير.
في اجتماعه مع القادة الميدانيين ركز حقاني على أهمية المعركة الأولى وتأثيرها على المعنويات سواء للمجاهدين أو لأعدائهم. وذكرهم بدروس الصدامات العسكرية الأولى مع جيش النظام الحاكم، وكيف أن المجاهدين عندما استولوا على أول موقع حكومي تشجع الناس وتجرؤا على مهاجمة الجيش وتدمير مواقعه وقوافله، فقد سقطت هيبة الجيش والنظام وزاد أمل الناس في الانتصار عليهم. وقال حقاني ( إننا إذا هزمنا ـ لا قدر الله ـ فلن يجرؤ أحد بعد ذلك على أن يرفع السلاح في وجه الجيش الأحمر).
ثم وجه سؤالا إلى الرائد جولزراك:
ـ خبرني يا جولزاراك كيف يمكن أن يتصرف الروس في حربهم معنا ؟؟.
أخرج جولزاراك من جيبه خريطة عسكرية ونشرها أمام جلال الدين والقادة الآخرين وتحلق الرجال في دائرة يطالعون إشارات الرائد على خطوط خريطته الملونة، وآذانهم وعقولهم معلقة على كل كلمة تدور في المجلس، وأخذ الرائد يشرح بلهجته الهادئة وقد اكتسب وجهه صرامة معتادة في المواقف المصيرية كهذه، وأخذ ينقل عينيه الزرقاء الحادة مابين الخريطة وبين وجه حقاني والآخرين.
أخذ يشرح وكأنما يقرأ من كتاب قصة نثرية حفظها عن ظهر قلب، وكأنه عاد مرة أخرى كما كان قبلا مدرسا في أكاديمية كابل العسكرية:
ـ كما نتوقع جميعا فإن الروس سيدفعون قوة برية ضخمة إلى جرديز ثم يحاولون فتح الطريق إلى خوست ، وهذا شيء مؤكد، أما الشيء الآخر فهو الغطاء الجوى الكثيف الذي سيحمي القوة المتقدمة ويمهد لها الطريق ويتدخل عند أي مقاومة تعترضها.
سيقصف الطيران بعنف مواقعنا بين جرديز وسهل زورمات لتأمين قواتهم القادمة من غزني إلى جرديز التي ستبقى بها القوة يومين أو ثلاثة قبل أن تنطلق صوب خوست، في تلك المدة يكون الطيران قد أدى مهامه في استطلاع المنطقة وخطوط تقدم القوات وضرب المواقع المشتبه بها وإذا اكتشف مقر قيادتنا هذا فسوف يقصفه وقد يتدخل ضده بقوات خاصة محمولة جوا، والقرى القريبة من خط تحرك قواتهم سوف تقصف حتى يرغموا الناس على الفرار حتى لا يختبئ بينهم مجاهدون.
القوات المتقدمة صوب خوست ستكون تحت غطاء من طائرات الهيلوكبتر، تلك الطائرات قد تنثر ألغاما على الطرق الفرعية التي قد يستخدمها رجالنا لعرقلة حركتنا، وأيضا للتأثير على معنويات السكان عندما يصابون هم أيضا، وللتأثير أكثر على معنوياتنا فإنهم قد يحاولون تدبير عمليات اغتيال ضد مستويات قياداتنا الكبيرة أو المتوسطة.
وقد يلجؤون إلى استخدام الغازات السامة ضدنا، وهذه الغازات يمكننا بسهولة تفادى تأثيرها علينا بإتباع إرشادات قليلة لأن مناطقنا جبلية وتعوق حركة الغازات مع الريح.
ولكن الجهل بهذا السلاح قد يحدث تأثيرا معنويا سيئا بين رجالنا.
استمر جولزراك في شرح تفاصيل دقيقة يتوقع حدوثها حتى لا يفاجأ قادة الفصائل بتصرف غير متوقع من العدو قد يؤدى إلى إرباكهم.
وما أن انتهى من شرحه حتى بادره جلال الدين بسؤال آخر قائلا:
ـ أخبرني يا جولزاراك كيف يتوقع الروس أن تكون مواجهتنا لهم؟؟.
رد لرائد على الفور:
ـ لن يتوقع الروس تغييرا كبيرا في أسلوب قتال المجاهدين، صحيح أن بعض الأسلحة الثقيلة قد وقعت في أيدينا من الجيش، ولكن عدم توفر ذخائر كافية لها يحد من فعاليتها في المواجهات الطويلة، هذا إلى جانب قدرة طائرات الهيلوكبتر على تحديد مصادر النيران الثقيلة وتدميرها، فإذا استخدمنا مدافعنا في التاسعة صباحا فعند الساعة العاشرة سنكون قد خسرناها جميعا.
هم يتوقعون منا أن نضع كمائن صغيرة حول جرديز في الطريق القادم من زورمات والطريق الذاهب إلى خوست، كمائن صغيرة مزودة بقواذف صاروخية ضد الدبابات وألغام تبث على الطريق وأسلحة خفيفة، هم يعرفون شجاعة المجاهدين في المواجهة كما يعلمون محدودية ذخائرنا وانكشافنا أمام هجمات الطيران.
سأله حقاني : حسنا يا جولزاراك هل يمكننا أن نفاجئهم بشيء جديد؟.
فأجابه الرائد بسرعة:
ـ بالطبع نستطيع، يمكننا مثلا ترتيب هجمات ليلية مركزة، ويمكننا تجميع رجالنا من الكمائن والضرب بهم في نقطة منعزلة للعدو، ستكون خسائرهم كبيرة ونحن أقدر منهم على ذلك النوع من الحروب.
أجاب حقاني:
ـ هذا صحيح يا جولزاراك..هل يوافق باقي الإخوة على تصورات جولزاراك؟؟.
أبدى الجميع موافقتهم على ما جاء في تقرير الرائد، سوى بعض الملاحظات أو الاستفسارات الهامشية، فواصل جلال الدين قائلا:
ـ إن ما أريده هو أن يستمر الروس في الاعتقاد بأننا على نفس طريقتنا القديمة، ولتأكيد ذلك فسوف نقوم خلال الأسابيع القادمة وإلى أن يبدأ الجليد في الذوبان بشن غارات على حاميات خوست وجرديز، وستظهر لنا كمائن على طول الطرق التي ذكرها جولزراك. حتى يظن الروس أن كل شيء يسير على النمط الذي ألفوه منا طول العشرين شهرا الماضية.
نهض جلال الدين قائلا:
ـ توكلنا على الله، إن ينصركم الله فلا غالب لكم، علينا أن نبدأ عملنا من الآن، فليتوجه قادة الفصائل إلى مناطقهم لوضع الترتيبات اللازمة.
بدأ الجمع ينفض، وأخذ جلال الدين بلجام دابته بيسراه وراح يعدل بيده اليمنى وضع بندقيته العتيقة على كتفه، فاقترب منه جولزراك وهمس في أذنه قائلا:
ـ مولوى صاحب.. أنت لم تأمر بتكثيف الكمائن على طريق خوست!!.
فأجابه باقتضاب:
لن نكثف الكمائن فذلك ليس ضروريا.
بدت الدهشة على وجه الضابط، وواصل التساؤل بلهجته المهذبة:
ـ أخشى أن يكون ذلك ضروريا لصد الهجوم على خوست.
صعد جلال الدين على ظهر دابته ونظر في وجه الضابط الشاب، وقال وهو يحث دابته على المسير:
ـ ليس هذا ضروريا للدفاع عن خوست يا جولزاراك.. لأننا لن ندعهم يصلون إلى جرديز نفسها.
اتسعت عينا جولزراك من الدهشة ووقف ينظر بذهول إلى جلال الدين وهو يمضى بدابته في اتجاه جرديز.
ممنوع قتال الهيلوكبتر
ألصق خليل /شقيق حقاني الأصغر/ جسده إلى الصخور بجوار أخيه الأكبر إبراهيم، بينما تطايرت طلقات الهيلوكبتر قريبا من قدميه، تصاعد الغبار وتناثرت فروع الأشجار الصغيرة فوق جسد الأخوين، وما أن ابتعدت الطائرة قليلا حتى أنتفض خليل غاضبا ووقف يصوب بندقيته الروسية في اتجاه الطائرة ويطلق طلقة قصيرة وهو يلعن ويصيح:
ـ عليك اللعنة يا خنزير!!.
جر إبراهيم أخاه الأصغر خليل إلى أسفل الصخرة وهو يصيح فيه:
ـ هل أنت مجنون !! سيقتلك حتما.. طلقاتك لن تؤثر فيه.
صرخ خليل بانفعال أشد وقد أندفع الدم في وجهه الأبيض، وقد علت الأتربة شعيرات قليلة نبتت في أجزاء من وجنتيه، وملابسه كلها ذهب لونها الأصلي:
ـ أخبر جلال الدين أنني سأضع الدوشيكا على رأس الجبل وأطلق النار على هؤلاء الكلاب.. لماذا يمنعنا من قتال الهيلوكبتر؟؟.. هل أصبح جلال الدين يخاف من الروس ؟؟.
أجاب إبراهيم بمزيج من الغضب والاستخفاف بأخيه الأصغر:
ـ أنت جننت بلا شك… جلال الدين يخطط لمعركة كبرى، فماذا تعرف أنت عن فنون القتال؟ أنت طفل صغير ولو أنني تزوجت لأنجبت طفلا في مثل عمرك.
صرخ خليل بأعلى صوته حتى كاد يحجب صوت الانفجارات لقريبة:
ـ وأنت أيضا صغير .. كم عمرك؟؟ عشرون واحد وعشرون ؟ جلال الدين أكبر منك بخمسة عشر سنة، أما إسماعيل فأكبر منك بأكثر من …
قطع صياح الأخوين الصوت العريض الهادئ للمجاهد “عبد الباري” وهو عريف سابق في الجيش، لقد جذبه نحوهما ذلك الصراخ المدوي المتبادل، قال بصوته المميز:
ـ ما بالكما هل أصيب أحد منكما؟؟.
ضحك إبراهيم وهو يشير إلى شقيقه الأصغر:
ـ لاشيء غير أن هذا الغلام فقد عقله ويريد أن يخالف أوامر جلال الدين ويضع الدوشيكا على رأس الجبل ويضرب على الهيلوكبتر.
ابتسم عبد الباري وانفرجت أسارير وجهة ذو الملامح القوية الطيبة:
ـ لا بأس عليك يا خليل.. قريبا سيصدر جلال الدين أوامره بذلك.. أنا لم أشاهد قبلا مثل ذلك القصف الجوى العنيف، أنهم يبدؤون من السابعة صباحا ولا ينتهون إلا في الخامسة مساء، إنهم يقصفون جميع المنطقة، من خوست وحتى زورمات .. يا إلهي .. لقد أرسلت موسكو كل طائراتها إلينا هنا في باكتيا.
مسح عبد الباري لحيته السوداء المرسلة وأخذ ينظر إلى طائرات الهيلوكبتر وهى تقصف موقع قريب، وتمتم قائلا:
ـ الأغبياء ليس هناك أحد .. هل يريدون اقتلاع الجبل ؟؟.
ثم واصل وكأنه يحدث نفسه:
ـ هل علمتم ؟؟. لقد رموا شراكا خداعية على جبل في غرب خوست، كانت على شكل جراد أخضر.. لقد وقع أحد الرعاة وقطيعة وسط الألغام، لقد قتل عشرون خروفا.. وفقد ابن الراعي ساقه.. مسكين.. طفل مسكين.
وسرح عبد الباري بنظره بعيدا وهو شارد يردد الجملة نفسها: مسكين.. طفل مسكين..
ارتسمت في مخيلته صورة عائلته التي تركها في بلده مزار شريف… أمه العجوز وزوجته وطفله الصغير (نسيم). ماذا حدث لهم الآن؟.. لقد مر عام ونصف منذ أن هرب من الجيش وكان يخدم في خوست فانضم إلى المجاهدين وصار واحدا من أشهر مجاهدي باكتيا.
فكر أن عائلته ربما فقدت الأمل في عودته، هو لا يعرف عنهم شيئا وهم لا يدرون أميت هو أم حى؟ كم يشتاق إلى طفله نسيم ويتمنى لو يضمه إلى صدره ويقبله… مسكين.. طفل مسكين. ظل عبد البارى يردد بلا وعى منه وشعوره غائب تماما عمن حوله.
استيقظ من أحلامه على صوت خليل:
ـ هيه .. عبد الباري أين أنت؟؟.
رد وهو لم يرجع بالكامل إلى الدنيا التي حوله:
ـ غدا سأكون في شاهي كوت مع خمسين رجلا.
ذهل إبراهيم وصاح مندهشا ومصدوما:
ـ شاهي كوت ؟؟.. في زورمات؟؟ .. لماذا؟؟.
ـ لست أدرى.. إنها أوامر مولوي صاحب، لن ننزل إلى القرية المدمرة بل سنبقى في الجبال التي خلفها حتى تصلنا أوامر جلال الدين.
خبط إبراهيم بيده على جبهته وقال وقد أربكته الدهشة فلم يعد يدرى ماذا يقول:
ـ شاهي كوت!! غير معقول!! أنت أفضل رامي للصواريخ ضد الدبابات.. ماذا ستفعل هناك؟؟ وكيف تذهب مع مجموعتك كلها؟. سهل زورمات لا يدرك البصر نهايته.. وعليك أن تسير ساعات قبل أن تكون الدبابة على مرمى سلاحك، هذا جنون .. لن تنجح..
هز عبد الباري كتفيه غير مبالي بقول إبراهيم، وقال باستهانة:
ـ لا أدرى .. هكذا يريد “مولوى صاحب” جلال الدين، إنه يدبر شيئا ما.
كان عبد الباري على حق فهناك شيء ما يدبره جلال الدين.
مرت أربعة أيام طويلة وطائرات الهيلوكبتر الروسية الحديثة من طراز (مى 24) لا تكاد تهدأ، لقد قصفت كل شيء وكل مكان يمكن أن يختبئ به إنسان، ومعظم القرى حتى في عمق الجبال طالها القصف والتدمير، إنه التمهيد الجوى العنيف للقوات الروسية المهاجمة يجرى، تماما كما توقع جولزراك.
أصدر جلال الدين أوامره بإخفاء السلاح الثقيل في أماكن حددها بنفسه، جولزراك وحده كان يعلم أن ذلك مرتبط بخطة يجرى الإعداد لها بسرية مطلقة.
المعركة الأولى مع الروس
وصلت أنباء القوة الروسية التي وصلت إلى غزني وأنها تتجهز للحركة صوب جرديز.
اجتمع جلال الدين مع قادة الفصائل وأعطاهم الأوامر بما يجب عليهم أن يفعلوه طوال اليوم وإلى أن يحين موعد المعركة.
على المجاهدين أن يبدأ انتشارهم من طرف وادي زورمات القريب من جرديز وحتى الجزء من الوادي المقابل لقرية شاهي كوت.
في الصباح من المتوقع أن تقوم الطائرات بقصف جانبي الطريق الذي ستتقدم علية القوات الروسية.
وعلى المجاهدين الابتعاد عن تلك المنطقة إلى أن ينتهي القصف، ثم يبدؤون في احتلال مواقعهم عندما تتقدم قوات جرديز في التحرك صوب سهل زورمات، أو أن تصل قوات العدو من غزني وتقترب بالفعل من جرديز.
هنا تساءل قادة الفصائل في دهشة:
ـ نحن نتوقع أن تأتى القوة الروسية إلى جرديز ، لا أن تخرج قوة من جرديز إلى سهل زورمت. وفي وضع كهذا نحن نناوش لكن لا نهاجم بقوة في أرض مكشوفة كهذه.
أجابهم جلال الدين:
ـ إن ذلك ما يتوقعه الروس أيضا…لذا سنهاجمهم في المكان الذي لا يتوقعون أن نهاجمهم فيه وهو سهل زرمات، وفي الوقت الذي لا يتوقعون أبدا أن يروننا فيه.. في الصباح!!
مواجهة في الوادى الفسيح
في منتصف الليل تسلل المجاهدون في وحدات صغيرة من قرية “شاهي كوت” متجهين إلى سهل زورمات الفسيح، على جانبي الطريق الذي يخترق الوادي تخير المجاهدون مواقعهم بعناية شديدة وتوزعوا في مجموعات صغيرة على امتداد خمسة كيلومترات، وصل عددهم إلى مائتي مجاهد، كان الطريق في مرمى بنادقهم، ولم يزرعوا ألغاما في الطريق، كان المطلوب فقط تمويه الرجال الكامنين فغطاهم إخوانهم بفروع الأشجار والأعشاب ، وحتى بالتراب والأشواك، وذلك حتى لا يكتشف العدو أمرهم فيتعرضون للإبادة وتفشل الخطة كلها، وهكذا قضى هؤلاء الرجال ليلتهم حتى الصباح.
بدأت طائرات الهليوكوبتر عملها منذ الصباح الباكر في استكشاف الوادي وقصف الممر الواصل إلى جرديز، استمر هذا النشاط حتى العاشرة صباحا، حين أطلت القوت الروسية من بعيد، وصلت ثلاث مصفحات خفيفة تسير مسرعة وتخطت كمائن الرجال حتى وصلت إلى طرف الطريق من ناحية جرديز، وأخذت تطلق نيرانها على الصخور وسارت فترة صوب المدينة ثم استدارت راجعة من حيث أتت، تقدمت القوة في طريقها نحو المدينة واستمرت الهيلوكبتر تحلق فوقها ثم تتخطاها حتى الممر وهناك تطلق زخات طويلة من نيرانها ثم تستدير راجعة.
توقفت القافلة قليلا حتى أنهت الطائرات تفتيشها وقصفها، ثم استأنفت مسيرها بعد أن اطمأنت إلى سلامة الطريق.
وصلت الدبابة الأولى أمام موقع “عبد الباري” وكان هو المكلف بتحديد بداية المعركة.
تململ عبد الباري تحت أكوام التراب والشوك الذي يغطيه، تمتم بصوت خفيض بكلمات الدعاء الذي علمه إياه جلال الدين (بسم الله توكلت على الله وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ثم صاح بصوته الجهوري معلنا بدء المعركة: الله أكبر …
أطلق قذيفته الأولى على الدبابة المواجهة له، فأطاح ببرجها في الهواء ثم انفجرت.
وعلى طول خمسة كيلومترات هي طول الكمين توالت انفجارات الدبابات وعربات الذخيرة، وفي دقائق عمت الفوضى في صفوف القوة الروسية واستدارت مؤخرتها ولاذت بالفرار عائدة إلى غزني من حيث أتت، المركبات التي في المقدمة حاولت تخطى الحطام والفرار إلى جرديز، ولكن ألغاما كانت قد زرعت ومعها كمائن للمجاهدين نصبت على عجل من أجل قطع الاتصال بين المدينة والقوة الواقعة تحت الهجوم، وقعت تلك المركبات في الكمين ولم يفلت منها إلا القليل، وحتى النجدة التي حاولت التحرك من جرديز وقعت في الألغام والكمائن فاضطربت وسادها التردد ثم تراجعت حتى ينجلي الأمر.
تشتت جنود العدو والعديد من آلياته بلا نظام في اتجاهات متعددة وحاولت طائرات الهيلوكبتر مساعدتهم ولكن في أجواء الفوضى العارمة كان مجهودها ضائعا في معظمه، وأصيبت إحدى الطائرات وسقطت في الوادي وذهب بعضها إلى جرديز وعدد آخر عاد في اتجاه غزني والعاصمة.
عند حلول الظلام كانت المعركة تشارف نهايتها، لقد تحطمت القافلة وفشلت الهجمات المضادة التي حاولت التدخل والإنقاذ، أخذ المجاهدون في إخلاء الجرحى والشهداء منساحة المعركة، أما الغنائم فقد كانت كبيرة جدا، وكان يجب جمعها بسرعة قبل أن تأتى الطائرات لتدميرها في الصباح، أو تأتى قوة جديدة من جرديز أو غزني كي تسحب خسائرها وتطارد المجاهدين الذين أرهقتهم معركة الأمس.
كان عدد الشهداء في المعركة أربعون شهيدا والجرحى حوالي التسعين.
ابتسم جلال الدين عندما أحضروا له من الغنائم عدة أسلحة حديثة من بينها بنادق قناصة مزودة بمناظير مقربة، وبنادق رشاشة قصيرة لا يحملها إلا الضباط الكبار من الروس.
أخذ جلال الدين يتفحص البنادق ويقلبها بين يديه بإعجاب.
ثم تذكر ذلك الرجل الذي سأله ذات يوم عن موعد قدوم الروس حتى يغنم منهم بندقية كهذه، فقال لمن حوله:
ـ بندقية القناصة هذه من نصيب (سميع الله) فقد وعدته بها، أما هذا الرشاش الحديث فإنه لعبد الباري الذي بدأ بقذيفته هذا الانتصار الكبير.
إلى جواره كان يقف مولوى عبد الرحمن مطرقا برأسه قائلا بنبرة يغالب فيها البكاء:
ـ يرحمهما الله.. لقد استشهد الرجلان.
الهدية
وقف جلال الدين تحت شجرة ضخمة فوق جبل مطل على “شاهى كوت” وكان يتهيأ للرحيل صوب مدينة الأورجون، إلى جانبه كان يقف جولزراك ومولوى عبد الرحمن، أخذ يسوى ملابسه ويعدل من وضع حزام الطلقات وبندقيته العتيقة فوق كتفه، وتوجه بكلامه إلى الرجلين:
ـ الآن أترك باكتيا وأنا على يقين من أنه لا أحد من الناس يخشى الجيش الروسي، لقد تحطمت سمعتهم ولن يهزموننا أبدا بعد ذلك بإذن الله، ومهما حشدوا لنا من قوة بعد ذلك فلن يتراجع أمامهم أحد.
أنا متوجه اليوم إلى أورجون فالقتال هناك شديد منذ أيام وسمعت أن مولوى أرسلان مريض.
ودعه الرجلان وانصرفا، ثم تقدم إليه شقيقاه إبراهيم وخليل.
تفرس في وجه شقيقه الأصغر وخاطبه بإشفاق:
ـ ما بك يا خليل؟؟ .. هل أنت مريض؟؟. أرى عيناك حمراء ومتورمة.
أجابه الفتى بصوت ضعيف ومنهك:
ـ أبدا مولوى صاحب .. ولكنني لم أنم جيدا ليلة أمس.
ولكن إبراهيم فسر الأمر لأخيه الأكبر قائلا:
ـ لقد بكى خليل كثيرا في الليل، إنه فقد أصدقاء كثيرين في معركة الأمس، كانوا من الشهداء، وقد تأثر كثيرا بفقد عبد الباري.
رد جلال الدين بعطف:
ـ هؤلاء الشهداء هم السعداء، إنهم الآن في جنة الخلد أحياء عند ربهم يرزقون، نألم لفراقهم ولكن لانحزن عليهم بل نغبطهم ونفرح لهم ونتمنى اللحاق بهم.
رد خليل بتأثر:
ـ كان عبد الباري يحلم بابنه كثيرا ويتمنى رؤيته، وها هو يدفن غريبا عن بلده وأسرته.
رد حقاني برفق:
ـ نسأل الله لأسرته الصبر وأن يعوضهم عنه خيرا، وأنت انتبه لنفسك وصحتك ولا تترك نفسك للأحزان فالحرب لم تنته بعد وطريق الجهاد طويل.
ودع جلال الدين أخواه وأخذ يهبط الجبل بهدوء. وما أن ابتعد قليلا حتى صاح عليه خليل: ـ مولوى صاحب هل يمكنني استخدام الدوشيكا ضد الطائرات.
التفت جلال الدين مبتسما وقال بصوت عال:
ـ بالطبع يمكنك ذلك.. فلأجل ذلك وضعناك على الجبل.
كاد خليل لأن يطير من الفرح، فصاح منتشيا:
ـ وإذا أسقطت طائرة هل تمنحني بندقية جديدة؟؟.
رد حقاني والابتسامة لم تغادر شفتيه:
ـ بل سأزوجك فتاة جميلة.
أحمر وجه الفتى خجلا وسكت وهو يتوارى من نظرات شقيقه إبراهيم الذي أغرق في الضحك حتى جلس على الأرض ممسكا بطنه.
بقلم :
مصطفي حامد ابو الوليد المصري
copyright@mustafahamed.com
المصدر :
موقع مجلة الصمود (إمارة أفغانستان الإسلامية) عدد 46
http://124.217.252.55/~alsomo2