“القاعدة” والقتال فى السعودية
السلفية الجهادية (خطوة على الطريق) وليست (نهاية الطريق)
ـ بقلم : مصطفى حامد ـ
تسأل السيدة “فارال” عن قتال القاعدة داخل السعودية : هل هو جائز؟؟ . وهل خدم الجهاد أم لا ؟؟.
أقول أنه إذا كان المقصود هو ( حلال أم حرام) فذلك ليس إختصاصى . لى فى ذلك رأى ولكن لا أفتى به
أحدا غيرى. وحسب علمى فإن القتال ليس أمرا مرغوبا فيه أيا كان موضعه. أما الأماكن التى له صفة قدسية فإنه يصبح ثقيلا جدا على النفس. ولكن المسلمين قاتلوا سابقا فى تلك الأماكن المقدسة. وفى ظروف كان بعضها صحيح شرعا وبعضه الآخر خارج عن الصحة الشرعية.
وآل سعود أنفسهم سفكوا الكثير من الدماء بدون وجه حق . واستولوا على نجد والحجاز بمعونة مباشرة من الإنجليز فوق بحر من الدماء. فليس لهم الآن أن يتكلموا فى الحلال والحرام. أما الأماكن المقدسة فهم ينتهكونها بشكل ثابت ودائم. بل أنهم جلبوا قوات فرنسية كى يقتلوا جهيمان وجماعته فى داخل الحرم المكى فى عام 1979.
من الممكن القول أن التخلص من حكم آل سعود وإقامة حكم إسلامى صحيح فى كل جزيرة العرب هو أمر صحيح عقلا ومن واجب كل مسلم أن يسعى إليه. وأسباب ذلك لا تكاد تحصى وجميعها أسباب جوهرية.
ولا تختلف السعودية عن باقى الدول العربية فى كون نظامها السياسى فاقد لأى شرعية دينية أو سياسية. وذلك ليس بقول (المتطرفين) الجهاديين فقط ، بل هو أيضا قول مفكرين علمانيين من أمثال “هيكل” الصحفى والكاتب العربى الأشهر.
يبقى إذن سؤال: هل أن قتال القاعدة فى السعودية خدم قضية الجهاد أم لا ؟؟.
فتكون الإجابة فورا : بالطبع لا .
والسبب أنه قتال يفتقد إلى الرؤية السياسية وإلى الإستراتيجية. كونه قد نشأ فى البيئة الفكرية التى تحدثنا عنها سابقا، والتى تخلط الإستراتيجية بالتكتيك، والخطة بالإنفعال العاطفى والمزاج الشخصى العابر.
والخطر هو أن ذلك الجهاد بدأ وسط مزاج سائد فى الوسط الجهادى منذ حرب أفغانستان يرى أن البندقية والعبوة المتفجرة هما فقط الوسائل المعتمدة للتغيير فى كل زمان ومكان. حتى أصبح الجهاد رديفا للحزام الناسف والسيارة المفخخة. وتلك كارثة حقيقية وعشوائية قاتلة، فالحرب ليست كذلك. فمن قال أن تغيير الحكم يحتاج حتما إلى تلك الوسائل. أو أن حمل السلاح هو خيار وحيد وحتمى.
إقرار الوسائل اللازمة لتغيير النظام يجب أن يخضع لدراسة معمقة ومعرفة شاملة بالوضع المحلى وما يحيط به من بيئة محلية وأوضاع دولية. وبعدها تقرر الوسيلة اللازمة للتغيير. فقد يكون النظام القائم غير شرعى وغير آدمى ومن الضرورى التخلص منه فى أقرب وقت وبأى وسيلة ممكنه. ولكن ظروفا داخلية قد تمنع من ذلك ولو إلى حين . كأن يكون الشعب غير مستعد لخوض غمار مواجهة مع النظام. أو أن شعارات الثوريين غير مقبولة شعبيا. أو أن البيئة الإقليمية أو الدولية تعرقل بشدة ذك العمل بينما قوى التغيير فى الداخل تحتاج إلى عون من الجوار أو إلى المزيد من التعبئة والتجهيز.
حتما أن أى دراسة من هذا النوع لم تجهز أوتبحث قبل الشروع بالعمل فى السعودية أو أى منطقة عملت فيها السلفيات الجهادية.
فمن المعروف أن للتغيير العنيف ثلاث وسائل مشهورة هى: الإنقلاب العسكرى ـ العصيان المدنى أو الثورة الشعبية ـ حرب العصابات طويلة الأمد.
هذا على وجه الإجمال وقد توجد صور معدلة أو حتى مبتكرة ( تفاصيل حول ذلك موجودة فى كتاب حرب المطاريد غير التقليدية) . أما ما يقوم به الشباب الجهادى الآن، خاصة السلفية الجهادية، فهو أسلوب يعرف بالحرب الإرهابية. وأساسها العمل داخل المدن بعمليات إغتيال وتخريب وتفجيرات. فإما أن يكون ذلك ضمن حرب عصابات طويلة الأمد وعادة يكون الهدف النهائى منها هو إسقاط النظام الحاكم أو طرد المحتل الأجنبى أو كلاهما معا ( كحالة العراق وأفغانستان الآن، وفيتنام والجزائر وكوبا فى الماضى) أى أن النتائج هنا جذرية وحاسمة. أما إذا حدثت منفردة وغير مصحوبة بحرب عصابات فيكون الهدف هو إرغام النظام الحاكم على تقديم تنازلات محدودة تتعلق بحقوق أقليات عرقية أو دينية أو الضغط من أجل الحصول على حكم ذاتى فى إقليم محدد ( إيرلندا والباسك فى أوروبا) أى أن نتائجها غير جذرية.
وهناك مسألة هامة لايلتفت إليها كثيرين، وهى أن أساليب القتال يجب أن تكون مسايرة لتقاليد الشعب وتراثه الثقافى والدينى. وحرب الإرهاب ثبت أنها بعيدة عن مزاج الشعوب الإسلامية وينتج عنها نفرة شعبية كبيرة. وهذا ما نشاهده الآن حيثما إستخدم ذلك الأسلوب. ولا يعنى ذلك إستبعاد ذلك الأسلوب بالكامل فقد يكون ذلك ضار أيضا. بل المطلوب إستخدامه بحذر شديد وعناية بالأرواح العامة للناس إلى أبعد مدى. وأيضا حسابات سياسية فوق العادة.
أما ما نشاهده فى العراق مثلا فهو فى أغلبه غير مقبول أبدا ولامفيد. والأرجح أن معظم تلك العمليات هى من تدبير أجهزة إستخبارات معادية لشعب العراق. وهنا تكمن خطورة أخرى لحرب الإرهاب كونها تتيح فرصا ذهبية لتلك الأجهزة لتوجيه ضربات تحت الحزام والقيام بعمليات مشابهة لعمليات المقاومة تضرب أهدافا شعبية فتؤدى إلى فصل عرى الترابط بين المقاومة وعمقها الشعبى. ونرى الكثير من ذلك الآن فى العراق وباكستان.
وحتى إستخدام حرب الإرهاب على أرض العدو نفسه لاتخلو من حسابات سياسية دقيقة. لأن كسب تعاطف شعوب الأنظمة المعادية هو مسألة هامة تستحق وضعها فى الحسبان. ولكن فى حالة الحروب المفتوحة فإن إستهداف السكان والأهداف المدنية فيكون خاضعا لحسابات الردع المتبادل بين الفريقين المتحاربين.
# عندما أعلن بن لادن الجهاد على الأمريكيين فى بلاد الحرمين الشريفين فى عام 1996 كان يقصد إستهداف الجيش الأمريكى تحديدا. وطلب فى بيانه عدم التعرض لمصالح أو أفراد سعوديين. وعندما سأله بعض القادة من الجهاديين السلفيين من خارج القاعدة عن الحال إذا تعرض الأمن السعودى للشباب المجاهدين محاولا القبض عليهم، فهل يقاومون أم يستسلمون ؟؟. فكانت إجابته بأن يستسلمون. فثارت عاصفة وقالوا له إذن من الأحسن ألا تبدأ. فالأمن السعودى سيلقى القبض على الشباب ويعذبهم ويعذب عائلاتهم كالعادة. وهكذا يرتدع الشباب عن العمل طالما ليس لهم الحق فى مقاومة الأمن أو معاقبته.
هنا وجد بن لادن نفسه بين نارين. فإن هو منع الشباب عن مقاومة الأمن أصبح جهادهم عبثا لأنهم لن يصلوا أبدا إلى الأهداف الأمريكية بدون المرور على حواجز وحراسات الأمن السعودى. وإن هو صرح بمقاومة رجال الأمن، ثار عليه العلماء والتجار وقلبوا عليه الرأى العام ونعتوه بالمفسد فى الأرض وسافك الدم الحرام.
وأخيرا وجد الحل فى أسلوب (الحرب الخارجية) أى ضرب الأمريكيين خارج جزيرة العرب ليرغمهم على الجلاء عنها. ثم خرج بنظرية عجيبة تحمس لها كثيرا فقال إن أمريكا لن تتحمل منه ضرتان أو ثلاث بعدها تنسحب من السعودية كما فعلت فى لبنان عام 1983.
فكانت الضربة الأولى مزدوجة ضد سفارتين أمريكيتين فى أفريقيا عام 1998.
والضربة الثانية كانت ضد المدمرة الأمريكية “كول” فى ميناء عدن عام 2000 .
والضربة الثالثة كانت ضد أبراج التجارة العالمية فى نيويورك عام 2001 .
ثلاث ضربات كاملة ولكن أمريكا لم تخرج من السعودية بل أحتلت بلدين مسلمين إضافيين هما أفغانستان والعراق.
فى داخل السعودية تحرك الأمن السعودى ضمن إطار الإستراتيجية الأمريكية العالمية فى العدوان على المسلمين فى كل مكان تحت الشعار المخادع (الحرب على الإرهاب). فطارد الشباب الجهادى الذى حاول ضرب الأمريكيين داخل المملكة أو حتى لمجرد الإشتباه فى نواياهم فعل ذلك. فكان القتال وجها لوجه أو خوض حرب إرهاب داخل المدن بهدف الردع هو ضرورة أملاها الأمر الواقع ولم يكن بحال من توجيهات بن لادن. ولربما أقرته وفرضته قيادات ميدانية صغيرة إستجابة لمتطلبات الوضع الميدانى المباشر.
وقد حدث قبلا شيئ مشابه لذلك ، ولكن بمقياس أكبر، فى الصدام بين الأمن المصرى والمجموعات الجهادية.
وكان زمام المبادرة والتخطيط للعمليات بل وإفتعال أكثر الأحداث بيد الأمن المصرى. وكان للإعلام دور كبير فى تضليل الرأى العام وتصوير كل شيئ على خلاف الواقع. حتى فقدت المجموعات الجهادية زمام المبادرة بالكامل وكانت هزيمتها شاملة. وقد نقلت التجربة الأمنية بالكامل إلى الأمن السعودى وزادت عليها الخبرة الإسرائيلية فى مكافحة المقاومين الفلسطينيين ( سيدة فارال، تلك حقيقة وليس من تطبيقات نظرية المؤامرة).
ويمكن قول شيئ مشابه عن المقاومة السلفية فى العراق. فلم يكن هناك إستراتيجية محددة، بل مبادرات لقيادات ميدانية فرضت رؤيتها على قياداتها العليا أو أنها إستجابت لتحديات الميدان الذى فرض عليها رؤية معينة.
ولم يكن للقاعدة أو أسامة بن لادن دورا فى ذلك سوى الإسناد الإعلامى المتبادل.
وفى الجزائر القصة مشابهة لذلك فى خطوطها العامة.
الرؤية مفقودة والإسترتيجية غائبة والتكتيك مرتجل.. وهذا هو كل شيئ.
نفس أوجه القصور التى بدأت مع القاعدة منذ معركة جاجى فى 1987 مازالت مستمرة إلى الآن فى 2009.
لايعنى ذلك أن تجربة القاعدة وأخوانها من السلفية الجهادية كانت خالية من الإيجابيات فذلك قطعا غير صحيح.
فقد أسهمت فى يقظة الروح الجهادية، وساهمت فى الإبقاء على فريضة الجهاد حية وفعالة كوسيلة دفاع عن الأمة الإسلامية بمعناها الواسع. وما زالت القاعدة هى الوحيدة فى العالم الإسلامى التى تجاهد من منطلق أممى عابر للقطرية التى إنكفأ إليها الجميع عمليا وإن إنتقدها البعض نظريا. وقد أثبت الجهاد الإسلامى الأممى فعالية عظيمة فى فترة الجهاد ضد السوفييت فى أفغانستان. وأعطى إيجابيات على أرض المعارك يستحيل نكرانها، وإن كانت أقل بكثير مما كان يفترض أن يكون.
القاعدة والسلفية الجهادية أبقت قيم الشجاعة والبطولة والفداء والتضحية مرفوعة فى أمة الإسلام فى وقت بذلت فيه جهود جبارة وأنفقت المليارات من أجل طمس تلك القيم وإزالتها من مجتمعات المسلمين، وإشاعة قيم أخرى بديلة مثل الميوعة والتحلل وعبادة المال والشهوات.
بحثت القاعدة والسلفية الجهادية عن الإلتزام القوى الصارم بقيم الإسلام النقى بعيدا عن كافة الشوائب وعن النفعية والإرتزاق. وقد نجحت فى بعض ذلك وأخفقت فى بعضه ولكنها على الأقل أبقت تلك الأهداف السامية مرفوعة بعد أن كادت أن تندثر حتى فى العمل الإسلامى الملتزم.
بمجهودات القاعدة والتنظيمات السلفية الجهادية ـ وآخرين معهم ـ إنتشر جانبا هاما من المعارف العسكرية، وأكتسبت الأمة تجارب جديدة. واقتحمت بهم مجالات الحرب التى هى مبعث فخر وأمجاد العرب القدماء. وبدون تلك الروح الجسورة فلربما صار وضع شعوب العرب أسوأ ألف مرة مما هى عليه الآن.
وفى ظنى أنه من أسباب ( الحرب على الإرهاب) كان إنتزاع الخبرة العسكرية التى أكتسبت من الجهاد فى أفغانستان تحديدا، والتخلص من العناصر التى مارست الحرب هناك بشكل جدى وإكتسبت مهارات وخبرات ما كان الغرب يرغب فى وصولها إلى المسلمين عامة والشباب العربى بوجه أشد خصوصة. وأمن إسرائيل موجود بشدة فى ثنايا تلك الرغبة ( مع الإعتذار للسيدة فارال ولنظرية المؤامرة).
بمعسكرات التدريب/ التى أقامتها القاعدة أساسا/ فى أفغانستان، زادت الخبرات التدريبية بين المسلمين وإنتشرت فى أقطار شتى. وجعل ذلك من اللجوء إلى السلاح خيارا ممكنا فى معظم الأماكن. ذلك بعد أن كانت الشعوب الإسلامية قد غيبت عن السلاح لعقود أو قرون. حتى أصبح مجرد الإقتراب من السلاح من جرائم الأمن الخطيرة لدى الأنظمة التى أعقبت الحكم الإستعمارى. بينما التسليح الفردى مسموح به فى الغرب ويعتبر فى الولايات المتحدة من علامات الحرية الفردية فى المجتمع. وتوجد بين أيدى الأفراد هناك حوالى مئة وخمسين مليون قطعة سلاح فردى حسب أحد الإحصاءات.
ـ تلك بعض النقاط الإيجابية مع وجود تحفظ أن بعضها كان يجب أن يكون محددا بضوابط مختلفة لم يتم رعايتها. فأدى ذلك إلى سلبيات غلبت فى أكثر الأحيان على الإيجابيات نفسها.
على أى حال، فإن القاعدة والسلفية الجهادية كانت خطوة هامة ومعلما على نقلة إسلامية تاريخية فى سعى المسلمين الدؤوب لإستعادة حقوقهم وتحقيق هويتهم الخاصة وإستكمال شرائع دينهم التى غيبت عن مجرى الحياة العامة بقوة السلاح، وأصبحت مطاردة كأى فعل جنائى أو إجرامى.
ولكن تلك الخطوة ليست النهاية ـ ولا ينبغى لها أن تكون كذلك. فلا بد من تخطى السلبيات وتصحيح المسار وإستكمال النواقص حتى تستمر المسيرة بنجاح. فمسيرة الأمة ما زالت طويلة وشاقة. وهى أكبر من القدرات المنفردة لأى تنظيم أو جماعة أو قيادة . ولا يستطيع أحد أن يزعم أنه هو أو جماعته نهاية المطاف أو خاتمة المسير. فالطريق ما زال طويلا وشاقا وخطيرا جدا.
أظن أن كلامى ينتهى هنا .. ولكن الحوار لاينتهى أبدا. فنحن كمسلمين مأمورون بأن نحاور الآخرين بالتى هى أحسن. وأن نجنح للسلم كلما كان ذلك ممكنا. ونتمنى أن نحل جميع مشاكلنا ومشاكل البشرية جمعاء بالحوار العاقل والكلمة الطيبة. على أن يكون ذلك من موقع إمتلاك أسباب القوة ، وليس من موقعية الضعف المهين والإستسلام المذل.
فنحن ماضون إلى إمتلاك ناصية القوة وأسبابها مع إيماننا التام بأن أفضل إستخدام للقوة هو أن لا نضطر إلى إستخدامها بالفعل.
ونشكر السيدة فارال على صبرها فى متابعة تلك “الثرثرة الإرهابية” المطولة من جانب أحد المطاريد الخطرين، وهى على ذلك الصبر تستحق أكثر من شهادة دكتوراة.
بقلم: مصطفي حامد ابو الوليد المصري
المصدر: موقع مافا السياسي